خبز (كانَ) اللذيذ
منذر بدر حلّوم
حيث الاستبداد سيّد المكان، يعيش المحكومون بقبضتهِ مقلوبَ الحياة وليس الحياة نفسها، ويحدّدون خروجهم إلى الحياة بالتضاد مع هذا المقلوب. فهل تراهم يفعلون ذلك ساهين عن أنّ الأشياء التي تتعين بضدها تصطبغ بهذا الضد، فتكونه كما تكون مقلوبَه، أم مدركين لذلك؟ مقلوب الحياة، لا هو الموت ولا هو الحياة! إنّما هو شيء يصلح لأن يكون مقلوباً لا أكثر ولا أقل، وهو مكان لا يفيد معه الإصلاح الجزئي والإيهام بتعدد الألوان وخدع الضوء المحبوس، بل لا بد من الخروج منه إلى فضاء آخر يتحقق فيه شرط الحياة – الحرية، أي إلى منظومة أخرى.
مقلوب الحياة، يعبّر عن الحال التي كان السوريون يمضون فيها أعمارهم منذ أرخى البعث سدوله على الحياة السورية بعد ثورته المجيدة. انتبهوا إلى هذه الـ(كان)، يا لها من إنجاز سوري عظيم لايزال ساخناً، يُخبز كلَّ يوم، منذ شهر ونصف. خبزُ الـ(كان) اللذيذ، هذا الذي لم يتذوقه إلا قلة من الأحياء في سوريتنا من قبل، يُنتَج المزيدُ منه كل يوم. إنّه خبز يومنا الآن، وبنا حاجة إلى المزيد منه لنتعلّم كيف نعيش. لكن النار اللاهبة، واأسفاه، تحرق كثيراً منه، وتشوّه الباقي. وعلى الرغم من قسوة النار، فمِنْ (كان) و(كانوا)، بدأنا نخرج إلى (الآن) و(هنا)، باسطين مقلوب حياتنا على الأرصفة، باحثين عن الحياة فيه.
وأمّا الغد، فللأسف، لا مكان له في الشوارع وعلى الأرصفة بعد. مخيف أن لا يكون له مكان! فلا بد من زرع الغد في الشارع اليوم، أي لا بد من جعل الزمن يسير إلى الأمام، ولا بد، إذن، من تحديد اتجاه هذا الزمان. مشكلتنا، بوجود الأيديولوجيات والعقائد المغلقة، عصيبة مع اتجاه السهم. والشوارع التي يرقص فيها زمن الـ(كان) مصحوباً بالرصاص والدم، قد يشغلها زمن آخر، هو أقلّ من مقلوب حياة. فالبضاعة التي قد تبسط على أرصفة هكذا شوارع قد لا تصلح إلا للكهوف. إنّهم يرهبوننا بالكهوف، ناسين أنّنا في سوريا تجاوزنا الكهف من آلاف السنين ويصعب على العقل الأمني- السلفي إعادتنا إليه.
عودة إلى فكرة البعث: يعود العقل البعثي- الأمني، الذي هو وليد اقتران جهاز الحزب بأجهزة الأمن، يعود إلى فكرة البعث، وليس إلى البعث بوصفه حزباً سياسياً إنما إلى البعث المرتبط بفكرة الموت، البعث الذي لا يكون ما لم يكن الموت، يعود إليه باسطاً ذاكرة الثمانينيات، ويفرح لأدواته التي لم تصدأ بعد، على الرغم مما علق بها من دماء، والتي تبدو له قابلة للاستخدام مرّة أخرى بالكفاءة نفسها، ساهياً عن أن اللعبة التي أدارها بنجاح قاتلٍ آنذاك، وضمنت لكرسيه الاستقرار على دم متخثّرٍ ثلاثة عقود، قد تصبح قاتلة للجميع في دورتها الثانية. فقد تتحول بين أيدي لاعبين تنقصهم المهارة أو مستهترين بالقواعد، في ظروف معقدة وغامضة، إلى لعبة فناء لا تصلح لأية حياة بعدها، إلاّ إذا كان اللاعبون يرون في الوحشية صيغة مناسبة لحكم بشر متحضرين. وهكذا، فعلى أحد ما أن يسأل نفسه إن كانت سوريا، ليس فقط كواقع بل وكفكرة، تحتمل ثمانينيات ثانية؟ ما قد يُطمئن هو قدرة السوريين على تجاوز غريزة البقاء التي أُلجئوا إليها عبر عقود من القمع، تجاوُزها إلى عقل سياسي تعددي، مدني، تنموي، حضاري. وأمّا السياسة فلا تعيش في الظل. وإن تراءى لنا أنّها تعيش، فهي لا تنتج هناك إلا العفن. يتدرب السوريون، اليوم، على الخروج إلى الضوء. وفي الضوء، حتى اللحى لا تُخيف.
رجل الأمن، ضحية!؟ يا له من سؤال سوري يثير الغضب والقلق والحزن. فثمّة صورة نمطية ترسّخت في الذهن السوري المقموع، مفادها أنّ الشخص المسلّح المطلق اليد كان على الدوام طرفاً في معادلةِ موتٍ تسير باتجاه واحد. فإذا برجل الأمن يعود من لعبة الحياة والموت إلى حياة اللعبة وموتها، ويتأمل نفسه في هذه اللعبة. لكن الموتى لا يعودون من عالم الغيب ليخبروننا بالحقيقة. فاللعبة تنتهي مع السقوط. هذا ما يعرفه اللاعبون الكبار، وأمّا الصغار فعليهم أن يَقتِلوا ويُقتلوا..وربما كان بينهم من يجاهد في حبس الدمع! تلعبهم اللعبة فينلعبون ويموتون صامتين. وهنا وهناك، يوارون الثرى وسط حُزن وقلق وذهول.. وتتساءل عينان مطفأتان مفتوحتان: من الذي يقتلنا، نحن الذين نقتل عادة؟ قاتل المدنيين العزّل وقاتل الجيش وقاتل الأمن..ألف ألف ملعون.
حركة وصراخ: ومع رجال أمن وربما في مواجهتهم، يخرج بشرنا..يخرجون وهم لا يعرفون بعد كيف تكون الحياة، ويعرفون جيّداً، في الآن نفسه، أنّ هذا الشيء الذي يعيشونه ليس هو الحياة، وأنّ الطريق الذي يَخطُون فيه متحدّين خوفهم قد ينتهي بموتهم. ومن أجل التأكد من أنّهم أحياء، يلجؤون إلى أبسط الاختبارات. فلمّا كانت الحياة تعرف بأمرين: بالحركة الذاتية- في اختلافها عن الحركة السلبية المدفوعة أو المجرورة أو المحمولة- وبالتضاعف الذاتي. فليكن، إذن، النزول إلى الشارع والصراخ، وشيئاً فشيئاً تتضاعف أعداد النازلين الرافعين أصواتهم إلى فوق. الحركة الذاتية المستقلة والصراخ، اختباران أوّليان بسيطان، بإمكان المرء إذا تجاوزهما أن يقول: أنا حي.
الشعب السوري حي! تأمّلوا مغزى هذا الإنجاز بعد نصف قرن من حكم البعث! وهكذا، فالخروج، في سوريا، فعل حياة بحد ذاته، بصرف النظر عن الكيفية التي يتم بها وعن نتائجه. وقد أنجزَ خروجُ السوريين إلى الشارع أمرَ التحقق من خاصية الحياة عند الشعب السوري في اليوم الثاني لحصوله، يوم تأكّدَ كفعلٍ مُوعى، وتأكّدَ إنجازُه بصورة قاطعة في الأيام التالية، وخاصة في مواجهة الحديد والنار. الشباب، هنا في سوريا، يعيدون اكتشاف خاصية الحياة في الإنسان عبر المؤشرات الأبسط التي تشترك بها كل الكائنات الحيّة. لكن ذلك غير كاف! فلا بد من تجاوز اختبار مؤشر الحياة الأولي إلى اكتشاف الحياة بمعناها السياسي، وعيشها وإدارتها. ولكن ذلك يحتاج قبل كل شيء إلى ضمانة الحياة.
أقول لا، إذاً أنا حي. الحياة تتعين بالرفض من لحظتها الأولى، لكنها تتعين بعد ذلك بأشياء أعقد بكثير من مجرد الرفض. والسوري يعرف ذلك جيداً، فقد تجاوز بسرعة صيغة ” أنا أصرخ، إذاً أنا موجود”، إلى صيغة ” أنا أعرف لماذا أصرخ وأعرف بماذا أصرخ، فإذن، أنا أعرف ماذا أريد”. أنا أصرخ طالباً الـ(حرّية)، يعني أنني أريد جميع الأشياء التي لا تكون عبودية، وأعرف أنّ الحياة الحرّة الكريمة حقي. فكم هم حمقى أولئك الذين سخروا من نداء الحرية ومازالوا يسخرون!
فمَن يخرج منادياً بـ(الحرية)، يكون نداؤه بمثابة إعلان عن وعيه لعبوديةٍ طالما أُنزلت عليها أسماء مباركة صُنّعت في الدوائر الراعية للاستبداد. ولا يعيب المرء أن لا يعرف ماذا تعني الحرية بمقدار ما يعيب النظام الذي نشأ تحت وصايته. فعلى أحد ما، غير الشباب المنادين بالحرية، أن يخجل من عدم معرفة بعضهم ماذا يعنون بها..على هذا الأحد أن يدرك ماذا يعني أن لا يعرف الشباب السوري كيف تكون الحرية، وبماذا يعيّنها.
وبعد، فهل هناك تعبير أبلغ مما روجت له وسائل الإعلام ودوائر الإشاعة عن جهل المتظاهرين بمعنى الحرية.. وهل هناك أنجع من ذلك لإدانة النظام الذي تسخر هذه الدوائر من (مواطنيها) دفاعاً عنه؟!!!
وهكذا، فأنْ يحدد السوري خروجَه الأول بمطلب (الحرية)، يعني أنّه يحدده بألف (لا) مكثّفة في كلمة واحدة متعيّنة بالتضاد مع كل الأشياء التي لا تكون حرية، أي لا تكون حياة.. يعني أنّه يقلب بطانةَ واقعِهِ، مغادراً إلى غير رجعة مقلوبَ الحياة إلى مكان ليس هو الحياة بعد، لكن ملامح الحياة فيه تشي بقرب بلوغها، يعني أنّه عقد العزم على السير في الطريق المؤدي إلى فضاء لا مكان فيه للاستبداد. وقد لا يكون الأوان قد فات بعد لفهم أن هذا السوري يستحق الاحترام لا الاستخفاف بمطلب الحرية الذي يرفعه، وجدير بأن تُفتح أمامه الطرق المؤدية إلى الحياة وليس إلى الموت. الحياة لمن يفتح طريق الحياة.
روائي من سورية
خاص بأوكسجين