خبطة قدمكم
مها حسن
ـ أقترح قبل قراءة المقال، أو بعده، الاستماع إلى أغنية فيروز، خبطة قدمكم عالأرض هدارة.
في تلك السنوات، يصادف أن تقبل طلبات التسجيل في الكلية الحربية، أو العسكرية، في نهايات الصيف. في منزل أهلي، حيث نشاهد التلفزيون، والنوافذ مفتوحة، والأبواب، والهواء الصيفي يهفهف علينا. قبل مسلسل السهرة، تبدأ الإعلانات.. موسيقا هادرة، مع نسائم الصيف، وطمأنينة المراهقة التي تحبو في دروب المعرفة والنضال والتعلّم.. تبدأ النشرة الإعلانية، بأغنية خبطة قدمكم، التي يرتجف لها قلبي، ثم تمر صور الطائرات مع هديرها القوي. لم أكن أعرف نوع تلك الطائرات العسكرية، لكنني كنت أرى الجنود السوريين، منهمكين في أداءات عسكرية.. فأشعر بمشاعر عجزت عن فهمها آنذاك.. ثم يأتي صوت المذيع جهورياً، ليعلن عن بدء التسجيل في الأكاديمية العسكرية.
كان الجندي مرسوماً في فهمي البدئي، ككائن نبيل، مختلف. إنسان مثلي بالشكل، ولكنه مختلف.
في ذكرى حرب تشرين، واظب التلفزيون السوري على عرض مسلسلات خاصة بالمناسبة، ولأن دماغي كانت بيضاء، صدّقت كل ما أسمعه، وصنعت له صورة خيالية في أرشيفي الغضّ. من ذلك الأرشيف، المقولة الخالدة لأبي عمر” ألف حبل مشنقة ولا يقولوا بو عمر خاين يا خديجة”… تلك التمثيليلة التي تكرر عرضها في كل سنة تقريباً، وفي كل سنة، أشاهدها، دون ملل.
كان لدي إيمان بالجيش.. تصديق وثقة أنه الأمان والحماية.
حين أمرّ في الشارع، فأرى عسكرياً، كنت أشعر بالأمان، أن هذا الرجل، ووفقاً لما أراه في التلفزيون، هو حامي البلاد. كانت نظرتي إليه خرافية أحياناً.. كما زورو أو سوبرمان أو أي صورة أخرى للمنقذ أو المخلص الإنساني.
لم أكن بعد أخاف من العسكر.
حصلت صدمتي الأولى، في المرحلة الثانوية. إذ وكنت مع صديقاتي في ثانوية التجارة في حي الجميلية، متجهات إلى موقف الباص، مررنا جوار المبنى الواقع في آخر الشارع، بين شارع المتحف، والجميلية، والممتد على جهة البريد الرئيسي، نسيت ماذا كان يحوي ذلك المبنى، إلا أننا كنا غالبا ما نرى خوذات تظهر من خلف السور المطل على الشارع. صدمتي تمتّ حين”لطّشنا”، أحد العساكر، رفعت رأسي نحوه، ورأيت خوذته. انكسر شيء بداخلي، لم أتقبل أن الجندي مثل أي كائن، يأكل ويشرب ويغازل الفتيات.. ربما تألمت على الخوذة.
صدمتي التالية من الجيش، وكنت أيضا صبية آنذاك، ومعجبة بصورة العسكري، حصلت في الثمانينات، حيث تحول الجيش من عنصر أمان إلى عنصر تخويف. ولست هنا لألوم الجيش، ولكن لأصف مشاعري التي كانت طازجة، لا علاقة لها بالمواقف الفكرية أو السياسية.. صبية تحب وتأمل وتخاف وتحلم.. كأي كائن عادي.
لكن “حماة الديار”، ظلت، كأغنية، وكنشيد، لها مكانة خاصة في انفعالاتي.كلما سمعتها، خفق قلبي بالحب الأول ذاته، لصورة العسكري النبيل، زورو، سوبرمان…
حين كنا نحيي العلم، في صباح كل يوم، في المدرسة.. كنت أصدّق.. وأنا كائن حالم ربما، وحتى اليوم، يسهل خداعي والكذب عليّ، لأنني أصدّق. كنت أصدق الكلمات التي أنطق بها :” نفوس أباة و ماضٍ مجيد “… تمتلئ عيناي بدموع أكبتها.. بعد انتهاء النشيد، أنسى انفعالي وأدخل في حركة الحياة اليومية.
لاحقاً، حين كبرت، كما أزعم، عرفت أن تلك الدموع، وذلك الخفقان، وانكسار قلبي أمام خوذة الجندي الذي غازلنا أنا وصديقاتي… كل هذا اسمه الوطن. كنت بحاجة إلى الوطن. وكان العسكري السوري آنذاك، هو صورة الوطن.
كما الأطفال، الذين يحتاجون إلى صورة يصنعونها في مخيلتهم للتجريدات. صنعت صورة لله، صورة للجنة، صورة للجحيم، وصورة للوطن.. وكان الوطن، ذلك الجندي بخوذة خاكية.
تشوهت صورة الجندي لاحقاً. طلعت علينا مصطلحات قاسية، سرايا الدفاع، القوات الخاصة… وارتبط نشوؤها بالعنف، لا بالحماية.
أعرف أن العسكري الذي أحبه، وأشعر معه بالأمان لا يزال موجوداً في سورية.. ولكن ليس لدي أي أمل في أن يقرأ كلماتي.. لهذا قررت كتابتها هنا، وبثها عبر الشبكة، علّها تسقط في روح ذلك العسكري الذي شكلّ أمني وأماني.
حماة الديار، عليكم سلام، خبطة قدمكم عالأرض هدارة، أنتو الأحبة وإلكن الصدارة.. لا تنسونا، نحن نحبكم.. أحبونا، فكما أنتم وطننا، نحن وطنكم، أبناءكم، إخوتكم، أخواتكم، أمهاتكم، زوجاتكم، بناتكم.. نحن جميعا، أنتم ونحن، هذا الوطن.. عليكم سلام.