خرافة الدولة السورية/ سلطان العامر
< لا يكتسب النظام الديكتاتوري شرعيته إلا بتقديم نفسه أنه ضرورة. فالاستبداد يعلم أنه مثل لحم خنزير محرم ومكروه، لكنه يعلم أيضاً أن حالة الضرورة هي وحدها من تبيح أكل لحم الخنزير. ولهذا يعمل الاستبداد على إنشاء وخلق سرديات متعددة يظهر نفسه من خلالها بأنه ليس غاية، بل وسيلة ضرورية لتحقيق غاية نبيلة من ورائه.
هذه هي الاستراتيجية التي اتبعها نظام الأسد منذ اندلاع الثورة السورية. فهو يعلم أن الكثير لا يتقبلون الحلول الأمنية المتوحشة التي تعامل من خلالها النظام مع المتظاهرين السلميين في بداية الثورة، ولهذا قد لجأ إلى تقديم نفسه ضمن سرديات متنوعة ليبرر وجوده وحربه. إحدى هذه السرديّات تقول: صحيح أنه نظام مستبد ودكتاتوري وظالم، لكنَّ بقاءه «ضروري»؛ لدعم حركات مقاومة الاحتلال الصهيوني، أما الأخرى فترى أن بقاء «ضروري»؛ لحماية الآثار والثروة الحضارية لسورية.. وهكذا.
آخر أنواع هذه السرديّات هي السرديّة التي تقول الآتي: الثورة انتهت، ولا يوجد طرف منحاز إلى الديموقراطية والحريات والحقوق في الحرب الدائرة اليوم في سورية، لهذا فإن المهم اليوم هو إنقاذ الدولة السورية، ولهذا فإن دعم النظام، للأسف الشديد، سيكون ضرورياً لحماية الدولة السورية. في نهاية الأمر، تتابع هذه السردية حديثها، يحتاج الناس إلى من يحكمهم، فوجود حكومة خير من الفوضى، والنظام هو الخيار الضرورية لتحقيق ذلك.
فبحسب هذه السردية، الدولة السورية هي الغاية، وما النظام إلا الوسيلة الضرورية لحفظها. قد تبدو هذه السرديّة للوهلة الأولى مقنعة، لكن عند تفحصها بدقة سنجد أنها بلا قيمة، ذلك أن الغاية التي تبرر دعمها للنظام من أجل حمايتها غير موجودة، فأي حديث عن شيء اسمه «الدولة السورية» اليوم هو حديث يشبه الحديث عن بقية الخرافات والأساطير التي لا وجود لها.
حتى أوضح ما أقصد بذلك، دعونا نأخذ أي تعريف مدرسي للدولة الحديثة، سنجد أنها تعرف عادة بأنها: كيان سياسي يحتكر حق استخدام العنف ضمن رقعة جغرافية محددة. من هذا التعريف نفهم أن للدولة سمات رئيسة: أولاً: تمثل شعباً. ثانياً: لها سيادة على أرضها. ثالثاً: لها حدود معلومة ومعترف بها. رابعاً: تحتكر حق استخدام العنف. لنرى إن كان أيّاً من هذه السمات موجودة اليوم في سورية.
لنبدأ بالشعب. فكلنا يعلم أن الشعب السوري اليوم ليس كله تحت النظام، فهناك مئات الآلاف من المهجرين، وهناك أجزاء من الشعب السوري خاضع لسلطة المعارضة وتنظيم داعش، وهناك من يقاتل ضد الأسد.
لننتقل إلى السيادة. تأتي السيادة بمعانٍ عدة : المعنى الأول استقلال قرارات الدولة عن أي مؤثر خارجي. كلنا نعلم أن مثل هذا الاستقلال غير متحقق في النظام السوري، فهو خاضع بشكل كبير لهيمنة إيران وروسيا. تأتي السيادة أيضاً بمعنى أن لا أحد يتدخل بما يحدث داخل حدود الدولة إلا الدولة نفسها أو برضا منها، وهذا أيضاً غير متحقق، فالتحالف الدولي الذي تقوده أميركا والذي يقصف «داعش» داخل سورية لم يستأذن النظام السوري ولم يقم هذا الأخير بردعه أو الدفاع عن أراضيه.
هناك معنى ثالث للسيادة، وهو أن كل ما يحدث داخل الحدود السورية إنما يحدث انطلاقاً من السلطة العليا التي يمثلها النظام. وهذا أيضاً غير متحقق، فداخل الحدود السورية نجد أن المناطق التي تسيطر عليها المعارضة لا سيادة للنظام عليها، ونجد «داعش» يعلن نفسه دولة متخذة من الرقّة عاصمتها الرئيسة، وذلك رغماً عن النظام ومن دون تفويض أو إذن منه.
فمهما قلَّبنا معنى السيادة سنجد أنه غير متحقق للنظام السوري على كل حدود الدولة السورية، وهذا باعتقادي أمر كافٍ لإثبات أنه لا توجد دولة سورية.
لكن حتى لو انتقلنا إلى السمة الثانية للدولة، أي احتكارها للعنف، نجد أن هذا غير متحقق أيضاً. فمعنى أن تكون هناك حرب أهلية هو أن النظام الحاكم يفقد هذا الاحتكار للعنف، ويقاتل متمردين لا يقرون له بهذا الحق وينازعونه فيه.
أخيراً تأتي الحدود. فاليوم لا يوجد فصيل سياسي يستطيع ادعاء أن لديه سيادة كاملة على الحدود الموجودة كافة على الخريطة والتي نسميها سورية، كل فصيل يسيطر على جزء من هذه الأرض. بعضها لتنظيم داعش، بعضها للنظام، وبعضها للمعارضة. بل إن الصراعات ليست محصورة داخل الحدود السورية، فـ«داعش» يسيطر على أراضٍ عراقية وسورية، أي أن هذه الحدود ليس لها حتى القوة الرمزية لاحتواء الصراع داخلها.
فأي سمة من سمات الدولة الحديثة ليست متحققة على هذه الرقعة الجغرافية التي ندعوها سورية، وهذا يعني أنها غير موجودة، فكيف يكون النظام السوري ضرورياً للحفاظ على الدولة السورية؟ ربما يعني من يتبنون هذا الرأي الحفاظ على المؤسسات البيروقراطية والأجهزة الحكومية، لكنهم يسمون هذه الأجهزة البيروقراطية الفاسدة والمسيطر عليها أمنياً والمترهلة وغير العملية «الدولة السورية»، وعلى رغم أن هذه التسمية خاطئة، فحتى هذه المؤسسات جزء منها تحول لمجرد أداة أمنية للنظام (جيش، شرطة، مخابرات..إلخ)، وجزء آخر لا يعمل إلى كوسيلة توزيع خيرات مثل الوزارات والمؤسسات التي يؤسسها «داعش» والمعارضة في الأراضي التي تسيطر عليها.
إن كانت الدولة السورية غير موجودة، فما المعنى الحقيقي لهذه السردية؟ إن معناها سينتقل من «ندعم النظام لحماية الدولة» إلى «نريد النظام أن يشكل الدولة السورية»، وبهذه الصياغة الجديدة يكون الدعم للنظام هو دعم لمشروعه وأدواته، وليس لأمر قائم مفيد ومهم ونبيل نخشى ضياعه؛ فنلجأ إلى وسيلة ضرورية.4
الحياة