خريف القيصر في بيت الموتى/ صبحي حديدي
تباهى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأنّ بلاده أنفقت 20 مليار دولار لتنظيم الالعاب الأولمبية الشتوية، وحقّ القول بأنّ انخراطه الشخصي في سوتشي لا سابقة له في التاريخ إلا حماس أدولف هتلر للألعاب الصيفية في برلين 1936؛ حسب تعبير غاري كاسباروف، بطل الشطرنج العالمي الأسبق.
لكنّ “الهدنة الأولمبية”، التي حلم بها الكرملين في سوريا، استُبدلت بكابوس مريع ومباغت؛ ليس في دمشق وحلب وحمص ودير الزور، بل في واحدة من أهمّ الباحات الخلفية للاتحاد الروسي، في “الميدان” الأوكراني دون سواه، وفي قلب العاصمة كييف، حين سقط العشرات في مواجهات دامية بين الشرطة والمعتصمين. هذا، إذاً، مازق جديد في سلسلة مآزق لا يختزلها أيّ طراز من التباهي الأولمبي؛ أو تخفف من وطأتها مطامع، أقرب إلى أضغاث أحلام، باستعادة المكانة الكونية القطبية، وإحياء مناخات الحرب الباردة.
ذلك لأنّ أية رفعة روسية، عسكرية نووية أو دبلوماسية دولية، لن تفلح وحدها في ترقية موقع موسكو على خارطة النظام العالمي، إذا ظلت الرفعة الجيو ـ سياسية والاقتصادية أكثر تواضعاً وانحطاطاً. ففي روسيا، وليس في طاجكستان أو تركستان أو جورجيا أو أوكرانيا، يلجأ الملايين من عمّال المناجم إلى سلاح الإضراب المفتوح، لا من أجل زيادة الأجور أو تحسين شروط العمل أو تحقيق مطالب مهنية؛ بل ببساطة من أجل استلام الأجور ذاتها، ليس أكثر!
وفي روسيا انحدار متواصل لمستوى المعيشة، وتآكل ثابت في القدرة الشرائية، وفشل متواصل في الخطط الاقتصادية، وتضخّم وعجز وبطالة وعصابات مافيا. وها أنّ روسيا العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين ترتدّ إلى روسيا أوائل القرن العشرين؛ وكأنّ صورة البلد قفزت من أحد مشاهد أفلام أيزنشتاين: رعب وعنف وتمرّد، جثث مجهولة لا تحتضنها سوى الثلوج اللامتناهية، قلق غامض يكتنف قوى أكثر غموضاً، وأكوام من الروبلات (وليس الكوبيكات) لا تكاد تبتاع رغيف خبز أسود أو زجاجة فودكا من الصنف الرديء. الدولار هو العملة الوطنية في الأسواق والمصارف والشوارع، والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي هما السيف المسلط على عنق السيادة الوطنية، تماماً كما هي الحال في أكثر أنظمة العالم الثالث عجزاً وضعفاً واستسلاماً.
وإذ تتفاقم مأزق البلد، فذلك لأنها في الأصل نتاج كاريكاتور التحديث الليبرالي، الذي يتجلّى في صورته الأكثر بشاعة وإثارة للرعب: مخلوق ديناصوري نووي اغترب عن هويته وعن أطرافه الجغرافية والسكانية (25 مليون مواطن روسي يقيمون في بلدان الجوار غير الروسية)؛ لا يستطيع التقدم خطوة إلى الأمام، إلا إذا توقّف في المكان بمعدل زمني يساوي خطوتين إلى الوراء. وهو مخلوق عاجز عن مجاراة أعدائه الرأسماليين القدماء، تماماً مثل عجزه عن مجاراة حلفائه الشيوعيين القدماء (الصين بصفة خاصة).
وهذه، في تمثيل آخر، هي روسيا كما أرادها وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر (ومن قبله أوائل أنبياء الحرب الباردة)، وكما يريدها صندوق النقد الدولي: قوّة عظمى تملك ثاني ترسانة نووية في العالم، ولكنها تنزلق رويداً رويداً إلى مصافّ المقاييس التقليدية لدولة عالمثالثية، في المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. اقتصاد نهض على التصنيع الثقيل، ولكنّ أساسه الوطني يعتمد اليوم على تصدير المواد الخام واستيراد المنتجات الغذائية المصنّعة، ويرتهن أكثر فأكثر للرأسمال الأجنبي والاستثمارات متعددة الجنسيات. تباين صارخ في التوزيع الاجتماعي للثروة القومية، وشروخات حادّة بين الأغلبية الأكثر فقراً وبؤساً، والأقلية المنعمة المنشطرة بدورها إلى كومبرادور رأسمالي متحالف مع الشركات الغربية العملاقة، وقطاعات طفيلية متحالفة مع المافيات الداخلية ومجموعات الضغط على اختلاف أجنداتها.
وإذا لم تكن روسيا هذه هي “بيت الموتى”، في الوصف الذي اختاره لها أديبها الكبير فيودور دستويفسكي أواخر القرن التاسع عشر؛ فإنها يمكن بالفعل أن تكون “بيت المجانين”، في الوصف الذي يستقرّ عليه السياسي الروسي المعاصر غينادي زوغانوف، كلما دارت لعبة الكراسي الموسيقية بين بوتين وديمتري مدفيديف في الرئاسة. وهكذا فإنّ القيصر، الذي يعيش خريفاً مستديماً داخل بلاده وفي باحاتها الخلفية، صار رهين سلسلة مآزق انقلبت إلى ما يشبه عمليات قيصرية من طراز إعجازي.
موقع 24