خطاب العقل وظهور تيار العقليين/ ياسين الحاج صالح
دخل خطاب العقل الثقافة العربية العالمية في مطلع ثمانينات القرن العشرين أو قبل ذلك بقليل. أعمال المغربي الراحل محمد عابد الجابري مَعْلميّة في هذا الشأن.
المقصود بـ«خطاب العقل» تلك الأدبيات الفكرية التي تكلمت كثيراً عن العقل والمعرفة والمنهج والإبستمولوجيا، وشخّصت مشكلات العالم العربي أو جانباً أساسياً منها ببعض خصائص «العقل العربي». تنتقد هذه الأعمال أحوال «المجتمع العربي» من وجهة ما يُفترَض أنه «العقل العام» الكوني، وترهن التغير الاجتماعي والثقافي، والسياسي أيضاً، بأشياء يفترض أن تجري على صعيد العقل والثقافة.
برز خطاب العقل في سياق تاريخي محدد: أفول القومية العربية كسياسة وفكر، وانقلابها إلى نظم طغيان أو تنظيمات سياسية مأزومة، وصعود الحركات الإسلامية في العالم العربي، وتراجع الحركات الفكرية والسياسية المناوئة للرأسمالية والإمبريالية الغربية في العالم ككل. إخفاقات السياسة في النصف الثاني من سبعينات القرن العشرين (الحرب اللبنانية، الصلح المصري الإسرائيلي، جمود التحولات الاجتماعية والتغير السياسي واندلاع الطغيان…)، بالإضافة لصعود الإسلاميين، واكبها انشغال كبير على الصعيد الأيديولوجي بقضايا التراث والهوية والأصالة والحداثة وما إلى ذلك.
خطاب العقل هو أحد أوجه هذا المناخ الأيديولوجي الجديد.
الثقافة تصعد
في الأعمال الباكرة عند أبرز ممثلّيه حينها، محمد عابد الجابري، كان خطاب العقل استدراكاً لتقصير ثقافي، يتمثل في قلة الانشغال بالثقافة وآليات التفكير والبرهنة في الثقافة العربية. هذا واضح في مقدمة الجزء الأول من كتابه نقد العقل العربي (1982). لكن الرجل قدّر أن من المهم بذل مزيد من الاهتمام بالتراث والثقافة، وكذلك بطرق ومناهج التفكير في الثقافة العربية العالمة.
قبل الجابري كان عبدالله العروي شخّص، في العرب والفكر التاريخي (1973)، أحوال العرب بـ«تأخر تاريخي»، يطال البُنى الاجتماعية والذهنية قبل أو أكثر مما يطال الاقتصاد. وبذلك أسهم في إضعاف النزعة الاقتصادوية التي كانت مستحكمة بالتفكير الماركسي العربي، وفتح باباً للاهتمام بقضايا المجتمع والثقافة والدين. المفهوم الأساس هنا هو الوعي، ثم الأيديولوجيا كوعي زائف. وهما مفهومان ارتكازيان أيضاً عند ياسين الحافظ الذي سار على درب العروي، ونقيض الأيديولوجيا عندهما معا هو «الوعي المطابق». قبل ذلك أيضا، كان العروي قد ألّف كتاباً واسع الصدى، الأيديولوجيا العربية المعاصرة (1967، الترجمة العربية 1970)، وهو يصدر عن افتراض استقلال نسبي واسع للأيديولوجيا، ووجوب دراستها كمجال مستقل.
للعروي تأثير مؤسِّس في ظهور خطاب العقل، وإن لم يكن من دعاته. وأعتقد أننا نفهم العروي فهماً أفضل أن ربطنا أعماله الباكرة بزمنها في ستينات وسبعينات القرن العشرين، وظهور منظمات وأحزاب سياسية، يسارية وقومية عربية، تجمع بين صفتين: تتطلع إلى الثورة والتقدم والتحرر، لكن تفكيرها سطحي وإحاطتها بشؤون العالم وبلدانها ذاتها متواضعة غالبا. العروي شريك لها في التطلعات التغييرية وخصم لها في التفكير. يريد التغيير مثل مناضلي الأحزاب، لكنه لا يثق بما يرى من منظمات. المثقف الإنتلجنسي، والعبارة للتونسي الطاهر لبيب، عبارة عن حزب سياسي من شخص واحد. وهذا ينطبق أكثر ما ينطبق على العروي.
وحتى سمير أمين، المثقف الماركسي الماوي، سيقول في مقدمة الترجمة العربية لكتابه التطور اللامتكافئ إن من الضروري الاهتمام أكثر بقضايا الثقافة والأيديولوجيا، وأنه سيكون امتهاناً للمسؤولية أن يفعل هو ذلك بصورة عابرة في مقدمة كتاب عن التخلف والنمو عالمياً. كان مفهوم «نمط الإنتاج الخراجي» الذي طوّره أمين يبدو دالّاً على ضرب من خصوصية اقتصادية للشرق، وهي خصوصية إن لم يجرِ التعبير عنها بلغة الثقافة و«العقل» (أمين لا يفعل ذلك) فإنها لا تغلق الباب دون السير في هذا الاتجاه. وفي عام 1989 سيكتب أمين نفسه كتاباً عن الثقافة، نحو نظرية للثقافة، مقدماته اقتصادية جداً، وتظهر في رأيي امتناع نظرية للثقافة على هذا الأساس الذي يلغي استقلالها، ولو النسبي، أكثر مما يظهر إمكانها. لكن الكتاب يكفي للقول بأن سؤال الثقافة يفرض نفسه على الجميع. قبله أيضاً، 1983، كان العروي ألّف كتاباً ثاقب التفكير حول أوجه من الثقافة العربية: ثقافتنا في ضوء التاريخ.
كان برهان غليون هو من ترجم كتاب التطور اللامتكافئ لسمير أمين إلى العربية عام 1974، مُجزِلاً على المؤلف وكتابه الثناء. غليون كان من أكثر المثقفين العرب انتشاراً وتأثيراً في عِقدَي القرن العشرين الأخيرَين، وكتابه اغتيال العقل (1985) حظي باهتمام واسع وقت صدوره. ونالت كتبه الأخرى، مجتمع النخبة (1985) والمحنة العربية (1990) والوعي الذاتي (1988)، وصولاً إلى نقد السياسة: الدين والدولة (1993) اهتماماً لافتاً. وهي كتب تنتقد ما يمكن تسميته تيار العقليين، لكنها ميّالة هي ذاتها إلى تعريف مجتمعاتنا المعاصرة بالثقافة والهوية.
وفي مطلع الثمانينات كان قد تُرجم كتاب الاستشراق لإدوارد سعيد، وهو يزكّي –ربما دون قصد من مؤلفه– ضرباً من أوتاركية ثقافية لاغربية، شرقية وعربية خصوصاً. وهو ما كانت نظرية التبعية، وكان سمير أمين أبرز روّادها العرب، تزكّيه بصورة ما أيضاً على الصعيد الاقتصادي (كتاباه التراكم على الصعيد العالمي والتطور االلامتكافئ). المناخات ليست متباعدة كثيراً بين أجواء كتاب الاستشراق، وبين دعوة الجابري إلى الاستقلال التام للذات العربية، ودعوة سمير أمين إلى التنمية المستقلة المتمحورة داخلياً. وبعد أكثر من عقد صدر لسعيد وتُرجم إلى العربية كتابه الكبير الآخر، الثقافة والإمبريالية، الذي يُظهر استبطان الأدب الغربي (من جين آستن وحتى سلمان رشدي) للوضع الإمبراطوري لبلدان الغرب أو افتراضه له. العبرة: الفكر والفن يُحيلان إلى أوضاع سياسية واجتماعية وتاريخية، وليس إلى «عقل كوني».
كان هذا ما يقوله تيار ما بعد الحداثة الذي أخذ بالظهور منذ أواخر سبعينات القرن العشرين، منتقداً التنوير والماركسية و«السرديات الكبرى».
وفي الثمانينات نفسها كتب صادق جلال العظيم من موقع علماني وليبرالي وكَوني دفاعاً عن سلمان رشدي، ونقداً لاستشراق إدوارد سعيد، ودفاعاً مثقِّفاً آخر عن الأسس الفكرية للتفكير اليساري دفاعاً عن المادية والتاريخ. لكن اليسار يبدو هنا مبدأً فكرياً مجرداً، دون سياسة ودون سند اجتماعي.
وانشغل المثقف السوري الراحل إلياس مرقص بقضايا الفكر والمعرفة والمنطق بدوره، وكان يضع مقدّمات مطوّلة وهوامش شارحة طويلة بدورها للكتب التي يترجمها عن تاريخ الفلسفة الغربية، تُظهر اهتمامه الواسع بقضايا المنطق والمفاهيم ونظرية المعرفة. تفكيره في العقد الأخير من عمره (توفي عام 1991) مُضمّن بصورة أساسية في كتابه الضخم نقد العقلانية العربية، الذي يستعيد فيه ما كان كتبه في مقدمات ترجماته عن الفرنسية، وفي مقالات نشرها في حينه في مجلة الوحدة الصادرة منذ عام 1984 عن ’المركز القومي للثقافة العربية‘ (غابت أواخر العقد نفسه، كان تمويلها ليبياً).
صار الكلام في الثقافة كل شي، وتراجع الكلام في الاقتصاد بفعل تدهور الشيوعية، والكلام في السياسة بفعل الطغيان، أما الكلام في العلاقات الدولية فصار اختصاص مثقفين قوميين يحوّمون حول نظام صدام أو النظام الأسدي، فيُفسدون ضميرهم وضمير غيرهم، وهو الاختصاص الذي يعدّ طَبَقاً ثابتاً على مائدة أجهزة الإعلام الحكومية.
وكان المثقفون المغاربة هم متصدّري هذه الموجة، حتى قيل حينها إن المغرب يستلم الموقع الطليعي في الثقافة العربية من المشرق.
العقل كنظرية
بيد أن خطاب العقل هو جانب من هذا الاكتساح الكبير للشاغل الثقافي. إنه عقيدة تيار قوي، أسميه تيار العقليين، ضمن الموجة الثقافوية التي استمرت جيلاً أو نحوه، بين ثمانينات القرن العشرين وبداية الثورات العربية. محمد عابد الجابري هو الذي أسهم في جعل كلمة «عقل» شأناً شعبياً إلى درجة أنها صارت تستخدم لتسفيه الخصم (شو هالعقل؟)، على نحو ما كانت كلمة تخلف تستخدم للغرض نفسه قبلها («شو هالتخلف؟» أو «يا متخلف!»).
مشروع نقد العقل العربي بجزئيه (تكوين العقل العربي 1982 وبنية العقل العربي 1986)، ثم العقل السياسي العربي (1990) هي الأعمال التي نالت اهتماماً واسعاً جداً في عِقدَي الثمانينات والتسعينات، وقد حوّلت مؤلفها إلى نجم فعلاً، وهذا نادر في الثقافة العربية. في مقابلة عام 1987، استطاع مثقف سوري راحل، محيي الدين صبحي، أن يشبّه الجابري بـ… محمد علي كلاي! ولكونه مثقفاً عربياً عاماً، إن جاز التعبير، كان الجابري يظهر أثناء حرب الخليج الثانية (1991) كمعلق إذاعي عبر الهاتف على الحرب (في إذاعة لندن)، منحازاً بقوة إلى صف عراق صدام!
أما العقل الأخلاقي العربي فقد تأخر صدوره إلى عام 2004، ونال اهتماما أقل.
وثمانينات القرن العشرين والعقدان التاليان هي أيضاً الفترة التي شهدت ترجمة واسعة لأعمال المثقف الجزائري-الفرنسي محمد أركون إلى العربية، وموضوعها الواحد المتعدّد الوجوه هو الإسلام والفكر الإسلامي و«العقل الإسلامي». المُدرَك الأخير هو المفضّل عند أركون، مقابل «العقل العربي» الذي يفضّله الجابري.
ما يميّز تيار العقليين هو أن العقل مبدأ تفسيري، يشرح الأوضاع الاجتماعية والسياسية المتدهورة في «الوطن العربي». بفعل متضافر من هيمنة ثقافية للماركسية حتى ثمانينات القرن ومن استعداد منتشر للتفسيرات الاختزالية (reductionist) المبسّطة، حوفظ على الآلية التفسيرية التي تُرجع ظواهر الاجتماع والسياسية والثقافة إلى أساس غير ظاهر، لكن مع تحويل هذا الأساس من الاقتصاد إلى الثقافة والعقل، وعند العروي إلى التاريخ، ومع النزعة الحتمية في كل الأحوال. جرى قلب المنهجية الماركسية، لكن مع التخلّي عن الجدلية. السمة المميزة للعقليين أنهم غير جدليين، يبدو «العقل» أو «الذهنيات» مبدأ كلّي الجبروت، يشكل السياسة والمجتمع ولا يتشكل هو بهما.
على أن دَين الماركسية المحتمل يتجاوز ذلك، وهو دَين ضد ماركسي في الواقع. عرفنا الماركسية عبر الشيوعية، كحركة أيديولوجية سياسية عالمية تعتمد عقيدة اسمها الماركسية اللينينية. كل المثقفين العرب الذين أخذ وعيهم يتشكل في الخمسينات والستينات وحتى السبعينات وبعض الثمانينات من القرن العشرين عرفوا الماركسية من الشيوعية. وخلافاً لما قد نتوقع، فإن الشيوعية الواردة إلينا من روسيا تيار عقلي وليست تياراً اجتماعياً، أعني أنها تعتنق مذهباً أو عقلاً ناجزاً، يسمى النظرية العلمية أو المنهج المادي التاريخي أو الوعي الثوري، وهو يشكل القطب الأقوى في بناء الهوية الشيوعية على حساب القطب الآخر، المرتبط ببلد بعينه وبمشكلات اجتماعية وسياسية محددة. الشيوعية وبدرجة، تتناسب مع الحصرية الأيديولوجية لمنظماتها، علم ناجز، لا يتطرق إليه الشك، ولا يحتاج إلى شيء من خارجه، وليس بين مثقفيها إلا قليلون يمكن وصفهم بالاجتماعيين، أي الذي يعطون اهتماماً للتجربة الحية في المعرفة، ولمجتمع الناس العينيين وصراعهم في السياسة، أكثر من الاهتمام بالولاء للعقيدة وللمثال. لذلك لم يكن ثمة انعطاف كبير في تحول أكثر المثقفين الذين كانوا في الإطار الشيوعي إلى الثقافوية والدعوة التنويرية. إنهم يتحولون من شكل للتيار العقلي إلى شكل آخر. كلتا العقيدتين تحمل الوعي الصحيح وتنقله إلى جمهور غافل (حسب نظرية لينين في التنظيم). والحس السوسيولوجي لكلتيهما ضامر. وكلتاهما على عداء للديمقراطية. واحدة تدعو لدكتاتورية تحكم بأسلوب فاشي، ومؤدى دعوة الأخرى هو «الاستبداد المستنير».
الواقع أن من سمات الثقافة العربية حتى يومنا أنها لم تشهد ظهور ما يمكن أن نسميه «تيار الاجتماعيين». الحس السوسيولوجي قوي عند بعض المثقفين، وبعض المناضلين السياسيين، لكن ليس لدينا تيار اجتماعي مؤثّر. ولعل هذا مرتبط بافتقار الثقافة العربية إلى أرض، أي بتكوينها كثقافة عابرة للأراضي والمجتمعات العيانية. التيار الاجتماعي يمكن تصور ظهوره في بلد ومجتمع وأرض ودولة، وليس في «ثقافة».
ولعل من الدين الماركسي على تيار العقليين أيضاً النزعة الحتمية. الحتمية أساس لمذهب (أي لعقل) ولحزب وسلطة، فيما الاجتماعي كثروي وفوضوي ولاحتمي.
مفهوم الثقافة يتبدل
جاءت تسعينات القرن العشرين بنهاية الحرب الباردة وانهيار ما كان بقي من اليسار الشيوعي العربي، وهيمنة مناخ ثقافوي عالمياً، يفسّر أحوال المجتمعات، مجتمعات العرب والمسلمين بخاصة، بثقافتها مردودة إلى الإسلام غالباً. في هذه الفترة جرى تحوّل خطير في مفهوم الثقافة لم يُدْرَس أبداً بحدود ما أعلم. في سبعينات القرن العشرين وقبلها، كانت الثقافة تعني ما نكتسبه من معارف وفنون وآداب، وما ننتجه منها أيضاً. الثقافة تحيل إلى فعل التثقّف، إلى قراءة ما نترجمه من العالم، الغرب أساساً، من دويستوفسكي إلى ألبرتو مورافيا، ومن لينين وماركس إلى هيغل وكانط وفلاسفة التنوير وسبينوزا وفلسفة العصور الوسطى الأوربية التي اهتم بها المرحوم إلياس مرقص، وإلى تأليف الروايات والقصص و«الشعر الحديث» والكتب السياسية والفكرية، والسينما والمسرح. المثقف هو من يقرأ ومن تشكل على هذا النحو، ومن يُنتج وفق هذه الأصول، ومن يتغير بفعل ثقافته، ويعمل على التغير في محيطه.
في تسعينات القرن العشرين صارت الثقافة تدل على شيء آخر: الموروث والثابت. صار يبدو أن الثقافة هي «العقل»، ضرب من قالب موروث متأصل في أذهاننا. إنها نظم الجابري المعرفية، أو «العقل القياسي» الذي كان تكلم عليه في كتاب الخطاب العربي المعاصر (1980)، أو «صندوق الرأس» الذي تكلم عليه جورج طرابيشي (مقابل صندوق الاقتراع)، و«الرأس» الذي تكلم عليه أدونيس مقابل الكرسي.
كانت الثمانينات التي شهدت فورة أدبيات العقل شهدت أيضاً ترجمات عديد في مجال الأنثروبولوجيا. أعمال ليفي ستروس صارت مألوفة لقراء العربية. ومن أفكاره المهمة التي كانت تتجاوب مع اهتماماتنا حينها أن ممثلي بلدان العالم الثالث في المنظمات الدولية يفضلون أن تكون بلدانهم متخلفة على أن تكون مختلفة (قال ذلك في كتيّبه العِرْق والتاريخ)، وهو ينحاز إلى الرأي المعاكس. ومعلوم أن الأنثروبولوجيا التقليدية عموماً، وأنثروبولوجيا ستروس البنيوية بخاصة، تهتم بما هو ثابت، بالبنى والعناصر والعلاقات المتزامنة، وليس بالتغير والتعاقب والتاريخ. وهي لا ترى وجهاً لأفضيلة العلم الحديث على «العقل البدائي» (ستروس يرفض المفهوم)، ما يمثل فتوى ممتازة لمن يدافعون عن التفكير الديني في أشد أشكاله تصلباً في مجتمعاتنا. وكان ستروس اعتبر أن عمله مساهمة في نظرية البنية الفوقية، وتكميل للعمل الماركسي الذي انشغل بنظرية البنية التحتية (كتابه الأنثروبولوجيا البنيوية). ولعل هذا ما أسهم في تشكيل جسر نظري لمثقفين عرب كان أكثرهم ماركسيين حينها للتحول من التحليل الاجتماعي والتاريخي إلى التحليل الثقافي، ومن الثقافة كاكتساب إلى الثقافة كميراث.
الثقافة صارت تعني الآن «الثقافة العربية»، وفي قلبها يتربع «التراث».
وفي هذا المناخ نالت نظم الجابري المعرفية الثلاث المكوّنة للعقل العربي، البيان والبرهان والعرفان، صيتاً واسعاً، وصارت ثقافة عامة. وانعكس ذلك في موازين القوى الثقافية في المغرب، إن جاز التعبير. فتوارى عبدالله العروي، المثقف الأرهف فكراً، حين كان الجابري في عزّه. العروي عاد بعد بدء انحسار الموجة بكتاب لا يسهل سبر أغواره: مفهوم العقل (1996).
عَمَل الجابري الذي أظهر نظماً معرفية قديمة ثاوية وراء محاكماتنا وتفكيرنا، نظما تشكل «لاشعورنا المعرفي»، جعل من الثقافة المكتسبة مجرد واجهة حديثة لبنية تحتية عقلية عميقة وعتيقة. وتنطوي هذه النظرية على نتائج خطيرة: منها تقليص الفوارق بين الأفراد والأجيال، فكلنا لنا في النهاية العقل نفسه؛ ومنها نفي التغير الثقافي الذي عرفته مجتمعاتنا أو التقليل من شأنه. هذا متضمن في المنهج البنيوي الذي صدر عنه الجابري، وحاز انتشاراً واسعاً في ثمانينات القرن العشرين، متأخراً في ذك بنحو عقدين عن موطنه فرنسا. عبدالله العروي وياسين الحافظ يفكران تفكيراً قياسياً، يقول الجابري في الخطاب العربي المعاصر (1979). يقلص هذا التحليل المتعسّف الفوارق بين المثقف المعاصر والفقيه القديم. وبينما يكاد يلغي المنهج البنيوي دور الفاعل الثقافي، المثقّف، ويجعله وكيلاً لبُينة عقلية لاشعورية أو حاملاً لها، فإنه لا الجابري ولا أحد من مروجي خطاب العقل أوضح لقارئيه المعضلة التالية: إن كان المثقف شريكاً في هذه البنية العتيقة، فكيف له أن ينتقدها أو يتكلم عليها كلاماً مفيداً لا يكون مجرّد تكرار لمنطقها ذاته؟ وإن لم يكن شريكاً في هذه البنية، فكيف أمكن له الانفلات من إكراهاتها؟ ولماذا لا يشرح كيف تحرّر عقله كي يستطيع غيرُه السير على الدرب نفسه والتحرر من «العقل القياسي»؟ هذه التساؤلات تُطلّ على الوعي الذاتي للمثقفين وتفكيرهم في مواقعهم وأدوارهم، وبخاصة امتناعهم عن التفكير الانعكاسي في أنفسهم ومحددات مواقفهم.
في المشرق نال عمل الجابري ثناءً مندفعاً من جورج طرابيشي، وهو مثقف سوري منقِّب، لكن متواضع الأصالة، والمقدمة الكبرى في تفكيره في أطواره المتعددة تتشكل من الأيديولوجيا أو التيار الفكري الصاعد في تلك المرحلة: الماركسية، القومية العربية اليسارية، التحليل النفسي، الأبستمولوجيا…، هذا قبل أن ينقاد إلى مخاصمة مشحونة نفسياً للجابري وشغله شَغَلَت نحو 20 عاماً من عمره، كتب خلالها 5 مجلدات سميكات في تعقب المثقف المغربي: مشروع نقد نقد العقل العربي. على أن الرجل شريك لمنقوده الجابري في خطاب العقل، ومع نسيان أشدّ للحقل الذي ولدت فيها أطروحات الجابري أول مرة، ومع نزعة حتمية أقوى.
وإذا تلغي هذه النظرية استقلال المثقف ودوره، ما عدا المثقفين معتنقي هذه النظرية، فإنها تسند الفاعلية الثقافية إلى العقل المعطوب لعموم الناس الذي يحتوي دونما فروق البنية اللاشعورية ذاتها. ومن هذا الباب فإنه يتعين نقد الثقافة والعقل والمجتمع والشعب، وكان إلياس مرقص يتكلم عن ضرورتها في ثمانينات القرن الماضي، متحفّظاً على الاكتفاء بنقد النظم السياسية وحدها.
على أن الموقف الأيديولوجي للجابري لا يقبل الاشتقاق البسيط من نظريته في العقل العربي. رغم أنه مدشّن لخطاب العقل، وهو خطاب نخبوي وتشاؤمي عموماً، يمكن وصف عمل الرجل ككل بأنه تأسيس لطوبى متفائلة من نوع خاص، أسمّيها طوبى العقل، وتطلعها هو إصلاح العقل العربي، وهو المعادل الثقافي للنهوض القومي العربي الذي كان مأمولاً، وهو خط منفتح على الديمقراطية سياسياً. من الجابري وضدّه تقرّع تيار آخر، تمثل بخاصة في «مشروع» نقد نقد العقل العربي لجورج طرابيشي. هنا تحول العقل تدريجياً إلى أيديولوجيا متشائمة، تزكّي سياسة معادية للديمقراطية وتتهم المثقفين والناشطين الديمقراطيين بـ«الشعبوية». هنا أيضاً تقترن الدعوة إلى تنوير العقول بظلمة دامسة للقلوب، تميّز التيار الثقافوي العلماني العربي عن تفاؤلية ودنيوية التنويريين الفرنسيين والألمان والسكوتلنديين.
ولعل من المناسب هنا التمييز بن تيارَين «يساري» و«يميني»، أو ديمقراطي ونخبوي، بين الثقافويين العرب في العقود الثلاثة السابقة للثورات. التيار الأول معاديْ للنظم السياسية القائمة ومنحاز لعموم السكان، ومحافظ على انحيازاته التقدمية والمتفائلة الموروثة؛ فيما الثاني تيار نخبوي معاديْ للعامّة والديمقراطية، نضاليّ في تشاؤمه، ولا يخاصم النظم القائمة، وإن كان لا يجاهر بموالاتها. بين السوريين صادق جلال العظم وبرهان غليون من التيار الأول، وجورج طرابيشي وأدونيس من الثاني. الأخيرون حتمويون أكثر من سابقيهم.
لكني أعتقد أن الثقافوية ككل لا تصلح أساساً فكرياً للديمقراطية التي تتأسّس، بالأحرى، على الوجود الدنيوي العيني للجماعات البشرية، وشروط حياتها المادية بخاصة، وليس على تعريفها بثقافة أو هويات.
الإمبراطورية تتكلم
تسعينات القرن العشرين كما هو معلوم هي العِقد الذي ظهر فيه كتابان في أميركا أثارا كثيراً من التحفظ في النقاش العربي، لكن يبدو أنهما كانا عميقا التأثير مع ذلك. صراع الحضارات لصموئيل هنتنغتون، وهو قراءة طائفية للنظام العالمي، تبشّر –وإن من وراء غلالة من التحذير– بصراع طائفي على المستوى العالمي. وُوجه الكتاب عربياً بما يبدو أنه رفض إجماعي، لكن هذا الرفض كان يبدو أنه تنضبط به وتصدر عنه أيضاً طروحات مفكرين علمانيين عرب، عرض تفكيرهم تحولاً يمينياً دون أدنى مقاومة (معاداة للديمقراطية والعامة كما سبق القول، ومحافظة سياسية)، وصار يفسّر أحوال العرب بالثقافة والعقل. وغير هؤلاء، ينضبط تفكير الإسلاميين بنظرية هنتنغتون الحضارية ذاتها، ويصدر عنها صدوراً طبيعياً، إلى درجة أن صادق جلال العظم يعتقد أن هنتنغتون استهلمها منهم أصلاً! الكتاب الثاني هو نهاية التاريخ لفرانسيس فوكوياما، وهو ضرب من إغلاق باب الاجتهاد في المصائر والمستقبلات البشرية، وقد وُوجه بدوره باعتراض إجماعي عربي، لكن يبدو أن حجته الرئيسية (أن مقدمات كل تفكير في القيم والأفكار المواجهة لتنظيم المجتمعات في المستقبل مكنونة في الفكر الديمقراطي الليبرالي الغربي) كانت مقبولة من قِبَل التيار النخبوي الحداثي العربي. تبدو مُدرَكات مثل العقلانية والتنوير والحداثة والعلمانية فائقة الوضوح والنجاز عندي منظري هذا التيار، فوق كونها حتمية. لكن لا شيء من ذلك صحيح إلا بمنطق التعبئة والتحريض، والتاريخ المنتهي. هذه تركيبات تاريخية مفتوحة على كل صنوف المراجعة والنقد من مواقع مفتوحة بدورها على التحول التاريخي، وليس فقط من مواقع محافِظة.
في الخلفية
خلال السنوات العشرين أو ربع القرن السابق للثورات كان يبدو أن مجتمعاتنا خاملة لا تفعل شيئاً غير تفجّرات عنيفة إرهابية وغير عقلانية بين حين وآخر. هناك سلطات دكتاتورية عاتية يصعب العيش في ظلها، لكن هناك مجتمعات مستسلمة للقَدامة لأسباب تكمن في «نسيج عقلياتها» (طرابيشي). المناضلون السياسيون الذين صاروا يتكلمون على الديمقراطية منذ السبعينات سُحقوا في السجون. وسيبدو لهم انشغالهم بمسألة السلطة أساساً، بينما القَدامة المفترضة تكتسح المجتمعات وتصعّد الإسلاميين، خطأً فادحاً أو حتى تواطؤاً مع الإسلاميين من وجهة نظر العقليين. وإلا صاروا «شعبويين»، يجاملون الأصولية بغية الحصول على قدر من الشعبية.
وبينما يجري الإقرار بأن النظم الحاكمة مستبدّة، لا يكاد يُقال عنها شيء آخر، وما يوجه من نقد للمعارضات السياسية المسحوقة وبلغة منفعلة، يعطي انطباعاً بأنها أقوى من هذه النظم المستبدة، أو أخطر على الأقل.
لدى أدونيس استعدادات قديمة للاندراج في مناخ كهذا، أما في التسعينات وما بعد فقد صار في صدارة التيار الثقافوي العلماني، ويحمل كل سِماته من نزعة محافِظة سياسياً، ونخبوية اجتماعياً، ومن عداء للعامّة، وتشكك في الديمقراطية، وتشاؤم مناضِل.
هناك أيضاً تيار ثقافوي إسلامي، يشمل عموم الإسلاميين في الواقع. وهو يفسّر مشكلاتنا بالتخلّي عن الإسلام والانبهار بالغرب، وطبعا يزكّي الإسلام حلاً، ومعه العداء للغرب (كثقافة وأنماط حياة أكثر مما كسياسة حتى) حلّاً مكمّلاً. المشترك بين التيارين، الإسلامي والعلماني، وضع قضايا المجتمع والصراع الاجتماعي والسياسي والاقتصاد والجغرافيا السياسية بين قوسين.
بعيداً عن الأرض
في أية شروط سياسية واجتماعية ومعرفية ولد خطاب العقل وظهر تيار العقليين؟
يبدو لي أن خطاب العقل استمرار مغاير للدعوة القومية العربية التي ظهر هذا الخطاب وهي تراكم تعثّراً سياسياً وراء آخر. عدا عن أن الأمر يتعلق بـ«عقل عربي»، فإن السؤال الثاوي وراء هذا الخطاب: ما هي المشكلات أو العوائق الكامنة في عقلنا التي تحول دون التقدم؟ هذا ظاهر جداً في أعمال الجابري.
وغير أفول القومية العربية (والمقاومة الفلسطينية ومنظمات اليسار العربي)، هناك الطغيان، ليس كغياب للتغير السياسي لمصلحة ديمومة مميتة فقط، بل أساساً كفصل للمجتمع عن السياسة والثقافة، وللمثقفين عن أية قوى اجتماعية حية. خطاب العقل هو خطاب المثقف المتوحّد الخائب، لكن النرجسي أيضاً والأناني، الحريص على ألا يعكر صفوه شيء. شهدت هذه العقود تدنّياً غير مسبوق في المسؤولية الاجتماعية للمثقف منذ ظهوره في العالم العربي، وما يكاد يقارب التباهي بالتشاؤم واحتقار الجمهور (باسم نقد الشعبوية). ورغم ابتعاده عن السياسة الخطرة، إلا أنه بقي رجل تعبئة، يتحرك تفكيره في أفق تجاوز واقع العرب المتدهور ومطابقته مع ما يفترض أنها معايير كونية، أي في أفق مغلق. أيديولوجيو العقل هم حزبيو ثقافة، ليسوا بحال رجال بحث أساسي أو تفكير نظري أساسي. وإذا كانت مُدرَكات الحداثة والعقلانية والعلمانية تبدو له واضحة، فبالضبط لأنها أدوات للتعبئة وليس للبحث، حلول وليست مسائل، هويات تجمع وليست دروباً تتفرع وتفرق.
ولخطاب العقل محدد معرفي وافد، تمثل في تطورات مهمة في الإبستمولوجيا وتاريخ الفكر، وجّهت بمجموعها الأنظار نحو العمليات الداخلية للتفكير وآليات البرهنة والنظم المعرفية (مساهمات ميشيل فوكو بخاصة). وشكّلت هذه التطورات حقلاً جديداً للتفكير تأثّر به «مثقف عربي» يزداد انعزالاً وانفصالاً عن كل أرض. في العزلة، وجد مثقفنا الإبستمولوجيا من جهة والتراث من جهة ثانية، فمزج بينهما، وحصلنا على «العقل العربي».
وكما يحصل في كل انتشار، فإن معالم النقاش الأصلي ضاعت، أعني الحاجة إلى نقاش حول الثقافة يُضاف إلى –ويكمّل– التفكير في المجتمع والاقتصاد والسياسة والعلاقات الدولية. بفعل الطغيان لم تكن هناك سياسة ولا مجتمع. المجتمع السوري سُحق؛ لبنان كان يغرق في حربه الأهلية المديدة؛ العراق في حرب مديدة بدورها مع إيران؛ مصر معزولة ومتمحورة حول صلحها مع إسرائيل؛ المقاومة الفلسطينية طردت من لبنان؛ وصعد بالمقابل دور السعودية وبلدان الخليج الغنية لكن الضامرة ثقافيا (باستثناء الكويت، التي تركت نفسها تنكفئ على نفسها بعد الاحتلال الصدّامي والتخلص منه في مطلع العقد الأخير من القرن الماضي). صارت الثقافة ملاذ مثقفين يُناجون أنفسهم، وتحولت إلى «صناعة استخراجية»، تستخرج العقل أو اللاعقل من التراث على نحو يحاكي استخراج البترول من مكامنه الجيولوجية. الأصل في «مشروع» العقل هو إخفاق مشروع الفعل، «المشروع القومي العربي» – بالمناسبة، قد يكون الجابري أول من استخدم الكلمة لوصف عمله، طرابيشي تَبِعَه فيها، ورغم أنه يسجّل اعتراضاً على الشحنة «المتنرجسة» للتعبير فإنه يعود بعد هذا التسجيل إلى استخدام كلمة مشروع في وصف عمله الخاص!
لكن، أليس مشروع العقل أو مشاريعه احتمالاً قوياً مُضمَراً في مفهوم «الثقافة العربية» ذاته، وهي حال مشروع الفعل بعد أن خرج من الفعل؟ ليس فقط لا يسمح هذا المفهوم بظهور تيار الاجتماعيين، لكنه لا يسمح أيضا بفهم الثقافة ذاتها، بما هذه تحيل إلى شروط بيئية وسكانية واقتصادية وسياسية واجتماعية يعيش في ظلها ملايين الناس.
وإذا كان ظاهراً جداً اليوم أن «الثقافة»، بما هي أنماط حياة وأذواق، محور رئيس من محاور الاستقطاب الاجتماعي والصراع السياسي في مجتمعاتنا، فهل نستطيع مقاربة الأمر دون الانفصال عن مناهج العقليين وطروحاتهم الأثيرية، ودون الاقتراب من وقائع حياة الناس على الأرض؟ ودون نظر، أيضاً وأساساً، في فرص الحياة والخيارات المتاحة فعلياً للسكان؟
ظهور تيار العقليين في تقديري مؤشّر على الانفصال عن الأرض، وعلى عيش المثقف النمطي في عالم مغلق بفعل دمار العام الاجتماعي والسياسي، هو عالم بيئاتهم الأهلية، فلا يعرفون شيئاً يتعداهماً عن شروط حياة الناس في بلدانهم ذاتها. ويبدو لي انحصار العالم الواقعي للمثقفين في بيئاتهم الأهلية نقطة مهمة جداً، آلت إلى ألا يقول مثقفون مهمون ما يتمايز في شيء أساسي عما يقوله «الأهل» من حولهم، وإلى تأثير للأهلي و«الطبيعي» يفوق أي تأثير سابق له منذ بداية ظهور المثقفين في المجال العربي قبل قرن ونصف. أعتقد أن تاريخ الثقافة في سوريا خلال العقود الأربعة السابقة لا يمكنه إغفال هذه النقطة، وأنه أعيد إنتاج الطائفية في الثقافة عبر هذا الوضع الخاص غير المدروس.
ويشيع للانفصال عن الأرض أن يأخذ شكل العيش المستمر والدائم خارج البلد. وهذا لا يتعارض فقط مع الاقتصار على الأهل كمساحة من الواقع، بل يعزّزه غالباً. في غياب حياة ثقافية وسياسية عامة وصحافة مستقلة، مَن، غير الأهل، نعرف منه شيئاً عن أحوال البلد وما يُقال وما لا يُقال؟
المفاهيم والفهم
ما أريد الخلوص إليه من هذه الجولة هو إظهار خصائص خطاب العقل.
المثقف العقلي متفوق على الجمهور الذي يبدو عقله معطوباً، ويتصرف بصورة غير معقولة ولا منطق فيها. العقل متكون بصورة مستقلة عن الأوضاع الاجتماعية العيانية. وهو لا يتكون جدلياً عبر الصراع والممارسة ويتغير عبرهما، بل هو ناجز في أساسياته ومعروف من العارفين. إنه العقلانية والعلمانية والحداثة والتنوير والليبرالية، هي مع افتراض أن هذه أسماء واضحة الدلالة على أوضاع أو وجهات واضحة بدورها.
لكن بلى، ينتقل فهم تحمله المفاهيم معها، فهم تَدِين الذاتية والمبادرة والسيادة فيه للمفاهيم لا للفاهمين (للماركسية لا للماركسيين مثلاً)، وهو ليس إحاطة وافية بالبيئة التي وفد منها المفهوم، ولا هو استيعاب للوضع الذي نعيش كي نُحسِن التوجه فيه والتأثير عليه. المفاهيم هي التي تفهمنا وتسمّينا، وليس العكس، ونحن حَمَلَة تابعون لمفاهيم لا نتحكم بإنتاجها وتبدّلاتها وظائفها، ولسنا مُنتِجين مبتكِرين لمفاهيم نستطيع تعديلها وتغييرها والتخلي عنها وابتكار غيرها. ترتسم البُنية الاجتماعية التي انحدر منها المفهوم في أفق مجتمعنا، على ما يقول العروي في الأيديولوجيا العربية المعاصرة، ويوصي بأن يكون «المفهوم» مدخلنا لفهم بُنيتنا الاجتماعية وليس العكس كما في الغرب، وهو يُذيب المعرفة أصلاً في فعل تدارك التأخر التاريخي. لكن هذه نظرة وظيفية تعبوية، تجعل فكرنا أيديولوجيا عن أيديولوجيا، وهي مصدر للتشوش وضعف الإبداعية في ثقافتنا في تصوري. أعتقد أيضاً أن هذا الفهم (المحمول على مفاهيم ناجزة في نطاق اجتماعي تاريخي آخر) «مُطابِق» لحاجات المثقفين إلى الصعود الاجتماعي والانتماء إلى النخبة، وليس بحال لـ«حاجات تطور المجتمع العربي» حسب تعابير العروي وياسين الحافظ. المحرّك الإيجابي هنا ليس الابتكار والإنتاجية بل المطامح الاجتماعية والسياسية للمثقفين.
(هذا حين يكون انتقال المفاهيم من الفكر الغربي الحديث إلى أُطُرِنا الاجتماعية المعاصرة، فهل يختلف الأمر حين تنتقل مفاهيم من الثقافة الإسلامية الباكرة إلى مجتمعاتنا اليوم؟ ولا بأية حال! الأولوية هنا أيضا للفكرة الناجزة، للعقيدة، على الإنسان المفكر؛ الأولوية للميراث على الاكتساب، وللنتيجة على الإنتاجية”، لـ«الإسلام» الكامل المكتمل على المسلمين الناقصين المتغيرين. تحمل هذه المفاهيم بنية اجتماعية قديمة، تعكس سيادة المفاهيم العتيقة على الفاهمين المعاصرين المفترضين، وإن كانت من جانب آخر تخدم تطلعات أقليات منهم للسيطرة الاجتماعية والسياسية. الفهم الحيّ والحرّ وحده يتوافق مع ذاتية تتمرد على السلطة الإكراهية. داعش وأخواتها لا تفرض سلطة مطلقة على الأجساد والإرادات فقط، وإنما هي تستولي على فهم مفاهيم الدين وقراءتها وتأويلها).
وأفترض أنه في حالتَي انتقال المفاهيم، من الغرب إلينا أو من الإسلام إلينا، يعني الفهم بالضبط فكّ المفاهيم عن البُنى الاجتماعية المتضمنة فيها، والعمل على تأهيلها لاستيعاب أوضاع وبُنى مغايرة. عدم القيام بذلك، بذريعة أن الحداثة كلّ، أو أن الإسلام كل، كلاهما يؤخذ كُلّاً أو يُترَك كُلّاً، هو قرار سلطة وليس فاعلية فهم حية. بل هو فعل مضادّ للفهم، ومضادّ للحرية أيضاً. الحرية تتأسس على أولوية الفهم على المفهوم، والتبعية وحدها تتأسس على أولوية المفهوم على الفهم.
ومن متابعة شخصية لخطاب وسلوك أيديولوجيي العقل السوريين، يبدو لي أنه لا شيء متحرراً أو حيّاً هنا. هناك مفاهيم لم تتولد عن فاعلية الفهم، تُنشئ عالماً خانقاً غير متحرّر. والجماعة فعلاً منغلقون مثل عصبة دينية، مكتفون بما لديهم، عدوانيون حيال غيرهم، لا يتعاطفون مع من هم خارج العصبة، أنانيون، لا يشعرون بمسؤولية اجتماعية عامة. متشائمون أيضاً. التشاؤم والأنانية يسيران معاً.
وهو ما يكتمل سياسياً بالانحياز لما هو منظّم و«فوق» ضدّ ما هو أدنى تنظيماً و«تحت»، للنظام ضد الجمهرات، للسلطة ضد تمرّد السكان. ويبدو أن ما يُحبط ڤولتيرات زمننا من الراكنين إلى «الاستبداد المستنير» خوفا من «طغيان أكثرية العدد» أنهم لا يجدون حولهم كاترين الثانية أو فريدريك الثاني. لدينا حافظ الأسد وصدام حسين وبشار الأسد وحسني مبارك ومعمر القذافي…، وهؤلاء حكماء ومفكرون في عين أنفسهم، ليسوا في حاجة إلى التعلم من أمثال أدونيس وجورج طرابيشي وجابر عصفور وعزيز العظمة.
وأثناء الثورة السورية أخذ كبار أصحاب خطاب العقل موقفاً أقرب إلى التشكّك. بدا واضحاً أن الثورة تُربك منظوراتهم، أن هناك تطلّباً للحرية والعدالة أتى من الجمهرات المُزدراة، وليس من الطوابق العليا، التي أظهرت بالعكس نزعات فاشية. ظهر العقليون على تشكّك عميق يقارب العداء لمبادرات الجمهور ومطالبه. وهم يبدون أكثر ارتياحاً في شروط تحطم الثورة وصعود إسلاميين فاشيين.
نقد جذري تحرري
يفترض المرء أن الطلب على نقد الثقافة والدين سيرتفع بعد الثورات بالنظر إلى موجة صعود الإسلاميين الجديدة.
لكن من الوجهة الأخلاقية لا يشغل العقليون موقعاً يؤهّلهم لنقد أي إسلاميين متسلطين، لأنهم انحازوا دوماً لمتسلطين آخرين، اضطهدوا الإسلاميين وغير الإسلاميين. ولا تبدو أدوات العقليين المفهومية، وبفعل نجازها ذاته وانفصالها عن فهم حي لتجارب حية، قادرة على قول شيء جديد عن الإسلاميين في موجتهم الجديدة. لقد سبق أن قالت هذه الأدوات كل ما تستطيع قوله، ومنها العلمانية التي استُخدمت شاهد زور على مِحَن مجتمعات بأكملها، شاهداً لا يقول كلمة عما يجري لعموم السكان، ولا حتى عن المذابح والمدن المقصوفة والاعتقال والقتل تحت التعذيب. هل هناك «عقل» يمكن أن يُضفي الشرعية على اعتبار أنظمة الاستثناء الدائمة وتوريث الحكم للأبناء وقتل الناس أشياء لا تستحق الكتابة عنها؟ خيانة العلمانية جاءت من أهل بيتها أولاً.
وبالمثل، لن يتطور نقد الدين على يد هذا التيار الذي تتصف مقاربته للإسلام بأنها مقاربة ماهوية وبرانية، وليست علائقية وتاريخية، أقرب إلى هنتنغتون منها إلى ماركس وفويرباخ، تخوض معركة «حضارية» وحداثية، لا صراعاً تحرّرياً وديمقراطياً.
وبينما أضحى النقد التحرري للإسلاميين، وللإسلام ذاته، حاجة ثورية، فإنه لا شيء تحررياً في مقاربات العقليين وفي تكوينهم وسياساتهم. الفكر التحرري يتولد، بالأحرى، من النقد الجذري لهذا التيار وخطابه.
موقع الجمهورية