خطاب ثان للأسد.. الشكل والمضمون يفضحان سطحية الجهود الإصلاحية
فراس قصاص
الوقوف بتأن عند الخطاب الجديد للرئيس السوري بشار الأسد، أمام مجلس الوزراء الجديد، والتفكير بما جاء فيه، يظهر من وجهة نظري، خلاصة مفادها، ألا تعارض، سواء من حيث الشكل أو من حيث المضمون مع خطابه السابق، ولا جديد حقيقيا يمكن أن يذكر فيه، فالحرص الشديد الواضح على عزل هذا الخطاب عن سياق الاحتجاجات العارمة المطالبة بالحرية، بإخراجه مرتبطا بمناسبة تشكيل الحكومة الجديدة وبدئها في مباشرة أعمالها، وليس بوصفه تعاطيا مع الاحتجاجات، واستجابة لتطورات مرتبطة بها، يبدو وكأنه موقف مدروس، لكنه فاقع ومتقاطع مع خطابه السابق أمام مجلس الشعب عند الشكل الذي يجب أن يتقدم من خلاله، وهو الشكل الذي يفيد الابتعاد ما أمكن، عن الصورة التي رسمتها خطابات الرئيسين المخلوعين في مصر وتونس أيام الثورة، في وعي السوريين والرأي العام العربي، وهو ما يدعو إلى الفهم أولا، بأن الرئيس السوري، وعلى غرار مبارك وبن علي، يرفض الاعتراف حتى الآن بمشروعية الاحتجاجات وتوافر مستدعياتها في مجتمعه، وتاليا بأنه لا يريد أن يعالج الغضب والقهر ورفض الاستبداد الذي يشعر به السوريون، من خلال الدخول الجاد في عملية إصلاح، تعمل على تحقيق مطالب الشعب واحترام إرادته وحريته، وبالتالي البدء في مرحلة انعطاف سياسي في إدارته للشأن السوري لا رجعة عنها.
الاهتمام الكبير بالشكل وفق ما سبق، يظهر أن السلطات السورية، ليست في وارد المراجعة الحقيقية لسياساتها، وإعادة بنية النظام السياسي على أسس جديدة تماما، بل هي في موقع البحث عن آليات امتصاص الصدمة التي أحدثتها الاحتجاجات بها، وبالتالي الاستجابة الناقصة من خلال المماطلة والإعاقة ما أمكن ذلك، والالتفاف على مطالب المحتجين، والدخول في معركة لا تستثني الدراسة النفسية للشارع الثائر خصوصا، والسوريين عموما، وتوظيف كل ما يمكن توظيفه، للحد من حراكه وحيازته للمزيد من الثقة، في تحقيقه لمطالبه عبر رفع وتيرة احتجاجاته.
أما في المضمون فالخطاب لم يذهب عميقا في الاستجابة لمطالب الإصلاح وبقي إلى حد بعيد عند السطح والحدود التي لا تفيد تغييرا جوهريا في الحال السوري، فما هي الضمانات الحقيقية لإلغاء حالة الطوارئ في ظل بناء سياسي عام يرتكز إلى قوى الأمن التي ترى السوري المثالي هو السوري الذي لا يسمع ولا يرى ولا يتكلم، والتي تعتبر الكلمة خطرا داهما والاختلاف تهديدا امنيا وترى أن حقوق الإنسان بدعة ومؤامرة، الإيمان والمطالبة بها عمالة للغرب وللأعداء، وما الذي يكفل تغيير عقلية الطوارئ ومترتباتها، على ممارسة النظام للسلطة وإدارة المجتمع، في ظل سيطرة الطبقة السياسية ذاتها على السلطات الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضائية، وفي ظل الفساد الذي يطغى على الجهاز القضائي ويقوض أسس العدالة وسيادة القانون.
الخطاب أيضا لم يتطرق إلى بدهية ومقدمة قد تكون ذات دلالة على رغبة الإصلاح الحقيقي، وهي إطلاق جميع معتقلي الرأي وطي ملف الاعتقال السياسي، ولم يلغ القانون 49 الذي يقضي بالإعدام على مجرد الانتساب إلى لون سياسي معين، ولم يدع إلى عودة المنفيين طوعا أو قسرا، لأسباب سياسية، ناهيك عن انه لم يشر من قريب أو بعيد، لموضوع تعديل الدستور، خصوصا المادة الثامنة منه، التي تمنح حزب البعث الحاكم الحق وحده في قيادة الدولة والمجتمع، وهو ما يحرم في حال الاستمرار العمل به، الاتجاهات السياسية المختلفة، من المشاركة الفعلية في إدارة البلاد والتأثير في شؤونه، وما يفرغ قانون الأحزاب الذي أشار إليه الخطاب باستحياء وعمومية، من أي مضمون وقيمة.
الدلالات التي تفضح القصور الذي يعتري الرغبة الجادة للنظام في الإصلاح لم تقتصر على ما سبق، بل يمكن القول ان تطرق الرئيس السوري في خطابه، إلى ضرورة العمل بمقتضيات الشفافية من خلال النظر إليها بوصفها إرادة يمكن تحقيقها بصيغة الأمر من أعلى ، وعن طريق تفعيل عمل المؤسسات وتوجيهها ومراقبتها من فوق، هو ممانعة ضمنية على تبني المنهج الديمقراطي في إدارة البلاد، لاسيما أن الشفافية مستحيلة في نظام غير ديمقراطي ولا يمكن تحقيقها من دون توافر القدرة على المراقبة والمساءلة والمحاسبة، وهي سمات يتعذر ضمان إحرازها في نظام سياسي يعيق الحريات العامة ويمنعها، ويحرم العمل السياسي الفعلي.
لكل ذلك يبدو أن الشباب، صناع الإرهاصات المتقدمة للثورة الحقيقية في سورية ضد الاستبداد، الذي يعيق روح الإنسان السوري، ويعيق مقومات الحياة الكريمة التي يتطلع إليها، والشعب الذي خرج في معظم أرجاء سورية، متظاهرا ومحتجا على غياب حريته وسيادته على حياته ومصيره، لا يزال أولئك جميعا بعيدين عن تصديق الوعود بالإصلاحات، والعبارات التي بدت إيجابية في حديث الرئيس السوري، حين اعتبر من سقط في الاحتجاجات السورية، برصاص قوى الأمن شهداء، فأزمة الثقة لدى غالبية الشعب السوري، بالسلطات السورية وبالرئيس السوري كبيرة، ولها في نظرهم ما يبررها في تجربة الأحد عشر عاما من حكمه، وقبضته الحديدية، التي أدار البلاد بحضورها الكثيف، خصوصا في تعامله مع الأصوات المطالبة بالحريات العامة واحترام حقوق الإنسان، حيث كان مألوفا في سورية ما لا يمكنه أن يكون مقبولا في مجتمعات عربية أخرى، من قبيل الإقدام على اعتقال من تجاوز الثمانين من العمر، كالحقوقي البارز هيثم المالح، وشابة صغيرة لم تصل العشرين من العمر، وهي اليافعة المدونة طل الملوحي، ومحاكمتهما وسجنهما مثل المئات من الناشطين، لمجرد التعبير عن الرأي.
ما أظهرته ردود الأفعال الأولية على خطاب الرئيس الأسد في موقع التواصل الاجتماعي، وفي سورية على الأرض التي ضجت بالتظاهرات بعد الخطاب، يشي بان السوريين ربما عرفوا من تجربة ثورتهم الوليدة أن أي تنازلات أقدمت عليها السلطة السورية في الأسابيع الأخيرة، وشكلت مكتسبات أولية، من قبيل رفع الرواتب والمعاشات وتغيير الحكومة، وإعادة الجنسية للكرد السوريين المحرومين منها، وإطلاق بعض معتقلي الاحتجاجات، وإجبار السلطة على التراجع عن بعض الإجراءات التي لم تلق قبولا من قطاعات كبيرة من الشعب، كإعادة المنقبات إلى سلك التعليم، والوعود برفع حالة الطوارئ بسقف زمني لا يتجاوز الأسبوع القادم، هي مكاسب تحققت بضغط ثورتهم وتحت وقع أصواتهم وهتافاتهم واحتجاجاتهم، وهو ما قد يؤشر إلى أنهم عاقدو العزم على المضي قدما، إلى الأبعد في احتجاجاتهم، على الرغم من تلويح الرئيس السوري بأنه سيأمر قوى الأمن بالتعامل الحازم مع التظاهرات، في حال استمرارها وعدم الرضا بما قدمته السلطة وستقدمه في القريب العاجل.
الحق في الحرية أعظم الحقوق قاطبة، حق يؤخذ ولا يعطى، خصوصا ممن تعود إنكاره على المطالبين به، هذا ما قاله ناشطون سوريون وكتبوه في موقع الفيسبوك بعد الخطاب، وهذا ما يبرر من وجهة نظرهم الهتافات التي أخذت تتزايد في تظاهرات الأيام الأخيرة، التي تعلن جهارا في دولة كانت قبل فترة قصيرة جدا مملكة حقيقية للصمت وعالما يغص بالخوف واليأس، ألا بديل يبدو عن إسقاط النظام.
وفي الحقيقة ما لم يقدم الرئيس الأسد فورا على الاعتراف بان المرحلة السابقة من حكمه ومرحلة حكم الرئيس الراحل حافظ الأسد والده، مرحلة جلبت الكوارث على البلاد وأساءت إلى سورية وأهلها، ومن ثم بادر إلى إجراء إصلاحات جذرية من دون مواربة مع توفير الضمانات السياسية اللازمة على الأرض لنجاحها وعدم العودة عنها، سيصبح الشعار الشهير، الشعب يريد إسقاط النظام، مطلب المتظاهرين الوحيد في جميع أنحاء سورية.
‘ ناشط سوري – برلين