صفحات العالم

خــلاص سـوريــا لـيــس بـيـدهــا


نصري الصايغ

Iـ «حافة» الخلاص بعد «الحفة»

لا اعرف أحداً يعرف النهاية.

نعرف البدايات. من درعا كانت، من خطأ مميت اندلعت، بحق إخوة صغار لمحمد بو عزيزي..

نعرف البدايات: استهتار موصوف، تعال فارغ، توصــيف هارب، ادعاء أجوف و… «انها المؤامرة».. نعرف المسار كله. نختلف فقط، في إعطائه المعنى السياسي. والمعاني تولد من المواقع، لا من الوقائع. فكل واقعة تُرى إما من موقع السلطة، ومن حقها، أو من موقع الوجع، وما ابلغه.

نعرف البدايات وما بعدها: ستة عشر شهراً من الاندفاع إلى المجهولَين: الحفاظ على السلطة، وإسقاط النظام. من أجل المجهول الأول، اندفع النظام إلى ارتكاب القبضة الأمنية، والأذرع العسكرية، واندفعت المعارضة إلى طلب النجدة ـ وللغرابة كانت جاهزة ومجهزة من قبل ـ من كل حدب معادٍ ومن كل صوب معتدٍ.

نعرف ان العالم برمته حضر إلى سوريا، وهو الآن مشغول بها، بينما هي تبحث عن أسلحة اضافية، ومعارك تصفية، ومدن تنشطر بين القتلى، بلا أمل.

بعد ستة عشر شهراً، لا أحد يعرف النهاية. لا شيء في الأفق غير السراب وشهوة الدم، وعبثاً تبحث عن زرقة فيه، أو حافة خلاص.

IIـ من يعرف ماذا؟

من يعرف إذا كان النظام سيسقط، أو كيف؟ إذا كان بشار الأسد سيبقى أم سيطاح به؟ إن كان فوق التسوية أو ثمــنها؟ لا شيء يدل على الخاتمة، إذ، من يعرف قدرة النظام وطاقته العسـكرية ووحدته الميدانية؟ من يعرف إذا كان حجم القرار والانشقاق عنه قد يبلغ حدود الإطاحة به؟ من يعرف كم معركة سيخوضها، تليها معارك سيخوضها أيضاً؟ ألن يتعب؟ ألن يتفكك؟ ألن «يتميلش»؟ ومن يعرف المدن التي سيتم استردادها، ثم استردادها، ثم استردادها.. لتبقى بعد كل استرداد، رهينة للموت والفزع، وحاضنة «للثورة» ومشتقاتها؟

من يعرف كم طفلاً سيذبح؟ كم امرأة؟ كم شيخا؟ كم قرية؟ كم «حفة»؟ كم قصيرا؟ كم «حمص»؟ كم… لا نهاية من الاسماء، لقرى ومزارع وشوارع ومدن ومحافظات؟

لا اعرف أحداً يعرف متى تكون النهاية، ومن سيبقى إلى النهاية، إلا انني اعرف أعداداً غفيرة، تعرف أن سوريا ذاهبة إلى الخراب والفوضى والدمار، وان مستقبلها سيكون، على شكل ورثة «الرجل المريض»… فسوريا مريضة، وقد، لا شفاء لها. إذا سقط النظام، فأي فوضى ستحكمها؟

ثم… من يعرف «الثورة»؟ لا يبدو أبداً انها تشـبه رفاق «البو عزيزي» في درعا، ورفاقهم في الانتفاضة السلمــية المقمـوعة، المطــالبة بالحرية والكرامة والديموقراطية، ومحاسبة المسؤولين عن الارتكاب. هل تلك الانتفاضة تشبه ما آلت إليه «الثورة» وقد قبــضت على «مجلسها الوطني السوري»، تركيا وقطر والسعــودية وفرنــسا وأميركا؟ من يعرف مدى تغلغل «المخابرات» في جسم «المجلس الوطـني» في اسطمبــول، يدرك ان زمن النــهايات مؤجل إلى ما بعــد وقت الصـفقات الكبرى. وزمن الصفقات دونه دماء سورية ليست كافية حتى اللحظة.

ثم… من يعرف هذا الشتات من المعارضات، في الداخل وفي الخارج؟ ألم يرثها جميعاً جسم عسكري، يفكر كالسلطة والنظام، أي كما يفكر العسكر دائماً، وتفكيرهم يولد من طلقات بنادقهم، ووقع أحذيتهم؟ هل يراهن «الجيش السوري الحر»، على تدخل خارجي عسكري؟ أم ان رهانه اليوم، يقوم على وهم الحسم العسكري في الداخل ولمصلحته؟ لذا فهو ينتظر تدفق الأسلحة إلى «قواته»، من فيض سعودي وحاتمية قطرية؟ مجنون من يصدّق ان لهاتين المملكة والإمارة، بما لهما من وظيفة تؤديانها، علاقة بتغيير النظام؟ أليس ما ترغبان به هو تغيير سوريا برمتها؟

ثم.. ان مستقبل تعد به «الثورة»؟ الشعارات لا تكفي. التطمينات لا تنفع. الإيضاحات لا تجدي. البيانات «الإسلامية» لا تشــفي و«الأخوان» لا ؟؟. «المجلس الوطني» محل خلاف لا اجماع. العسكرة محل خوف لا اطمئنان. الحلفاء الخارجون مجلبة للشكوك والطعون و… «التآمر» على سوريا، وليس على النظام… فالخارج يريد رأس سوريا، قبل رأس النظام.

من يعرف شيئاً فليعلن عنه… ان السواد يلف الغد السوري. الأفق كالح ومتشح بالدم.

IIIـ كم وكم… يا للهول!

عندما يستيقظ الثأر، يتزيا بالتاريخ لإعطاء معنى للقتل. يستجلب معه منظومة من القيم البائدة. يوظف قيم الماضي الرثة في فحولة الانتقام. يستحضر الله ورسله وأنبياءه وقادته وفقــهاءه ومذاهبه وفرقه وملله ونحله بكل الحمولة البغيضة، ليشرعن الثأر، واعتباره عملاً يتفوّق في «أخلاقيته» الهمجية، على التسامح الرخو، الذي يؤدي إلى الخسران.

عرفنا الثأر في لبنان. طغى على السياسة، اغرق الأديان حتى ذقونها في الوحول الدامية… ألا يحدث مثل هذا في سوريا؟ ماذا تعني «على حافة الحرب الأهلية»؟ انها لا تعني غير الاستئصال؟ يا للمجنون! «ظئر العروبة» دمشق، بلاد الشام الأولى، تستدعي الاستئصال؟

الاستئصال خدمة للانتصار المنكسر…: من مفردات هذا التعبير: «استئصال الإرهاب»؟ من يصدّق ذلك؟ من يصدّق ان في سوريا مئات الآلاف من «الإرهابيين»؟ والشعب ليس إرهابياً، لا احد ينفي وجود «إرهابيين» استدعتهم غيرتهم «الهمـجية» للدين، وبربريتهــم العصبية لإخوتهم في المذهب، لعبور القارات والحدود، والتسـلل والتغلغل في سوريا. من ينكر ذلك ليس اعمى، بل متـواطئ على الحقيقة، انما، من يقول ان «الثورة» إرهاب، متواطئ بصـيغة الجمع، بين السياسة ووسائلها، والعنف وآلياته، وثقافة الالغاء واستئصالها.

أليس لهذا يخشى على سوريا من النــهاية القاتلة: «الحرب الأهلية»؟

فكم وكم سيقتل أطفال؟ هل تتسع الدموع لملء العيون والتعبير عن أحزان باهظة، وآلام شاهقة؟ فكم وكم سيفتك بشعب آمن، تصله الطلقة قبل ان يصل إلى حذائه كي ينجو؟ وكم ستدمر قرية؟ وكم مرة سيدمر حي؟ وكم «باب عمرو» في البلاد، كم دوما وكم حماه وكم حمص وكم ريف وكم القصير وكم بلاد صغيرة تخاف اليوم ان تنام على مخدة واحدة مع ابناء طائفة اخرى؟

نختم المقام هنا بالقول: يا للهول! بل، يا لهول الجريمة. لا أحد بريئا من دم سوريا حتى الآن.

ملحوظة في صيغة سؤال: أين هم زوار العتبات المقدسة؟ أبرياء يخطفون و«ميليشيات الثورة» تذكرنا بعصابات الخطف على الهوية في لبنان.

IV ـ سوريا لم تعد في سوريا

لا اعرف أحداً يعرف النهايات؟

لنترك ولو للحظة، سخونة الموقف وحرارة الألم ومكابرة المشاعر. لنترك ولو لقليل من الاسئلة، الدم السوري والمسفوك، ولنسأل: ماذا بقي من سوريا في سوريا؟

الباقي في سوريا، هو المعارك، ثم التحرير من المعارك، وبأفق لا يتلمسه إلا النظام، المصر على البقاء، وممارسة إصلاح لا يقنع أحداً. (بالمناسبة، أين هو رئيس الوزراء المكلف؟ من يعرفه؟ ولو! هل هذا اصلاح؟). ولا يتلمسه كذلك إلا أهل «الثورة» التي تنتظر اسلحة أكثر دقة وتصويباً واحراقا وتدميراً لآليات الجيش، بهدف انزال خسائر فادحة فيه، أو، بهدف «اعلاء شأن المجزرة»، ليقتنع العالم بأن لكوسوفو شقيقة تدعى سوريا.

غير ذلك لا شيء… لا بحث في الحلول، النظام مقفل برمته. انتخاباته التي اجراها لحسابه، ناجحة في التعبير عن الشلل السياسي والعقم السياسي والاطمئنان المغشوش على المستقبل… لا بحث في الحلول. المعارضة ؟؟. اقفلت أبواب الحوار مع نظام لا يحاور الا ذاته او من يشبهه. وتعوّل على حل يأتي من الخارج.

سوريا الحل المستحيل، حتى الآن، موجودة مع سوريا. ودائماً تردد، حتى الآن، روسيا لن تتخلى عن النظام، حتى الآن، لألف سبـب وسبب، هذا هو موقفها. ومع ذلك، فهي تبحث عن حل، بشكل جدي، وعناصر الحل تتأمن من خلال اتفاق روسي أميركي، على ان لا يستبعد إيران عن حياكة نسيجه. الآخرون «كومبارس» الحل، او مممولو الحسم (أو وهم الحسم). الجامعة العربية لا وزن لها، برغم الثقل النفطي لدول الخليج، والشاطئ المتصالح مع الغرب وإسرائيل. الأمم المتحدة ليــس عندها ابعد من كوفي انان. لقد غيبته سوريا عن العيان. ترى أين هو الآن؟ دول أوروبا ليست في الحسبان. اليونان شغلتها، و«اليورو» أنهكها والديون أكلتها.

لا حل من دون روسيا وأميركا وإيران.

حصة روسيا، هي الأسهل، ومسؤوليتها هي الأصعب، لأنها حاميـة لنظام سياسي، لم يعد يريده العالم، في معظمه. اميركا. المشغولة بانتــخاباتها، لا تجــد خــريطة طريق تستطــيع مشاركــة إيـران في السير فيها معــاً. ما بين أميركــا وإيران، ملفــات مــتراكمة، عـمرها أكثر من ثلاثة وثلاثين عاماً. أما مهمة إيران، فتبدو في غاية الصعوبة.

فما الذي يقنع إيران بسوريا؟ إيران المحاصرة من دول «أميركا» العربية في المنطقة، الملاحقة من قبل دول الخليج، المشتبكة معها في العراق، المتعالية على الدول العظمى في ملفها النووي، لا يمكن «المشي» معها في خريطة طريق واحدة… هذا في ما يخصها كدولة اقليمية. أما في ما يخص دورها الاستراتيجي المرتبط بمنظومة قيمها ومصالحها، فلا يمكن ان تفرط بسوريا، طريقها إلى فلسطين والى المتوسط معاً… لقد دفعت إيران اثمانا باهظة من العقوبات عليها، ولم تفرط بموقف من فلسطين. لا بل كانت الحربة التي تكامل رأسها في لبنان، وساعدها في سوريا، فمن يقنع إيران وكيف وبأي ثمن ان تتخلى عن بشار الأسد ونظامه الذي افسح لها الطريق، للمشاركة في جبهة فاعلة وناجحة ضد إسرائيل واحتلالها، بينما لم تقم «جبهة عربية» إلا على الورق، في مواجهات لفظية مع دولة الاحتلال؟

لا حل في سوريا من دون إيران. ولا حل من دون روسيا، ولا حل من دون أميركا. وما بين هذا المثلث، شياطين القضايا وشياطين التفاصيل أيضاً شياطين شابت شعورها ولم تخلص الى نهاية.

فمن يعرف متى أوان النهاية؟

من يعرف أي السباقين سيفوز في المسافات الطويلة الباقية؟

وما دامت الدول الداعية للحل، لا تجد حلاً بعد، ولأن النظام لا يزال مستقويا بذاته وبغيره، ولأن «الثورة» لا تزال ترى ان معاركها المقبلة حاسمة، ومستقوية بدول ترعاها أميركا، فإن التعويل سيكون على المزيد من الدماء، المزيد من القتل، المزيد من القهر، الى ان يتعب النظام او إلى ان تتقهقر «الثورة»…

الشيء الوحيد المؤكد، حتى الآن، ان الدول المحيطة بسوريا ستكون ممراً لتهريب الأسلحة النوعية، وان النظام، لن يعدم وسيلة كي يستقدم المزيد من الأسلحة، ولو عبر البحار.

لا أحد يعرف متى يقفل المشهد المأساوي، المشــهد مكــتظ. وكل ما فيه، ينبئ بأن اللاعبين، غير قادرين، حتى الآن، عن النزول عن الخشبة…

والجمهور، مسمّر امام شاشات التلفزة وهي تكذب عليه فنونا من المشاهد التي تعيد تمثيل المقتلة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى