صفحات العالم

خيارات الأسد ودور مصر فيها


جميل مطر

كان الفشل في التعامل مع الثورة السورية من نصيب كل الأطراف، ربما باستثناء طرف لعله قرين الطرف الغائب الذي دفع بالثورة المصرية إلى خضم أزمات متتالية ومعقدة.

فشل العرب الذين تعمدوا عسكرة الثورة للتعجيل بها، وإسقاط نظام يتحالف مع إيران وتهيمن عليه طائفة بعينها. أربكوا الثورة ولم يسقطوا النظام ولم يفكوا الحلف ولم يعزلوا الطائفة. وفشلت الجامعة العربية لأنها سمحت بأن يكلفوها بمهمات لا يمكن أن تؤديها بحكم طاقتها المحدودة والحصار المفروض عليها وحرمانها من الصلاحيات اللازمة لتأدية وظيفتها. وكالعادة يحمّلها معلقون عرب مسؤولية الفشل في تنبيه مصر وإيقاظ أجهزتها الديبلوماسية لتساعدها. كذلك فشلت الأمم المتحدة، ولكنه الفشل المحسوب بدقة من جانب الدول العظمى المهيمنة على مجلس الأمن. هو الفشل الذي استغلته هذه الدول بدهاء لتعفي نفسها من مسؤولية الدم المراق ودم أكثر سيراق ويجنبها اتخاذ قرارات لم تكن مستعدة لها، وفي الغالب لم تكن راغبة في اتخاذها.

فشل أيضا النظام الحاكم في سوريا في التغلب مبكراً على الثورة، كما كان يأمل، وها هو يستعد لمرحلة شمشونية حذرنا هو نفسه منها في بدايات عسكرة الثورة. أعرف أنني أغضب أصدقاء في كل مكان حين أقول فشلت قيادات الثورة عندما اقتنع بعضها بكل النيات الوطنية والحماسة الثورية بضرورة العسكرة والتدخل الأجنبي فانحدرت ثورتهم إلى العنف الدموي ومنه إلى هاوية الحرب الأهلية. ولا يفوتني أن أشير إلى اعتقادي بأن الفشل كان أيضا من نصيب العراق وتركيا وإيران وإسرائيل، وإن بدرجات متفاوتة.

[[[[

كانت اللحظة الفارقة في الثورة السورية، حسب رأي زملاء من المحللين، هي لحظة الانفجار الذي أودى بحياة عدد من كبار المسؤولين في الدولة. في تلك اللحظة، قدرت دوائر صنع قرار وأجهزة إعلام أن النصر تحقق للثورة، وكان تقديراً متسرعاً. تصادف التوصل إلى هذا التقدير مع ملاحظات تشير إحداها إلى مغزى نقل المعركة إلى داخل دمشق، وتشير أخرى إلى اختفاء الرئيس بشار الأسد لفترات غير قصيرة، حتى تصور البعض انه ربما رحل بعائلته عن دمشق. وتشير ملاحظة ثالثة إلى ما اعتبروه مرونة في الموقف الروسي. ولكن كانت الملاحظة التي حسمت الرأي الغالب هي المتعلقة بمصرع آصف شوكت، صهر الرئيس، في حادث الانفجار. هذه الملاحظات مجتمعة دعمت فكرة أن لحظة الحقيقة تغلبت وهيمنت.

ومع ذلك بقي عدد قليل لا يعتقد أن الحسم جاء بهذا الوضوح، وبقي عدد أقل جدا، أصر على أن حسماً من أي نوع لم يقع. النظام في رأي هؤلاء تعرض لضربة شديدة جدا، ولكنها ليست قاصمة، ودليلهم على ذلك أن الذين سقطوا قتلى أو جرحى في حادث الانفجار لم يكونوا قادة فعليين لقوى عسكرية ميدانية، حتى آصف شوكت لم يكن يتحكم في فرقة أو مجموعة عسكرية مؤثرة في الحرب الدائرة على الثورة. قيل أيضا إن أغلب أعضاء هذه اللجنة، التي قيل انها اختصت بإدارة الأزمة، كانوا قادة سابقين أو ضباطاً على التقاعد، ومنهم وزير الدفاع الذي جرى العرف في دمشق على أن تكون سلطاته صورية.

للمرة الأولى في خمسة وأربعين عاما بدأ النظام يفترق عن الدولة. وأظن أن أمامه خيارات لا شك درسها واستعد لها وان لم يقع بعد اختياره على خيار محدد منها. أمامه ان يحارب في دمشق وحلب حرباً لا هوادة فيها، وفي الوقت نفسه تكون قد اشتعلت هنا وهناك في دول الجوار وتناثرت حروب أو أزمات صغيرة كافية لإنهاك النظام الإقليمي بأسره وإرباك الدول العظمى وتعريض الاستقرار العالمي للخطر.

أمامه أيضا، وأمام دول وقوى أخرى، أن يجبر إسرائيل على شن عمليات عسكرية ضد لبنان ويستدرجها لضرب مواقع في سوريا نفسها، الأمر الذي لو حدث لأوقع المزيد من الارتباك في صفوف القوى الثورية المسلحة، وربما أدى إلى عزل فصائل في الثورة وشل فعالياتها في الخارج.

وأمامه، ولعله الملجأ الأخير، أن ينسحب برجاله وعتاده ونسائه إلى مواقع جبلية وساحلية محصنة، بعض هذه المواقع توسعت بالفعل خلال الأسابيع الأخيرة من الحرب، وهو مطمئن إلى أن القوات الاجنبية الوحيدة التي تستطيع هزيمته في تلك المواقع، وهي القوات التركية، لن تتحرك لأن قادتها سيرفضون الاقتتال مع العلويين السوريين. والسبب معروف.

تحدثت مع ديبلوماسي عربي مرموق أحترم رأيه وأقدر صدق معلوماته عن خفايا السياسة والحرب في المشرق. قال، إنه لو تحقق هذا الخيار، وراح الأسد يحتمي بقواته في الجبال الوسطى ومواقع محصنة ومفرغة من سكانها على الساحل، فسيكون قد تحقق لبعض إخوتنا العرب الهدف الذي لم يتوقفوا عن التلميح إليه، وهو إخلاء المشرق من أي سلطة حكم طائفية تتعاطف أو تتقارب مع إيران، أو تكون هي نفسها شيعية المذهب. بمعنى آخر إخلاء المنطقة بأسرها لهيمنة طائفة السنة، فبعد سوريا يأتي لبنان ثم العراق لإخراج النفوذ الإيراني منه.

[[[[

نشبت في سوريا ثورة ضد نظام متوحش وفاسد تحولت، أو هي تتحول الآن، بفعل فاعلين أساسيين إلى حرب طائفية، لم يرغب فيها أو يسعى إليها ثوار سوريا أو شعبها. هذه الحرب بدأت تتبلور وتنمو في مخيلة كثيرين قبل سنوات عندما تداول بعض الحكام العرب في شعار القوس الشيعي الذي تسعى إلى إطلاقه إيران. تحدث عنه بطلاقة ملك الأردن وتبعه حسني مبارك.

هنا في مصر لم نكن مهددين، وما زالت الغالبية العظمى من المصريين ونخبتهم الحقيقية، بما فيها النخبة الثورية الجديدة، غير مقتنعة بنظريات الأقواس الشيعية ولا بالمحاولات المستميتة لجر مصر إلى حرب طائفية معها. جاء الدليل في وقع الصدمة على أعضاء عديدين في هذه النخب وبينها «جماعة السياسة الخارجية المصرية» حين وصلهم نبأ يزعم مصدره أن الرئيس المصري الجديد، وهو مستجد على توازنات المنطقة وحساسيات نظام الطوائف والملل، التزم المشاركة في قيادة حلف سني في الشرق الأوسط تقوده حكومات عربية.

إذا صح النبأ يكون السيد الرئيس قد تخلى طواعية أو تحت ضغط، عن رصيد هائل تراكم عبر السنين، يسمح للقيادة المصرية بأن تؤدي دور الوسيط الأمين في النزاعات الطائفية في المجتمعات العربية وما أكثرها وما أصدق النيات عندما أدت مصر هذا الدور. تدخلت مصر في نزاعات بين طوائف في السودان ولبنان والعراق. اليوم بالتزامها الجديد، إن كان صحيحا، تعلن أنها تنوي أن تقيم سياستها الخارجية في عهدها الجديد على أساس طائفي، وبذلك تصبح مصر غير مؤهلة لتلعب دور الوساطة في نزاعات طائفية ليس فقط خارج حدودها بل أيضا داخلها.. بمعنى آخر تعلن مصر أنها غير مستعدة لأداء دور إقليمي معتبر في المستقبل المنظور وغير جاهزة لتستعيد مكانتها كدولة جامعة وحاضنة وعصرية.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى