خيار الثورة السورية في ذاتها أولا../ مطاع صفدي
إعادة تأصيل الطغيان في نفوس ضحاياه بعد أن تمّت استهلاكاته الخارجية المتمثلة رموزها في أجهزة الاحتلال الاستعماري سابقاً، ومن ثم توريثه لأجهزة الحكومات المحلية الديكتاتورية. تتحقق هذه الإعادة في حالات إفلاس الإيديولوجيات ذات الطابع الثقافوي السطحي، وإغراق الوعي الاجتماعي في ساحات الفراغ العقيم من كل منظومة عقائدية أو فكرية متقدمة.
ههنا ينبجس ثانية عمق اللاشعور الابتدائي للمرحلة القبلية السابقة على تشكيل المجتمع، يقود ثقافة الأسطورة كي تحتل قيادة الفكر والسلوك الفردي والجماعي في وقت واحد، إنها المناسبة المثالية لكي تلتجئ النفوس البائسة إلى طوبائيات جانحة أو متسابقة تياراتها نحو تغليب أوهام القوى الغيبية، يصبح طلب العون بمثابة مرجعيات مفارقة، بديلاً عن العجز في تظهير قوى طبيعية ممكنة سواء من الذات الإنسانية المعذبة والمحبطة أو من الجماعة الفاقدة لإرادة المقاومة المنظمة.
إن اجتياح ظاهرة التدين وتحشيداتها المؤسطرة في أنماط سحرية من أسماء المقدس وطقوسه، ونصوصِ تعليماته للكتل الجماهيرية في هذه المنطقة من عالم اليوم المدعوة بالعربية و(الإسلامية)، لا يمكن تفسير هذا الاجتياح غير المسبوق في عصر الحداثة وغزو الفضاء، إلا كنتائج كارثية لعجز المجتمع هذا عن تحقيق أية ثورات جذرية في تعاطيه مع ضرورات التغيير البنيوي في مؤسساته، والأنكى من هذا هو أن تقتنص الظاهرة الاجتياحية لهذا النوع من التدين الشعبوي، مبدأَ التغيير نفسه الذي بات يشكل رهان الخلاص الأخير لهذه المجتمعات المرتهنة لدورات ثابتة من العنف الشعبوي والعنف السلطوي المضاد.
إنه رهان الثورة البنيوية، منذ بداياتها المتجسدة في شعار أحادي ينصّ على تقويض الاقطاع السلطوي. هو أن تُبرز القوى العفوية لهذا النوع من الثورة الجذرية. ولكن ما أن تنزل الجماهير إلى ميادين المدن حتى تعثر القوى المضادة، وفي طليعتها الردة الدينية، على فرصتها التاريخية لكي تركب موجة التغيير الصاعدة، فهذه الردة الفاقدة أصلاً لأي مشروع في ثقافة التغيير السياسي، تحاول أن تقتنص من الحراك الثوري طاقته الطافحة بآمال الخلاص من الاستبداد الفوقي؛ ما تفعله الردة هو استغلال هذه الطاقة، ومن ثمَّ توجيهُها عكس هدفها الوجودي.
لقد تكشفت تجارب الربيع العربي عن كون ثوراته مهددة أولاً بأخطار أعدائها من القوى الشعبوية نفسها المتغلغلة بين صفوفها، بنفس القدر من الأهمية إن لم تتفوق عليها، من قبل أنظمة الحكم الديكتاتورية التي تناضلها، ذلك أن هذه الردة تتسلح برموز العقيدة الوجدانية نفسها التي تتوارثها أجيال مجتمعاتنا الأهلية، وتشكل لها مؤونتها الأخلاقية متوازية مع منظوماتها الثقافية والحقوقية الثابتة من دهور، وحينما يُتاح لقبائل الردة أن تقتنص من قوى الثورة قطاعاتٍ واسعةً من شبيبتها البريئة، فإنها قد تحقق الصدوع الأعمق في قواعد الثورة عينها، تبني نقائضها من مادتها نفسها، تخلق هذا المصطلح البائس: الثورة المضادة، العدوة التقليدية لكل ثورات التاريخ الكبرى. لكن النهضة العربية المعاصرة، بعد أن تحررت أقطارها من غزو واحتلال إمبراطوريات الغرب الآفلة، راحت تنوء تجاربها السياسية تحت وطأة نوع من الغزوات الداخلية المقنّعة، تلك التي تنصبها لها أفخاخ وأفاعيل هذه الثورة المضادة؛ فقد استنفدت نهضتنا الاستقلالية، المعاصرة والتائهة، حُمولتَها من إمكانيات التغيير وفق شبه إيقاع دوري ثابت: كانت كل طفرة تقدمية سياسياً وإقتصادياً، تتبعها نكسة أو هزيمة أو نكبة. لم يكن التخلف مجرد حالة ثقافية عابرة، كانت له جذوره الضاربة في القديم من كل مؤسسة اجتماعية قائمة، ولقد احتمت عوامل التخلف دائماً وراء الادعاءات الدينية.
في عصر الثورات الربيعية أصبحت للتخلف قوى متحركة على الأرض، صارت له أجهزة سلطانية وأجنبية، يبني جيوشاً ضارية، وأخيراً أمسى يستهدف تحديداً ابتلاعَ هذا الربيع نفسه، وتحريفَ وحدة مكوناته من دواخلها. إنها ظاهرة الاجتياح الديني التي ينبغي تسميتها بالاجتياح الطقوسي. فما يحصل للدين القديم العريق هو استبداله بطقوسه العائدة به إلى مرحلة انحطاطه الحضارية.
من هنا صار الأمر سهلاً على الجموع الأُمية أن تتعامل مع الشعائر وحدها، دون الحاجة إلى أية أسئلة عن أصول هذه الشعائر، عن معانيها، وعن آفاق رموزها، عن مقاصدها الدينية أو الدنيوية فالجماعة الهابطة حضارياً تشد مُثُلَ الدين من عليائها، وتتهاوى بها ومعها إلى حضيضها اللاثقافي؛ في حين كان الإسلام الأول يدفع شعوب العرب إلى التمدن، فإن إسلام العصر التقني الراهن، يرجع بشعوبه إلى أطوار البداوة الأولى، فلم تنتشر الأعلام السوداء في أرجاء كثيرة من أجواء هذا الوطن المعذب إلا إيذاناً بانتهاء عصر كامل من نهضة مخدوعة بأوهام ثوراتها، مغدورة بمشاريع قادتها؛ اجتياح السواد علامة انتصار الأموات على من تبقى من الأحياء.
ليس عجيباً إذن أن يُتوَّج القتلُ كأعلى تقليد مشرعن يقع على رأس قائمة المبتكرات (الجهادية)، فقد تم اختزال شريعة الإسلام بأفجع المحظورات التي دأبت هي على تحريمها، ولم تكن لتقوم لها قائمة (هذه الشريعة)، لو لم تجعل من نفسها الأساس لكل عقيدة إنسانية تكافح الطغيان والعدوان في شتى أحوالهما؛ لكن القتل بات عملياً هو خلاصة ألف باء السياسة في ثقافة هذا النوع من الجهادية الدموية، كأنما صار على المجتمع العربي ألا يحكمه إلا قانون الاستبداد وحده، سواء كان هابطاً عليه من قمم الديكتاتوريات المصنّمة، أو صاعداً نحوه من أحط قيعان مستنقعه النتنة.
هل أصبح على الثورة في سورية أن تختار ما بين هذين الاستبداديـْن إما أنها ستضطر إلى استعادة صيغ مشوشة من المصالحات الخجولة والملتوية مع أقطاب النظام الحاكم السفاح الذي قوّض حضارة البلد على رؤوس صانعيها، أو أن الثورة سوف تسلم قيادتها إلى هؤلاء المبشرين بوراثة وتوريث الثقافة القروسطية المختطفة لاسماء الاسلام وطقوسه الأصلية؛ فأرباب ما يسمّى بالمجتمع الدولي لا يرون خلاصاً لمآزق الشعوب المقموعة إلا بتنويع أساليب القمع، وليس أبداً في قهره. فلن يكون لهذه الشعوب ثمة من خيارات أخرى خارج أقفاصها المتوارثة عن أجدادها، وتلك المُصدَّرة إليها من لَدُن مواطن الإشعاع الديمقراطي الزائف، الفائض بأفضاله المسمومة من شمالي المعمورة على بقية أرجائها!
كأنما، سوف يصحو شباب الثورة الحقيقية ذات صباح ليجدوا أنفسهم محاصرين بين شِدْقيْ هذين الخيارين المشؤومين: إما أن يتخلوا عن حريتهم مرة أخرى، وقد كانوا اكتسبوها بفضل ثورتهم بعد أن أفقدهم إياها نظامهم الفاشي المختطف للوطن كله، فيتحولون من ثوار أحرار إلى زمر من القتلة المسلوبي العقول والضمائر، وإما لن يكون أمامهم سوى النكوص على أعقابهم نحو بؤر الطاعة العمياء لأسياد الأمر الواقع في كل زمان ومكان، والامتثال إلى حكمة العيش في كنف التخلّف ومعايشة أربابه مرددين القول: إن شراكة الذئب، ولو في حواشيه، وليس في عرينه، هي أفضل من أن يكونوا من طرائده..
ومع ذلك، وفي الصميم من هذا الخيار الطاغي، قد يبدو أن الأمر ليس قضاء غيبياً مبرماً، هنالك الخيار الثالث الذي اعتادت ذاكرة التاريخ أن تحفظه لصنّاعه النادرين، هذا الخيار الثالث لن يعرفه أحد قبل أن يلتقطه أصحابه أنفسهم، كل ما يمكن أن يفعله أقرب المراقبين لمسيرة الثورة هو تذكير أبطالها المجهولين بأبجدية خيارهم الأول المؤسس لانطلاقة الانتفاضة العفوية، وخلال مسيرتها الجماهيرية السلمية، وقبل أن يطورها عدوها الرئيسي، النظام نفسه، إلى مستنقع المقتلات المتبادلة.
إن الشجرة المتيبّسة أوراقُها، والمتساقطة أغصانُها، لا يمكن إحياؤها من جديد، إلا بالنبش على جذورها الكامنة في عمق التربة النظيفة من أدران سطوحها المستباحة لدواب الغابة ووحوشها المجنونة، عودة الثورة إلى أصولها الجماهيرية الصادقة سوف تطلقها من أُسار الخيارات المشؤومة المصطنعة، المفروضة عليها من العدويْـن الخارجي والداخلي معاً، ثورة من أجل الحرية والكرامة ينبغي أن تكون وتظل ثورة حرّة في ذاتها أولاً.
‘ مفكر عربي مقيم في باريس
القدس العربي