داحس ألمانيا وغبراء الاندماج/ أحمد عمر
اهتديت إلى كرة القدم، مع ثلة من اللاجئين الأفغان، على ضفة نهر الماين، عملاً بتوصية الطبيب الألماني الذي نصحني بالرياضة، حتى أخفف من أوزار الزمن؛ شحوماً ثلاثية وكولسترول.. لاحظت في إحدى الأماسي شاباً يجلس على مقعد على ضفة الملعب، ويعانق صبيةً ألمانية شقراء، عناق ثعبان “البوا” الذي لا يترك فريسته إلا بعد أن يخنقها، ثم أغضيت، تأدباً. رأى كابتن الفريق أني لا أصلح للهجوم، ولا للدفاع، فجعلني حارساً، فتحول محرسي إلى منخل من كثرة الأهداف، وارتفع ضغطي من الغضب والهزيمة. تعبت فطلبت استراحة، وأقبلت على ذلك الشاب الذي كان يعصر الصبية عصراً، ولا أعرف طعم الرضاب الذي كان يرضعه، أهو عصير جوافة أم عسل جيجان؟ اقتربت وانحنيت على نعلي، بذريعة ربط شسعه، واختلست نظرة، ويحي. هذا صاحبي نوري الذي سكنت معه في تركيا في حي أوسمان باشا، وأكلنا خبز العدالة وملح التنمية، ومرَّ المنفى، معاً.
صحت: نوري.. فترك فريسته، ورفع رأسه لاهثاً من العطش، وصاح: خال. ونهض فتعانقنا: ما شاء الله، أنت في ديار ميركل، يا سبعي المصفَّد بالسلاسل.
قال: لحقت بكم، سأروي لك قصة النزوح لاحقاً، فأنا غاطس في “الاندماج”.
عرَّفني بالألمانية الحسناء، وعرَّفها بي، فهمت منه أنَّ خاله كاتبٌ معروف، ويلعب كرة قدم وهدَّاف أيضا، فصافحتني، وأقسم لو مدَّدت بحبل وصلي… إلى نار الجحيم لقلت مدّي:
قلت: ما شاء الله، تتحدث بالألمانية أحسن مني.
قال خال: وجدت أنَّ أفضل طريقة في الاندماج هي الحب. أما ترى ميركل، في كل خطبةٍ وحديث، تحثُّ اللاجئين على الاندماج، وتقول دركسيون ( يقصد أنتغراسيون)، وتطوَّع بعض الألمان لتعليمنا الألمانية، واخترت مجموعة هذه الصبية، والمثل يقول: من علمني حرفاً، كنت له عبداً.
قلت: رفقاً بها يا أخا الكرد، ما هكذا تكون العبودية، كان عناقك السبب في خسارة فريقي الكأس، طريقة عبوديتك غريبة. الألمان يعانقون ويقبلون حبيباتهم في الشوارع، لكن ما تفعله شيء آخر غير الدركسيون؟ هذا تنزيل محرّك، أو لعله تصويج؟
قال: خال، نحن نعاني من مجاعة الاندماج حتى في الوطن، الإناث شرسات ومغرورات، ومهرهنَّ غال، وقد وقعتُ، كما ترى، على قارورة عسل، وأنا أتعلم بسهولةٍ على يديها اللغة الألمانية، والأبجدية الأولى، كيف حال الاندماج معك خال؟
قلت: والله، يا سبعي، معلِّمتي في السبعين من عمرها، وهي نازيَّة، وجلد على عظم، وقد سقطتُ في كل الامتحانات.
قال: على راسي خال.. سأعرفِّك على زميلة معلمتي، وسرعان ما ستندمج معها اندماجاً تاماً، يجب ألا نخذل ميركل خال… هذه مهمةٌ وطنية.
بلعت ريقي من جمال الألمانية العارية. سأل خال: ما شاء الله، تركض مثل الغزال، كم هدفاً أحرزت؟
قلت: أي أهداف يا سبعي؟ لم تمس قدمي الكرة. فريق الهزارة كلهم شبّان في أول العمر، وذاك الهزاري الذي يشبه السلوقي مزَّق مرماي بالأهداف. رأوني لا أنفع في الهجوم “فجعلوني حارسا”، مثل فريد شوقي في فيلم “جعلوني مجرما”. تمزَّقت شباكي من الأهداف، أنا “فزاعة عصافير” لا أكثر، لا فريقي البشتوني يعدّني موجوداً، ولا فريق الهزارة الخصم يبالي بي. تبادلنا أرقام الهواتف، حكت معه الغزالة الألمانية، فاعتذر مني، وقال خال: آسف، سنغادر، لدينا حصة “اندماج” ليلية، وغمزني غمزة دونها قاموس البحر.
نبهته إلى العتمة في الممر المشجَّر، وحذّرته من حوادث اصطدام، فقال: ولو خال، معي قنديل البر المضيء هذا، وتحذرني من العتمة.
كان قد اندمج وصار شاعراً أيضاً. مضى يعانقها ماشياً، وهو يمصُّ مصّة من العسل، ويده تعبث بأخطر هضبتين في كوكب الأرض، من الخلف، قلت في نفسي: تالله ما وجدت كاليوم، عشرة أهداف في مرمامي من الهزارة، وألف من نوري.
العربي الجديد