صفحات المستقبل

داريا: مدينة للحياة

 

أيمن شروف

 كل ما في ذاكرة الناس عن داريا، لا يتخطى مشاهد المجزرة التي ارتكبت فيها، في 20 آب من العام 2012. في سوريا، تحوّلت الدماء إلى الحدث الوحيد، ذلك القتل المفتوح على اللانهاية، أخذ معه كل شيء. رصاصات الغدر المنهمرة فوق التراب الدمشقي، لم تترك للسلم مكاناً، رصاصات اغتصبت كل ما كان في ثورة حاربت عرياء، طويلاً وطويلاً، قبل أن تُلبس ثوب الرصاص، مجبرة لا مخيّرة.

في داريا، رغم كل مآسي المجزرة، الكثير الكثير مما يُروى اليوم وغداً. في تلك المدينة الاستراتيجية، المحاذية لمطار المزة، الباعث في الأرض قتلاً وخراباً، الكثير من حكايات ثورة مدنية بدأت، ليس منذ اليوم، أو منذ سنتين، تاريخ بدء الثورة السورية، بل من حوالي عشر سنوات، حين انطلق رضوان زيادة ومعتز مراد وغيرهم، في رحلة ثورة محلّية رفضاً للفساد والرشوى. يومها، كانت سوريا كلّها تحت حديد “المخابرات” المنتشر فوق الأرض وتحتها. يومها، هرب من هرب، وسجن من سُجن. ضاع حلمهم المحلّي، أو تأجّل.

حراك المدينة، بدأ مع 100 متظاهر. 25 آذار 2011، تاريخ أوّل تظاهرة سلمية. في داريا الشعب السوري واحد، “ما بينذل”. هو هو، بالرغم من كل ما حصل إلى اليوم، فوق آلام القتل والتصفية والاعدامات الميدانية. كأنّ المدينة تسمو بمواطنيها فوق كل شيء. لا مكان بينهم للتطرّف، في المدينة، تنوع قليل، كان ولا زال. أهلها، على طيبتهم، وبالرغم من كل الحقد المسكوب فوق رؤوسهم، يُحبّون الحياة.

يروي أحد الناشطين، الآتي من المدينة المحاصرة، حكايات كثيرة. يروي عن المجزرة، عن التشرّد، يحكي عن التهجير، عن مدينة 280 ألف نسمة، لم يبق فيها سوى بضعة آلاف، منذ أيّام كانوا حوالي عشرة. يتناقصون باستمرار، منهم من يذهب إلى فوق، إلى السماء. منهم من يهرب إلى تحت، إلى أرض تحميه من ويلات تنزل من فوق، من سماء أخرى، من طائرات المزّة. المطار القريب، الذي يرونه من نافذة غرفهم. عفواً، كانت غرف، هي اليوم أشبه بالشرفات العارية.

في داريّا، خطة النظام، قبل تحوّل الثورة إلى السلاح، كانت واضحة. اعتقالات ليست عشوائية إطلاقاً. أكثر من 160 ناشطاً سلمياً، زجوا في أقبية الظلام. هؤلاء كانوا نبض الحراك الثوري المدني. دخلوا إلى السجن في الشهر السادس من العام 2011، خرج قلّة منهم في الشهر الثالث من العام 2012. واحد منهم، يروي: دخلنا على ثورة سلمية، وخرجنا لنرى السلاح وما يفعله السلاح. دخلنا لأننا قاومنا بصدورنا العارية، خرجنا لكي نرى مشاهد مختلفة تماماً عمّا بينيناه في الأشهر الأولى. يقول: اعتقل النظام كل قيادات الصفين الأول والثاني، وترك البقية. يعلم أن هؤلاء ردات فعلهم ستكون كما يشتهي، سيركضون إلى السلاح عند أوّل فرصة. وهذا الذي حصل.

إذاً، غاب الحراك المدني في المدينة لفترة طويلة، خرجت العراضات العسكرية، أوّلها في 25 كانون الثاني 2012. في أيار من العام نفسه، تمّ تفجير أوّل موكب أمني. حينها، بدأ النظام يراقب داريا، عينه على الحراك المسلّح، وأخرى على المدينة الاستراتيجية. المدينة التي منها ترجيح كفة المعركة.

هكذا، دخل السلاح إلى داريّا، كان الناشطون لا يزالون في أقبية النظام. حصل ما لم يكن بالحسبان. قذيفة هاون نزلت على القصر الجمهوري، استدعت بدء الاقتحام العسكري لجيش النظام. في 24 آب دخلوا المدينة، لا شيء يُذكر، الكتائب المقاتلة انسحبت سريعاً (الفيحاء وشهداء داريا)، لم يجد النظام الشيء الكثير، في اليوم التالي، أتى قرار قتل ما يُمكن قتله. 25 آب، ذكرى لن تمحى من ذاكرة أهالي المدينة، ولا من ذاكرة السوريين مجتمعين. 800 شهيد، معظهم وجدوا مذبوحين، أو مكبلين وعدمين. نساء، شيوخ، أطفال، رجال. من جامع أبو سليمان الديراني إلى جامع الرحمن، مروراً بالمنازل والملاجئ والأقبي. أحداً لم يسلم من الإجرام.

هول المجزرة، استدعى العقل في داريا. كل هذا الدمّ والبطش، لم يوقظ الغرائز. عاد الناشطون بعد أن فعل النظام فعلته وانسحب من المدينة. الخطوة الأولى، محاسبة الجيش الحرّ المسؤول عن المجزرة بسبب غياب التنسيق في ما بين كتائبه، يقول الناشط. شُكلت هيئة قضائية، حوكم من حوكم. ثمّ، بدأت التجربة الجديدة ـ الفريدة في العمل الثوري المدني منه والمسلّح: المجلس المحلّي. الحاضنة الشعبية في مواجهة السلاح.

قد تكون الفكرة لا تعني الكثيرين. قد تكون أيضاً ليست مغرية لأهالي بنّش على سبيل المثال. هناك حيث الأطفال ينادون بالذبح. هنا، في داريا، مجلس أعاد العمل الثوري إلى طريقه الصحيح. ضُبطت حركة السلّاح، نُظمت. عادت المظاهرات لتحمل شعارات الدولة المدنية والابتعاد عن الشخصنة والطائفية. توحدت كتائب الجيش الحر تحت راية كتيبة شهداء داريا. المجلس المحلّي، انصرف إلى العمل المؤسساتي. عادت الثورة وحراكها وشعراتها الأولى. في داريا، بقي الشعب السوري واحد.

منذ أكثر من ثلاثة أشهر، عاد جيش النظام لاقتحام المدينة عبر كفرسوسة. انتهى زمن المظاهرات، اقتنع المجلس المحلّي بالأمر، وانصرف لتنظيم الثورة المسلّحة. المقاومة المسلّحة. اتُخذ القرار بضرب الحواجز التي أقامها النظام، ودخلت المدينة في نفق الكرّ والفرّ بين الجيش الحر وجيش النظام. سماء داريا صباحاً، مليئة بالطائرات التي تقصف البشر والحجر، لتمهّد يومياً لمحاولات الاقتحام البرية، من دون أن تنجح إلى اليوم.

داريا، بأهميتها الاستراتيجية، للنظام والمعارضة، بقيت نموذجاً للثورة الحقيقية. لم يدخلها فاتح ولم يخرج منها أمير. مدينة غيّاث مطر، بوروده ومدنيّته، قدمت النموذج الأسمى لثورة انغمست بالحديد والنار. هي تلك المساحة التي يجتمع فيها كل سوري، لا يعيش بالذلّ ولا يريد المستقبل وحيداً. داريا، المدينة التي لم تعطَ حقها، ترفض إلّا أن تكون، مدينة الحياة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى