“داعش” في عيون مثقفين سوريين…قوافل الرقيق وكوميديا الدماء/ سامر محمد اسماعيل
بدا هذا المصطلح (داعش) للوهلة الأولى كاسم لنوع من مبيد الحشرات، ثم توضّح على أنه تنظيم تكفيري متخصص بإبادة الإنسانية – يقول الروائي (خليل صويلح) ويضيف: «الشعار مكتوب بخط بدائي بما يتواءم مع تطلعات حقبة إسلامية أولى تطيح ما بعدها بفتاوى شرسة؛ تضع المرء حيال خبل سريالي يصعب هضم فحواه. كنّا ننظر إلى هذا الموديل المسربل بالسواد بوصفه صورةً مجازية للكفّار في الأفلام والمسلسلات التلفزيونية، وإذا به يتجوّل بيننا خارج الشاشات، بعربات الدفع الرباعي والسيوف والبلطات. مشهدية غرائبية ترسّخ حضورها فوتوغرافياً وميدانياً، وتالياً هي ألبوم مفتوح على الرعب والتنكيل والبربرية».
المفارقة أن هذا التنظيم يمزج بآنٍ واحد، مفردات ما بعد الحداثة عن طريق استثمار الميديا والأسلحة المتطورة، وإمكانيات الصورة من جهة، وإعادة إنتاج وتثوير وتفعيل مفاهيم قروسطية – يتابع (صويلح): «مشهد الأقفاص البشرية على الأسطحة، أو مشهديات الإعدام، تشير رمزياً إلى أننا في سيركٍ متجوّل، أو لعبة جهنمية ابتكرتها عقول شيطانية بأحدث التقنيات، محمولة على رافعة سلفية منقرضة، أو هكذا توهمنا».
علينا أن نصدّق إذاً، ونحن نتفرّج على هيكل عظمي لديناصور منقرض، بأنه سيستيقظ ويحطم خزف الأرواح التائهة، من دون أن يقاومه أحد – يضيف صاحب (ورّاق الحب): «المعضلة أن هذا التلخيص لاسم التنظيم، لم يعد يخصّه وحده، هناك إيديولوجيا موازية تتمدّد في الجوار، مناصرة له، بنوع من الثأرية لأنظمة ظالمة، إيديولوجيا فانتازية أيضاً، أتت من كيمياء عبثية، أفرزتها يسارية مدحورة، وليبرالية عرجاء تتغذى على فواتير مدفوعة سلفاً».
حتى الآن لم يتمكن المفكرون العرب من إنجاز ما نسميه بالإصلاح الديني، وبالتالي بقي النص المقدّس رهينة العصور التي ولد فيها منذ مئات السنين، ومادمنا لم ننجز تلك المرحلة من الإصلاح على غرار ما فعلته أوروبا، فإن العنف الذي تسوغه تلك النصوص سيعود في كل مرة أكثر شدة ورعباً- يرى الشاعر (زيد قطريب): «أن مشكلة العنف ليست في الأساس سياسية، إنما فكرية معرفية ستبقى تظهر عبر تنظيمات متطرفة مختلفة الأسماء والتفاصيل الهامشية؛ لكنها متفقة في الجوهر وهو الانضواء تحت الراية السوداء نفسها. إنها راية عدم إنجازنا الإصلاح وعدم قدرتنا على قراءة النصوص المقدّسة ضمن الزمان والمكان الذي ولدت فيه! «.
هذا من الجانب المعرفي، لكن من جوانب أخرى فإن أصحاب تلك الرايات السوداء- كما يشرح (قطريب): «وجدوا التربة الخصبة من الوجهة التربوية والتعليمية والقانونية؛ عندما قامت الدول الوطنية بتنصيبها على استراتيجيات كتابة المناهج ووضع الخطط والمشاريع التي كانت تتفق كلها على تكريس العنف والكره والقناعة؛ وذلك بامتلاك الحقيقة لفئات خصّها الله بمفاتيح الجنة».
لم تتجرأ الدول الوطنية التي تسمى أحياناً بالعلمانية؛ على مجابهة هذه الإشكاليات المعرفية؛ بل اضطرت إلى تقديم التنازلات من أجل كسب ود أولئك المتطرفين أصحاب المعارف البائدة الذين هم في الحقيقة مشاريع عنف مؤجلة؛ يمكن أن تنفجر في أية لحظة وهذا ما حدث فعلاً- يعقب الشاعر قطريب فيضيف: «المجتمعات العربية، ستقوم كل فترة بتفريغ هذه الشحنات الهائلة من العنف والقتل، وستبتهج كثيراً لرؤية بحيرات الدم، لأن المشكلة في النصوص التي تتكفل بتكوين ضغط بركاني يحتاج للتنفيس كل فترة في حال لم نتحمل تبعات الإصلاح وننجزه بالشكل الأمثل».
العنف في النصوص أولاً؛ تلك النصوص تحتاج عقولاً نقدية تفككها بالشكل الصحيح- يكمل (قطريب) شارحاً: «كل ما يمكن أن يحكى عن مشكلات سياسية واستغلال الدول الإقليمية والغربية للتنظيمات المتطرفة وأولها (داعش)؛ هو مجرد تفاصيل وتداعيات لمشكلة أساسية أنتجت كل ذلك وهي المشكلة المعرفية، فإذا كان أولئك المناصرون لهذه الأفكار يحتلون المناصب في الإعلام والتعليم والثقافة، نبشركم بولادة تنظيم متطرف باسم مختلف في كل مرحلة لكن تحت الراية السوداء نفسها»!
كوميديا الدماء
لو لم يكن (أبو بكر البغدادي)؟ لنتخيل كميّة الرؤوس التي لن تخرج من عمائمها أو قبعاتها؟ لنتخيل كمية الصواريخ التي ستتآكل تحت غبار مخازن السلاح؟ ولنتصور العالم الجديد بجغرافيات العالم القديم؟ ـ يتساءل الروائي نبيل ملحم ويضيف: «كأن العنف ملكية حصرية لذلك الرجل الغامض المسمى (أبي بكر ناجي)، وقد رسم المسار الأيديولوجي لحركة الساطور في كتابه (إدارة التوحش)، وقد رسمت بدورها كوميديا الدماء، ولكن حين يسقط الضوء أو يعلو، وتنكشف الحكاية، فالمرجّح أن كل ما لداعش من خشبة العرض هو تعميم الخوف، لتكون هذه الـ(داعش) تلك الشركة المساهمة التي يلعب على إدارتها الكل.. نعم الكل، ومن هو من لم يستثمر في داعش»؟
لم تحن اللحظة الاستخبارية التي تحكي عن طعم البقلاوة التركية والكباب التركي في طريق الداعشيين الشيشان، الأفغان، إلى نصر إخوتهم في الله والشام وقد احتضنها العثماني الجديد- يتابع الروائي السوري (ملحم): «لم تحن اللحظة الكاشفة عن الاستثمار الإيراني في داعش، وقد كان حضنها ذات يوم حين كانت من أجنّة (القاعدة)، تسليحاً وتدريباً وفي فقه الله، أما عن الرياض، فما زال السؤال الطازج وعنوانه (الكبتاغون) بديلاً عن الطحين، ولا بد أن نتعلم كيف يأخذ (الكبتاغون) طريقه إلى انتحاريين يقابلون الله وهم في ذروة المزاج، وليس من اليسير إخفاء الأمريكاني وقد اخترع (أسامة بن لادن) و(أبو مصعب الزرقاوي) وحين انفلتت كابول من يد السوفيات، فباتت اليد الأمريكية أضيق من اتساع التنظيم الإلهي وقد اتكأ على ما يكفي من (القول الفصل)، والمنزّل من الله في قتال المشركين».
من لم يستثمر في (داعش) وقد تحوّلت معركة الشام من معركة خبز وأيادٍ محروقة، إلى معركة تقود خط الزلزال الذي سيغير الخريطة على امتداد الشرق، فليست (دولة داعش) سوى واحدة من لعبة (بازل) جديدة لجغرافيّات الألفية الثالثة، فيما الأعراس الدبلوماسية في (فيينا) اليوم تتساءل: عن (الكيفية التقنية لاجتثاث داعش)، بإغراق الروس، أم بقوّة حلف الأمريكان؟ عبر جغرافيات أنقرة أم عبر مال الرياض؟ – يسأل نبيل ملحم مضيفاً: «لمن سيكون السقوط مع إسقاط داعش للسوخوي الروسية في إعادة إنتاج مأزق جديد للروس الذين تآكلوا في التجربة الأفغانية؟ ومن هو المطلوب تمزيقه اليوم في حرب الأشباح هذه؟ أم هو سقوط للأمريكاني وقد احتكر الكوكب في قطبٍ وحيد؛ فيما لن يتسع العالم الجديد إلى قطبين. إن خطوط الغاز كفيلة بإشعال حرب عالمية ثالثة لن تكون إلاّ بـ(داعش)»؟
مضحك ذاك الكلام الذي يقول بأن (داعش) خصم الجميع، هي للجميع المقتتل، وثمة ما لا تحكيه السياسة ويحكيه الخيال، وكان للرحابنة كلّ الخيال. داعش – كما يصفها (نبيل ملحم) هي (راجح) الرحابنة، ومختارها هو المستثمر، وكان علينا إعادة الإصغاء لهؤلاء الذين قرؤوا التاريخ دون استعانة بعيون الاستخبارات».
إعادة فرانكشتاين
أن تقرأ الدولة الإسلاميّة في العراق والشام (داعش) ثقافيّا، أي كظاهرة تكرّس قيما ً ثقافية، وتحطّمُ أخرى، فلا بدّ أن تبدأ من (اقرأ) الأولى، مرورا ً بخدعة ِ أسلحة الدمار الشامل في العراق، وحقيقة دور القاعدة في أحداث 11 أيلول 2001. وأن تبقي عينك مفتوحة، في كل محطّة، على أن مشهد تحطيم تمثال (صدّام حسين) مُجرّد تعثر ٍ في أداء نص سوريالي- يناقش الناقد ياسر اسكيف هذه الأفكار من وجهة نظر مغايرة: «(داعش) في ثقافتنا اليوم لم تعد الطارئ الآيل إلى الزوال، كما ظنّ البعض عند نشوئها وبدء تمددها. إذ لم تعد مُجرّد حالة عنفيّة تكفيريّة، بل تعدّت الأمر لتغدو الصفحة المطوية التي انكشفت من تاريخ تشكل الدولة الإسلامية في أطوارها الأولى؛ وهذا ما دفع الغالبيّة العظمى من المرجعيّات الإسلاميّة إلى رفضها، مُعليةً في الوقت ذاته من شأن الإسلام المعتدل. هذا الإعلاء الذي يؤكد بكل بساطة، ودون جدوى، أن هنالك أكثر من إسلام. وهذا لغو لا طائل منه، ذلك أن التمايز ليس في المنظومة، أو الكليّة، الدينيّة، إنما فيما بان وخفي».
المسألة السابقة جعلت من خلق (فرانكشتاين) جديد أمرا ً سهلا ًوممكناً. ربّما تمثّل هذه إجابة على السؤال الذي يبدو كأحجية يتساءل (الشاعر اسكيف) أيضاً: «ما الذي جعل من (داعش) ظاهرة ممكنة الحدوث الآن؟ ذلك أن (داعش) التي نعــاين وجــودها في هذا الراهن الدموي، هي اجتماع عدد من الإرادات السياسيّة والثقافيّة، التي كان لها الشكل الأمني في التحقق».
الغابة الموحشة
إنها ببساطة ثقافة الموت التي ترفض كل مظهر للحياة لا يشكل خدمة وتعزيزا ً لها؛ فلقد كانت المرأة من أهم محظورات (داعش) وموانعه وأكثرها خطورة- تقول الشاعرة السورية (سوزان علي) وتضيف: «لم يكفِ فِرق الموت هذه أن التاريخ كان ضد المرأة منذ ولادته حتى يومنا هذا، بل جاء ليعيد نضالها الطويل ضد الاستبداد والعنف والظلم إلى نقطة الصفر».
الشاعرة السورية (علي) تروي للسفير مما شاهدت وسمعت ورأت في وسائل الميديا ومن أصدقاء مقرّبين ما قامت به (داعش) من جرائم كوكبية بحق سورية وإنسانها فتقول: «شهود عيان يروون قصص بيع النساء في الساحات، لقاء مع مغتصبات نجحن بالهروب من سكاكين رُفِعت فوق أجسادهن؛ صورة مفجعة يظهر فيها رجال التنظيم وهم يرجمون امرأة بالحجارة حتى الموت بحجة أنها زانية؛ حوار مع إحدى النساء التي أقنعها (داعشي) بأنها ستنال الإسلام إن ضاجعت أحد عشر مجاهداً في صفوف التنظيم»! .
فوق ما كان يسمى قديما (دكة العبيد)، تقف اليوم نسوة من مختلف الأعمار يرتعشن في انتظار لاحمٍ جديد- تعقّب (سوزان علي) وتضيف: «يفحص الداعشي وينبش الجثة الحيّة أمامه، أسنانها مثلا قد تغير عملية البيع كلها، وكقطعة ثياب بالية، يجري لمسها، طيّها، فحصها من الداخل، ولن يتردد (الزبون) أيضا في السؤال عن عمرها، إذ أن الفتاة التي يتراوح عمرها بين الثامنة والخامسة عشرة هي الأغلى ثمناً، وهي غالباً ما تكون من نصيب القاتل الأمير».
في هذه الغابة الموحشة الذي يقتل أكثر، سيكون من نصيبه الفتاة الأحلى والأصغر سناً، كي ينسى جرائمه قدر ما استطاع، ويتابع قتله فوق جسدها الغض- كما تشرح الشاعرة السورية (علي) مضيفةً: «المرأة في عمر الأربعين مثلاً ستكون من نصيب المتقاعس عن القتل، كي لا ينسى شحذ رمحه وحقده جيداً في المرة المقبلة. أجساد ربطت (داعش) حقيقة وجودها بعدد الرؤوس المقطوعة يومياً».
سوق نخاسة حقيقي بالقرب منا- تسرد (سوزان علي) موضحةً: «سوق يرفده سوق آخر يشبهه كثيراً، لكن الفرق هنا أنه سوق ملابس وليس نساء، ملابس يستطيعون شراءها وعيونهم مغمضة، ليسوا في حاجة لفحص شيء، فاللون واحد والقَصة واحدة، لقد أقرت (داعش) بمنع بيع المزخرف والشفاف والمثير من ملابس النساء، منعت حتى بيع (الجينز)، وحرّمت على الرجال العمل في تلك المحلات. أيضاً ألغت عرض الملابس النسائية على واجهة المحلات، نعم… وما الحاجة إلى دمية تعرض صيحات ألف سنة مرت؟ القديم لا يصلح عرضه على الجديد حتى لو كان دمية، مادام على الطرف الآخر سوق طويل ليس من الدمى، إنهن بشر من لحم ودم، يستطيع (الزبون) أن ينتقي إحداهن ويلمس جِلدَهُن، بل له أن يقيس جسده فوق أجسادهن الطريّة، بل وحتى يفاوض البائع حول السعر».
إغراء المرأة لدخول (داعش) دخل في أوائل برامج التنظيم- كما تخبرنا الشاعرة (علي): «لقد خطط (التنظيم) لجذب المرأة غير المتعلّمة؛ وكان الشرط الأول هو التشــيؤ؛ على قاعــدة: كوني أي شيء ضد نفسك ضد جسدكِ وأطيعي زوجــكِ حتى لو طــلب منك تفخــيخ جسدكِ للقيام بعملية انتحارية، وهذا هو ما تم سنّه كقانون حقيــقي فيما بعد».
ليس هناك من متخيل أكبر وأعمق في أحلام داعشي أكثر من المرأة- تتابع (علي): «يحبونها من بين كل الغنائم ويخافونها من فرط ضعفهم، في ساحات الشوارع يجولون مطلقين صيحاتهم، مرددين قوانينهم، يحيطون الفتنة بالمتخيل الساخن عنها، ربما كانوا يخافون من عودة المجتمع أمومياً كما كان؛ بالقرب منا يحدث كل هذا ونحن جالسين في البلاد التي تسميها (داعش) اليوم: (بلاد الكفر)».
السؤال بلون الدم والجواب جاء زهرياً بلون دم الضحية الفاتر الخائف البريء- تختم (علي) كلامها: «هذه الأخبار ليست في الجريدة، بين السطور والفواصل، نحن أيضاً لسنا في الحبشة ولا في قصر خليفة أموي، لسنا في سفينة قرب البحر الأحمر تتجه إلى أمريكا منذ قرون طويلة، تحمل الرقيق إلى تجارها، كل ما يحدث بالقرب منا هنا؛ تحت هذه السماء الرمادية».
(دمشق)
السفير