صفحات الرأي

عصر البداهة في التقنية… وفي الأفكار أيضاً/ إبراهيم غرايبة

 

 

تعكس قدرة الناس جميعاً على اختلاف أعمارهم ومستوياتهم التعليمية والاجتماعية على استخدام الحواسيب والموبايلات الذكية والمتقدمة «البداهة» في تصميم هذه الأجهزة والبرامج ليكون في مقدور الإنسان العادي استخدامها من دون حاجة إلى مختصين أو إلى خبرات تقنية وعلمية معقدة.

عبقرية «البداهة» القائمة على تطوير الأجهزة والبرامج وتبسيط عملها في الوقت نفسه لتكون أكثر ذكاء وأقل تعقيداً تجيء محصلة لمعرفة الإنسان بنفسه، ثم تحويل هذه المعرفة إلى تقانة مطبقة، ما اقتضى بالضرورة تداخلات في العلوم والاختصاصات، ثم نشأت لدينا إضافة إلى تلك الأجهزة المدهشة، مكتبة علمية تقدم العلوم المعقدة في لغة وأوعية يستوعبهما المثقف العام البعيد من مجالات هذه الاختصاصات، وعلى رغم أنها مكتبة وجهت ابتداء للعلماء والمختصين ليكون في مقدورهم الاطلاع الكافي على العلوم والاختصاصات الأخرى، إلا أنها أنشأت بطبيعة الحال ثقافة علمية هائلة ومتقدمة في محتواها، لكنها في هيئة تبدو مبسطة تمكّن المستخدم من استيعابها بكفاءة. هذه «البداهة» صارت تغير في خريطة العلوم والاختصاصات وفي تقديمها وانتشارها لتتحول إلى ثقافة عامة متداولة بمقدار أو قريباً من تداول الحواسيب والموبايلات… لكن الأكثر أهمية وخطورة في ما يحدث (سوف يحدث) عندما تقدم المنظومات المعرفية والدينية والثقافية والعلمية في تطبيقات «بدهية» تمكّن المستخدم من استيعابها وتطبيقها بالقدرة نفسها على استخدام آيفون وآيباد. ماذا يحدث للعالم عندما يقدم الدين بــ «بداهة» علمية وتقنية تجعل فهمه واستخدامه وتطبيقه متاحاً لكل أتباعه والباحثين في شأنه؟

تقنية «المعنى» تنشئ المعنى بطبيعة الحال، ولن يكون هذا المعنى بالضرورة هو المعنى الذي كان قائماً قبل استخدام التقنية. من هنا، فسوف تكون المنظومة الدينية مفتوحة لسؤال المعنى والجدوى والبقاء والبحث، من رجال الدين ومؤسساته إلى محتواه وتطبيقه، ومن ثم علاقة الأفراد والسلطة والجماعات والمجتمعات بالدين، ويبدو بدهياً أنه يتحول أو يعود شأناً فردياً خالصاً لا علاقة به للسلطة والمجتمعات والجماعات، ذلك أنها وببساطة علاقة تاريخية وليست ضرورية ولا بنيوية نشأت من الحاجة إلى فهم الدين. فقد كان هؤلاء الكهنة والمفتون والعلماء والأئمة والدعاة والواعظون والخلفاء والحكام والقادة الاجتماعيون والسياسيون يكتسبون مواقعهم وأهميتهم ومواردهم وسلطاتهم من حاجة الفرد إلى الدين وعجزه عن تحقيق حاجته هذه.

المعرفة وحاجة الفرد إليها جاءت بكل هذه المتوالية العملاقة الصلبة المتماسكة، لم تكن سوى ما يشبه تشكل الصخور القوية الراسخة من الفضلات والبقايا الآدمية! هذا الاستغناء الفردي عن المؤسسات ليس مقتصراً على الدين، فتقنيات المعنى والمحتوى تغير في الحكومات والمدارس والجامعات وفي الحاجة إلى مهن وأعمال كثيرة في الإدارة والتعليم والرعاية الصحية والصيانة. فالإنسان القادر على أن يعمل لنفسه وبنفسه أو المتجه إلى ذلك يعيد تشكيل المعابد والوزارات والمؤسسات والوظائف الدينية والاجتماعية. لكنه وبالتأكيد في فرديته هذه سوف ينتج معنى وفهماً وتطبيقا جديدةً للدين مستمداً من معرفته وحاجاته الذاتية وما يتوقعه. ومؤكد أيضاً أن الحديث عن مكافحة الإرهاب والتطرف سيتحول إلى معرفة تاريخية تثير العجب والصدمة مثل أكل لحوم البشر.

وغالباً، فإن المصممين والمعدين للبرمجيات الدينية الإسلامية سيكون معظمهم من غير المسلمين، وفي ذلك فإن حريتهم النقدية ستجعل «المُسْتَخْدِم» يعيد بداهة محاولة تمييز المقدس وغير المقدس والإنساني والديني وينشئ أيضاً فقهاً وتأويلاً جديدين ومختلفين للمقدس مستمداً من معرفته الجديدة والمختلفة، ولم يعد صعباً تقدير هذا الفهم للدين في نسخته الناشئة عن الحوسبة والأنسنة.

لقد أنفق العالم في محاربة تنظيم «القاعدة» ومشتقاته أكثر من اثني عشر تريليون دولار، ولعله لا يحتاج إلى أكثر من عُشر ذلك لا ليقضي على الإرهاب فحسب، بل ليجعل من الناس في هذا الجزء من العالم شركاء فيه يتقبلونه ويقبلهم!

* كاتب أردني

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى