صفحات مميزة

“داعش” و نشوء التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب: مقالات مختارة لكتاب سوريين

 

 

هل يعوِّم داعش الأسد؟ رهانات ومخاطر/ شمس الدين الكيلاني

اعتمد نظام الأسد خطة إستراتيجية شاملة للقضاء على ثورة الكرامة والحرية السورية، لم يتوقف ولا لحظة عن العمل وفقها وبالاستناد إليها، منذ أن انطلقت هذه الثورة في آذار / مارس 2011. قامت هذه الإستراتيجية على فرضيتين أساسيتين اختلقهما النظام ليوظّفهما في معركته ضدّ الثورة والشعب الثائر؛ الأولى أنّ ما يجري في سورية “فتنة طائفية” هدفها ضرب الأقليات والتنكيل بها وإزاحتها عن موقع الشراكة في السلطة والقرار وإرجاعها إلى الأزمنة البغيضة، أزمنة “أهل الذمّة” على الأقلّ، أو القضاء عليها بالمذابح والمحارق على الأغلب. والفرضية الثانية مرتبطة بالأولى وتكملها، وهي أنّ ما يحصل في سورية ليس ثورة ديمقراطية واحتجاجًا مدنيًّا ديمقراطيًّا، بل هو عمليات إرهابية شنيعة تقوم بها مجموعة من الإرهابيين الأصوليين والسلفيين الجهاديين، هؤلاء هم من يقوم بهذا “الشغب” و”الفتنة” في سورية. ومن هنا، فخطر هؤلاء وأولئك من المتطرفين التكفيريين يتجاوز حدود نظام الأسد ليشمل المنطقة المحيطة بسورية، ويعمّ العالم بأسره.

بدأ الإعلان عن هاتين الفرضيتين والترويج لهما منذ خطاب الأسد الأوّل في مجلس الشعب والموجّه إلى أهل درعا الذين دعاهم قائلًا: “ساعدونا على وأد الفتنة”. ثمّ نبّهت إلى خطورتهما مستشارته بثينة شعبان في أوّل إطلالة لها بعد انطلاق التظاهرات الشعبية. راح بعدها إعلام النظام يعيد إنتاج هاتين الفرضيتين وتداولهما على نطاقٍ واسع، متّخذًا منهما قاعدة موجّهة لنشاطه.

كان كلام النظام موجّهًا أساسًا إلى الغرب، طالما أنّه كان على ثقة بأنّ قيادتَي روسيا والصين وإلى جانبهما قيادة إيران، سوف تدعم طرائقه في قمع الشعب الثائر. لقد عوّل النظام على إقناع الغرب بهاتين الفرضيتين، مستغلًّا خشيته من ظاهرتَي: الفتنة وتعني لديه اضطهاد الأقلّيات، والإرهاب ويقترن لديه بـمذبحة 11 أيلول / سبتمبر. فإذا اقتنع الغرب ببروز هاتين الظاهرتين في الثورة السوريّة، فسيكسب النظام العديد من المزايا ويتجنّب العديد من المخاطر أيضًا (العزلة، والإدانة، والحصار الاقتصادي، واحتمال مساعدة المعارضة سياسيًّا أو عسكريًّا، والتدخّل ضده). ولقد حصل النظام على بعض النجاحات مستغلًّا تردّد الإدارة الأميركية وتمسّكها بإستراتيجية تغيير سلوك النظام دون المسّ بأسس النظام نفسه. ولم تتغيّر هذه الإستراتيجية مع تفاقم جرائمه واستفحال مأساة السوريين. وقد تُرجمت هذه الإستراتيجية إلى صيغة معلَنة: بقاء النظام مع ذهاب الأسد. وعبّر عنها “جنيف1″؛ بالتأكيد على مرحلة انتقالية تقودها هيئة سياسية كاملة الصلاحية، لا دورَ للرئاسة فيها.

لكن، استمرّ الأسد في تطبيق إستراتيجيته: “الأقليات، والإرهاب”. وعمل على إثارة النزعات الطائفية. واستقدم الميليشيات الشيعية من كلّ صوب. وزاد من شحنة الاحتكاك الطائفي وصولًا إلى انفجار مذابح طائفية مدوّية، وتشريد نصف الشعب السوري. وهو ما غذّى النزعة الطائفية والأسلمة في ثنايا الثورة، في الوقت الذي عمل فيه على تشجيع نموّ ظاهرة الإرهاب واستفحالها. وكما عمل من قبل مع شاكر العبسي الذي أرسله إلى مخيّم البداوي في طرابلس فور إطلاق سراحه من سجونه، وتسليمه معسكر حليفه (أحمد جبريل) ليعلن إمارة إسلامية شمال لبنان، وليسهل بذلك “عودة” الأسد، “ليحلّ” المشكلة اللبنانية مجددًا على طريقته، فإنّه شجّع في مواجهة الثورة السوريّة، على تشكيل نسخة أخرى من “فتح الإسلام”؛ ليُقنع الغرب بضرورة عودته إلى الميدان ليطبّق معالجاته “المجرّبة” للقضاء على الإرهاب. وهكذا تعاون مع المالكي ليطلقا من السجون السوريّة والعراقيّة ما يلزم من “إرهابيين وتكفيريين”؛ لإقناع العالم بأنّ ما يحصل في سورية هو الإرهاب بعينه.

ولقد أبدى نظام الأسد استعداده الدائم للقيام بدورٍ “وظيفي” للغرب على قاعدة الحرب المشتركة ضدّ الإرهاب، وهو مستعدّ إن احتاج الأمر لرعاية الإرهاب حتى يخلق الحاجة إلى دوره للقضاء عليه. فكان النظام أوّل من شجّع تنظيم “داعش” ودعمه، أو على الأقلّ اشترك معه في ضرب الجيش الحرّ والتوسّع على حساب مناطق سيطرته، مع تجنّب الاحتكاك العسكري معه إلى أن أصبح داعش في موقع قوّة يؤهّله للتقدّم على حساب الجيش الحرّ والنظام معًا. لهذا شهدنا في شهر آب / أغسطس الماضي مواجهات دامية بين داعش والنظام أسفرت عن سيطرة داعش على مطار الطبقة في محافظة الرقة.

وبدلًا من أن تنزع مذبحة الكيماوي في الغوطة كلّ أهليّة سياسية للنظام، عملت الصفقة الروسيّة – الأميركية على نزع فتيل الأزمة برضوخ النظام لقرار تسليم السلاح الكيماوي. فتصاعد الكثير من الأصوات التي دعت إلى تأهيل الأسد. ولكنّها فشلت، بخاصة بعد أن خسر النظام سياسيًّا ودبلوماسيًّا في مؤتمر “جنيف 2”. ثمّ أقفلت الانتخابات الرئاسية خطوط التسوية. وقد حاول فيها النظام فرْض وقائع “التجديد/التأهيل” للأسد على الأرض. لكن الردود الدولية والإقليمية كانت مخيّبةً للآمال، حين تعامل الغرب معها بوصفها مهزلة نتائجها صفرية على صعيد الاستثمار السياسي.

صدمة صعود داعش

استفاق العالم مذهولًا إزاء صعود داعش، وامتداد سلطته المتحركة من سدّ الموصل إلى سدّ الطبقة، وشروعه في تصفيات طائفية وعرقيّة على نطاقٍ واسع، يمكن أن تضاهيَ، إن استمرّت، ما فعله النظام السوري من فظائع بالسوريين. أثار هذا الصعود الخارق الفزع في العالم وفي الإقليم؛ فتقدّم النظام محاولًا استثمار الحدث العاصف لمصلحته. ولِمَ لا؟ فلقد حانت اللحظة المواتية التي عَمِل لها منذ ثلاث سنوات. وبالفعل خرجت بعض الأصوات الغربية غير الرسمية في هذا الاتّجاه. لكنّها لم تثمر بعد.

تقدّم في هذه السانحة من الزمان الوزير المعلم الذي شطب أوروبا من الخريطة من قبل؛ ليعلن استعداد النظام للقيام بوظيفة القضاء على إرهاب داعش بالتعاون مع الغرب، ويضع نفسه في خدمة تطبيق القرار الدولي 2170. صحيح أنّ النظام مُتّهم بأنّه مُشعل الحراق وصانع الإرهاب، لكنّه في المقابل قادرٌ على القضاء عليهما. ولقد ضمّ وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، جهوده إلى جهد النظام في توجيه الدعوة إلى الدول الغربية والعربية إلى تجاوز موقفها من الأسد والتعاون معه من أجل محاربة داعش.

غير أنّ العالم لم ينس كلّ مافعله نظام الأسد، وما زال يعدّه جزءًا من المشكلة، والمولّد الحقيقي للإرهاب ولانبعاث الطائفية والتشدّد الديني. لهذا رأى كلٌّ من وزير الدفاع الأميركي تشاك هيغل ورئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة الجنرال مارتن ديمبسي، أنّ التعاون غير وارد بين واشنطن والنظام السوري الذي هو “جزء من المشكلة” وليس جزءًا من الحلّ. وضمّ المدير السابق لوكالة الاستخبارات الأميركية مايكل هايدن صوته إلى رافضي التعاون مع الأسد بقوله إنّ خيار التعاون معه مدمّر. وهو الموقف نفسه الذي اتّخذه وزير الخارجية البريطاني فيليب هاموند الذي ردّ على دعوات بريطانية من أجل تجاوز الموقف من الأسد والتعاون معه لمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية بقوله إنّ هذا الأمر لن يساعد حتى لو التقت الدول الغربية مع الأسد موضوعيًّا في محاربة عدوٍّ واحد[1]. لكن ربّما يكفي الأسد في هذه المرحلة وضع التعاون معه على طاولة النقاش، ويبقى يراهن على تغيُّرٍ ما في المستقبل، لطالما المعارضة (سياسية، وعسكرية) لم ترتّب مركزًا قياديًّا واحدًا لقرارها ولإستراتيجيتها المدنية الديمقراطية، لتكون بديلًا مقنعًا للنظام يؤهّلها للاستفادة من الضربات الموجّهة لداعش، لتملأ الفراغ الذي سيتركه وراءه بدلًا من أن يحتلّه النظام.

تطلعات ممكنة للمستقبل

على الرغم من كلّ ما يصدر في هذه الأيّام من تصريحات متناقضة عن مسؤولين في واشنطن وفي دوائر القرار الأميركي، والخبراء والإعلام الأميركي والغربي، يبقى من الصعب تصوّر تطبيع العلاقة مع النظام؛ وذلك لأنّه قام بدور أساسي في نشوء هذا التنظيم الإرهابي بهدف تشويه الثورة، كما يصعب إعطاء النظام المسوغات لما فعله من دمار وقتل السوريين واعتقالهم. فإلى الآن لا يوجد مؤشّر جدّي للتطبيع مع النظام.

يروّج أنصار النظام وحلفاؤه حاليًّا، في نوعٍ من التمنّي، لفكرة أنّ نظام الأسد هو الشريك الوحيد الموثوق به والقادر على خوض الحرب ضدّ إرهاب داعش والنصرة، وأنّ الولايات المتحدة الأميركية والغرب عمومًا في حاجةٍ إليه أكثر من حاجته إليهما لكسب الحرب؛ لذا أصبح في وضعٍ يمكّنه من أن يفرض شروطه، وأنّ التطبيع معه ليس منّة بل حاجة. غير أنّ هذه التصوّرات تسيّرها الرغائب أكثر ممّا تقودها الوقائع. في المقابل يذهب آخرون بتحليلاتهم إلى حدّ الجزم بأنّه مثلما أسقط داعش بصعوده الخارق المالكي ونهجه الطائفي، فإنّه سيُسقط الأسد كشرط لا بدّ منه لمحاربة داعش وكسب الحرب ضدّه؛ فقد جاءت ردّة الفعل الغربية صادمة للأسد ولحلفائه. لقد تبادل أوباما وهولاند أقوالًا حاسمة في استبعاد الأسد؛ “وذلك لأنّ بقاء الأسد والتعامل معه سيزيد من حدّة الاستقطاب وسيجذب ’مجاهدين‘ جددًا إلى ميدان المعركة”[2].

كما توصّلوا إلى استنتاج مفاده أنّ نهج المالكي الطائفي هو المحرّك الأكبر لانبعاث ظاهرة داعش؛ وصار يميل الكثير إلى القول: إنّ نهج الأسد الطائفي وبطشه دون ضابط ولا حدّ بالشعب السوري هو المولِّد الحقيقي للتطرّف والعامل الأكبر في دفع قوى كبيرة في الثورة السوريّة إلى خطّ الأسلمة والتطرّف. ولعلّ هذا النقاش الذي لن يتوقّف من الآن فصاعدًا، سيقود إلى استنتاج أن لا تسوية ممكنة مع بقاء الأسد، وأنّ المرحلة الانتقالية تحتاج إلى تطبيق خطّة جنيف1 بحرفيتها، والتي تتضمّن وجود هيئة انتقالية كاملة الصلاحية، بما يعنيه هذا من استبعاد سلطة الأسد، ولكنّها في الوقت نفسه لا تستبعد نظامه بالجملة. وهو ما يفتح باب العزاء لإيران ولروسيا.

لكن يَلوح في الأفق سيناريو ثالث؛ فانطلاقًا من حقيقة أنّ النظام لم ينضج بعد لقبول تسوية على أساس تصوّرات جنيف1، فسيبقى الأمر معلّقًا على المستقبل، وعلى مجريات الزمان ومفاعيله، وما يصاحبه من تبدّلات في الوقائع والموازين.

[1] روزانا بومنصف، “النظام السوري يندفع في حملة ’التعويم‘ مكاسب بالنقاط على وقع ’الرفض‘ الغربي، النهار، 26 آب /أغسطس 2014، على الرابط:

http://newspaper.annahar.com/article/164706-

[2] أسعد حيدر، “هولاند: لا خيار بين بربريتين”، المستقبل، السبت 30 آب/أغسطس 2014 ، العدد 5135 ، على الرابط:

http://www.almustaqbal.com/v4/Article.aspx?Type=NP&ArticleID=630155

صرّح أوباما: “يجب أن نعطي الناس خيارًا بديلًا من ’داعش‘ والأسد”. وأيضًا: “لا أرى سيناريو يمكن للأسد أن يكون قادرًا فيه على تحقيق السلام والاستقرار في منطقة ذات غالبية سنّية”. وصرّح الرئيس فرنسوا هولاند أمام سفراء فرنسا في العالم، فقال: “قلت أمامكم العام الماضي إنّ عدم التحرّك يفيد المتطرفين، وقد ثبت كلامي… اليوم ازداد الخطر لا بل أصبح هائلًا”. وقال: “لتكن الأمور واضحة، بشار الأسد لا يمكن أن يكون شريكًا في مكافحة الإرهاب؛ فهو الحليف الموضوعي للجهاديين”، فـ “لا خيار ممكن بين بربريتين” (داعش والأسد). و”على المجتمع الدولي أن يسلّح قوّات المعارضة التي تحارب”.

 

باحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في وحدة الدراسات السورية المعاصرة. له العديد من الدراسات الثقافية والسياسية، منها صورة أوربا عند العرب في العصر الوسيط، وصورة الشعوب السوداء في الثقافة العربية، وصورة شعوب الشرق الأقصى في الثقافة العربية، وتحولات في مواقف النخب السورية من لبنان1920 -2011، والشيخ محمد عبده، والإسلام وأوروبا المسيحية القرن 11-16، والعود الأبدي، والعديد من الدراسات الأخرى

المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات

 

 

 

سؤال ضروري لمستقبلها: في أي سياق تشكلت داعش؟/ حمزة المصطفى

(1-2)

في موسم الكتابات العابرة عن تنظيم الدولة الإسلامية المعروف إعلاميا بـ “داعش”، نادرة هي المقالات الرصينة، التي تستدعي انتباهك وتجذبك إليها، وتقدم إضافة نوعية في تفكيك هذه الظاهرة “الطارئة”. في 20 أغسطس/آب 2014، نشر الباحث السعودي، نواف القديمي، في موقع “العربي الجديد” مقالة مهمة من جزأين (أقرب إلى أن تكون دراسة) بعنوان “سؤال كبير.. كيف تشكلت داعش؟”، وصف فيها عقيدة التنظيم، وما يمكن أن نسميه تجاوزًا “مرتكزاته الفكرية”، وعلاقته بالسلفية الجهادية المعاصرة، وقدم تحليلاً سيكولوجياً لأعضائه وقيادته، وتكتيكاته القتالية، عدا عن علاقته بالفصائل السورية والعراقية.

وإذا كان القديمي قد انطلق من مقالة الدكتور، عزمي بشارة، والتي، على ما يبدو، فتحت نقاشًا جادًا عن التنظيم خارج التنميطات والتراشقات الإعلامية والاستثمار السياسي، فإن هذا المقال ينطلق من مقولة القديمي ان “الهمّ المعرفي والبحث عن مصلحة الجماعة العربية ومستقبلها هما اللذان يضعاننا، اليوم، أمام سؤال: كيف تشكّلت داعش؟”، وأبدأ من الإجابة المختصرة، والتي صاغها بشارة في ختام مقالته عن السؤال العقيم، وهي “أن هذه الحركات لم تنشأ في ظل نظام ديمقراطي، ولا في ظل ثورة ديمقراطية، بل نشأت في ظل الاستبداد والاحتلال، وعنف النظام الوحشي ضد الثورات. ولا شك لديّ في أنها قوى زائلة، بحكم مخالفتها منطق العصر والتاريخ، وتناقضها مع حاجات الناس ومتطلباتهم، وصدامها مع طبائع البشر في المجتمعات العربية المتمدنة”.

وكون القديمي اختصر علينا جزءاً كبيرًا مما يجب أن يُكتب أو يقال، فإن السؤال الرئيسي والضروري، وأحاول هنا الإجابة عليه في مقالة “اعتبرها مكملة” هو: في أي سياق تشكلت داعش؟ لاستشراف مستقبل هذا التنظيم ومصيره.

ظرف الاحتلال .. من الجماعة إلى الدولة

لا نبتغي التفلسف، لكن تنظيم قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين، والذي أعلن عنه في أكتوبر/ تشرين الأول 2004 ليس هو ذاته جماعة “التوحيد والجهاد”، التي أسسها أبو مصعب الزرقاوي بعد الاحتلال الأميركي عام 2003، وإن كان امتدادًا لها.

كما أن دولة العراق الإسلاميّة، والتي أعلن عنها في أكتوبر/ تشرين الأول 2006، ليست تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين في صيغتها التطورية. والدولة الإسلامية في العراق والشام، التي أعلن عنها أبو بكر البغدادي في 9 إبريل/نيسان 2013، ليست دولة العراق الإسلامية، وإن بدت في صور كثيرة لها هي ذاتها، وكذلك هي الدولة الإسلامية أو “الخلافة الإسلامية”، والتي أعلنها أبو محمد العدناني 29 يوليو/تموز 2014. لكل حكاية من الحكايات السابقة سياق، يختلف عن الأخرى.

والسياق لا يرتبط فقط بظروف البيئة المحيطة والتوازنات القائمة، بل بالخلافات الفكريّة، التي عاشها التيار السلفي الجهادي منذ أفغانستان، وحتى اليوم وغلبة إحداها، لتصبح المحرك الرئيسي لسلوك هذا التنظيم الجهادي، أو ذاك، ولنهج قياداته.

كما أن تركيزنا على السياق يقودنا، مباشرةً، إلى نقطة تبدل الأعداء والحلفاء واختلاف تصنيفاتهم؛ تابع، مبايع، حليف مؤقت، استراتيجي، عدو حليف، عدو مسكوت عنه، عدو يؤخر قتاله، عدو قريب، عدو بعيد.

ويقودنا أيضًا إلى صراع ” الأنا” و الـ”نحن”، والذي شغل التيار السلفي الجهادي على مدار عقود، وبلور اتجاهين. أولهما تقليدي؛ ونظر له أبو بكر ناجي في كتابه “إدارة التوحش”، يركز على مركزية التنظيم، وحصر العمل الجهادي تحت رايته، وبإشراف أميره المركزي. وثانيهما تحديثي؛ تبناه أبو مصعب السوري، في كتابه “دعوة المقاومة الإسلامية”، ويركز على فكرة الجهاد والمقاومة دون التنظيم وهيكليته، وعلى الحصيلة الحسابية للعمل الجهادي دون إيلاء اهتمام كبير بـ “إقامة الحكومة الشرعية”.

وتحضر في سيرورة داعش التطورية كل هذه التباينات، والتي سوف نستعرضها سريعا، قبل أن نتوقف عند محطة الثورات العربيّة. بدايةً، من الصعب على الحركات الجهاديّة أن تعمل وتنشط في ظل نظام استبدادي- أمني، كالنظام العراقي السابق، أو النظام السوريّ، حتى إذا توفرت لها بيئات حاضنة. وبناء عليه، لا يمكن الحديث عن الجهاد والجهاديين في العراق إلا بعد الاحتلال الأميركي وتداعياته، وانهيار الدولة العراقية، وحالة الفوضى السياسية والأمنية التي سادت، والمقاومة التي نشأت ضد الاحتلال، وضمت عراقيين ومتطوعين عرباً، دفعتهم حميتهم لمواجهة الغزو، وجهاديين عرباً وأجانب، استقطبوا تحت عنوان “التصدي للغزو الصليبي”.

فضمن هذه الظروف، زرع أبو مصعب الزرقاوي البذرة الجهادية الأولى؛ بتأسيس جماعة “التوحيد والجهاد”، وحدد هدفها الرئيسي بمساندة فصائل المقاومة العراقية ضد الاحتلال الأميركي- البريطاني.

ولما وجد نفسه في تناغم وتطابق في الفكر والأهداف، “قتال العدو البعيد”، مع تنظيم قاعدة الجهاد، انضم الزرقاوي إلى التنظيم، وبايع أميره، أسامة بن لادن، وأصبح “أميرًا” لفرعه العراقي. لم يأت تأسيس فرع مستقل للقاعدة في العراق، تتمتع قياداته بصلاحيات واسعة، من فراغ، بل جاء ترجمة لأطروحة تبناها الظواهري، للتكيف مع المستجدات الدولية، بعد غزو افغانستان وفقدان التنظيم المقر الآمن ومعسكرات التدريب، وتتخلص في أن يحوز كل بلد نسخته الوطنية من “القاعدة”.

وعلى الرغم من تبعيته، فإن خلافات ذات أبعاد أيديولوجية وتكتيكية واستراتيجية، طرأت بين قيادة القاعدة والزرقاوي، لا سيما بعد نزوع الأخير إلى جعل تنظيمه “مشروع سلطة”، وشحذه بمرتكزات فكرية تركز على الصراع الهوياتي (السني – الشيعي)، بدلاً من اطروحات القاعدة عن قتال العدو البعيد.

وفي هذا السياق، مثلت دولة العراق الإسلامية، والتي أعلن عنها عام 2006، نموذجاً جهادياً مختلفًا، سعى أميرها آنذاك، أبو عمر البغدادي، إلى تطبيق “أحلام” الزرقاوي ومشروعه السلطوي، وأفكاره باستهداف الشيعة والمخالفين لأفكار التنظيم، فانتشر التكفير وعم القتل، وتوسعت الانتهاكات بحق كل من يثبت أنه لا يبايع أو لا يقدم الولاء والطاعة للتنظيم، مما دفع بن لادن نفسه إلى الاعتذار عن هذا النهج.

الطموحات السلطوية، ونهج “التوحش” و”النصرة بالرعب” وتوسع الانتهاكات ونفور البيئات الاجتماعية الحاضنة، وفّرت للولايات المتحدة فرصة سانحة للقضاء على التنظيم، فيما عرف بمشروع باتريوس، أو ما يسمى “الصحوات”، والذي انتهى بطرد تنظيم الدولة من معظم المدن العراقيّة، وعزله في الصحارى منبوذاً، واغتيال قادته، واعتقال كوادره، بحيث لم يعد للتنظيم خلال ( 2008-2010) أي تأثير عملياتي باستثناء مفخخاته، والتي استهدفت الأبرياء أكثر ما استهدفت الأميركيين والجيش والشرطة العراقية. ونتيجة لذلك، وللحفاظ على بقائه، استعان تنظيم الدولة بضباط عسكريين بعثيين، تبوأوا مناصب قيادية، كالعميد محمد الندى الجبوري، وحجي بكر ..إلخ.

سياق الثورات .. من بيداء العراق إلى دولة الشام

غداة انطلاقاتها، فوجئت الحركات الجهادية بالثورات العربية ونهجها السلمي ونجاحها “المؤقت” في تونس ومصر واليمن في تغيير الحكام، من دون إسقاط الأنظمة أو تغييرها.

آنذاك، مثلت الثورات السلمية تحدياً للسلفية الجهادية، ولطروحاتها “العنفية” و”الانقلابية” للتغيير. كما أن حركات الإسلام السياسي بلورت أفكارها في إطار الدولة الوطنية “القطرية”، مما وجه ضربة قاسية للمفاهيم الأممية، وادعاءات الجهاديين بأن المسلمين يتوقون إلى دولة “الخلافة” التي تجمعهم.

ومن جديد، بدأ الجدل والنقاش ضمن التيار الجهادي عن الأساليب الواجب اتباعها للتكيف مع المستجدات الطارئة. ومن يراجع النقاشات الجهادية، وقتئذ، يلاحظ انزياح تنظيم القاعدة إلى التركيز على النشاط الشعبي، بدلاً من النخبوي، عبر ظاهرة “الأنصار”، كما حصل مع جماعة “أنصار الشريعة” التونسية في بدايتها. كما يمكن الإشارة إلى رسائل بن لادن المعروفة إعلاميا بـ “وثائق أبوت أباد”، والتي تدعو إلى اجتراح استراتيجيات مختلفة من أجل تحريض الناس، وتشجيعهم على التمرد على الحكام بشتى الأساليب، وفي مقدمتها الاحتجاج السلمي.

كل ما سبق، كان يؤشر إلى تغيرات عميقة في بنية تنظيم القاعدة وتفكيره، لا سيما وأن نماذجه الإقليمية فشلت في تقديم نموذجٍ جهادي ناجح. لكن مسار الربيع العربي وتطوراته، وتحول الثورات في ليبيا وسورية إلى العسكرة، شكل فرصة للحركات الجهادية، المتعطشة إلى الفوضى، لتعيد إنتاج نفسها في هذه الساحات.

وبخلاف سورية، لم تكن ليبيا ساحةً جاذبة للجهاديين، لأن التدخل العسكري الخارجي بداية ثوراتها، ولم يستسغ الجهاديون القتال في صف واحد مع عدو، “دول حلف الناتو”، يكفرونه ويقاتلونه.

أما في سورية، فتوفرت للحركات الجهادية، وفي مقدمتها دولة العراق الإسلامية، جميع الظروف الملائمة للبدء بمشروع جهادي جديد؛ نظام أمعن في استخدام كل الأسلحة ضد الشعب المنتفض على حكمه، ميليشيات طائفية ارتكبت المجازر، انتقال الثورة بشكل شبه كامل إلى الكفاح المسلح، خروج مناطق واسعة عن سيطرة النظام، بروز خطاب طائفي مضاد، تشكل فصائل إسلامية تنتمي إلى التيار السلفي الجهادي.

في هذا السياق، دخلت طلائع النصرة، بقيادة أبو محمد الجولاني، وبتكليف من أبو بكر البغدادي، إلى سورية أواخر عام 2011، لاستكشاف البيئات الاجتماعية المستعدة لقبول الخطاب الجهادي، والتغلغل فيها. ولما توطّنت بشكل سريع، مستغلة حاجة المسلحين السوريين إلى العون العسكري، وانتقلت من دون عوائق إلى خطوط القتال، أعلن الجولاني في 24 يناير/كانون الثاني 2013 عن تأسيس جبهة “النصرة”. ونظرًا لمعرفته بسورية وبطبيعة مجتمعها، ابتعد الجولاني عند تأسيس “النصرة” عن النماذج الجهادية السابقة وأساليبها، ولا سيما نموذج العراق المنفر.

مثلت النصرة عند تأسيسها نموذجاً تجديدًيا في التيار السلفي الجهادي، يتبنى، إلى حد كبير، أفكار أبو مصعب السوري في كتاب دعوة المقاومة الإسلامية، فكانت فصائل وسرايا جهادية تجتمع على فكرة الجهاد، وتقاتل ضمن فهم “دفع الصائل ومقاومة العدو”، من دون أن ترفع عناوين عريضة، كإقامة الدولة الإسلامية وتحكيم الشريعة. وعلى الرغم من تبعيتها الفكرية لمدرسة القاعدة، والتنظيمية لدولة العراق الإسلامية، فإن مؤسسها تجنب “المبايعة” الصريحة لأي منهما، وابتعد عن سلوكياتها في العلاقات مع المجتمعات المحليّة، أو في العلاقة مع الفصائل.

(2-2)

نظر أبو بكر البغدادي، زعيم تنظيم دولة العراق الإسلامية، إلى جبهة النصرة، غداة تأسيسها على أنها “مشروع منقذ” لدولته، ومكمل لأحلامه السلطوية. وعندما حققت حضورا وانتشارا واسعين، وأصبحت من أقوى الفصائل المسلحة في سورية، اعتبرها “تهديدا” له ولدولته، ولاسيما أن نموذجها المناقض تماماً لتنظيمه حاز إعجاب ومباركة المنظرين والدعاة في التيار السلفي الجهادي، وفرض على زعيم “القاعدة”، أيمن الظواهري، التواصل مباشرة مع قيادتها من دون الرجوع إليه. في هذا السياق، ولخوفه من خطط أبو محمد الجولاني بالاستقلال التام عن تنظيمه، أعلن البغدادي في التاسع من إبريل/نيسان 2014 عن حل كلٍّ من “النصرة” و”دولة العراق الإسلامية” ودمجهما في إطار واحد سماه “الدولة الإسلامية في العراق والشام”.

أحدث قرار الدمج انقسامًا بنيويًا في النصرة، فغالبية المقاتلين الأجانب “المهاجرين”، وفي إطار فهمهم لتراتبية البيعة (البغدادي مؤسس، والجولاني مبايع) بايعوا البغدادي، وانضموا للتنظيم الجديد، على الرغم من رفض الجولاني الدمج. وفي سبيل الحفاظ على تنظيمه، ووقف انشقاق المقاتلين عنه بحكم تراتبية البيعة، سارع الجولاني إلى مبايعة الظواهري (الظواهري مؤسس، والبغدادي مبايع) طالبًا منه التحكيم. لكن قرار التحكيم، والذي جاء لمصلحة النصرة، لم يوقف استنزافها وعزوف المهاجرين عنها، فخطاب البغدادي المحفز، والذي دغدغ آمال الجهاديين، وأحلامهم بإقامة الدولة الإسلامية، وتحكيم الشريعة كان أقوى وأكثر تأثيرًا من خطاب النصرة الذي ركز على المقاومة ودفع الصائل، وتأجيل تحكيم الشريعة وإعلان الدولة، بانتظار اجتماع أهل الحل والعقد. ولم ينتظر البغدادي طويلاً، حتى أوعز إلى مقاتليه باقتحام مقرات النصرة والاستيلاء على مخازنها والمناطق التابعة لها، بداية، ولاحقاً بمواجهة فصائل المعارضة والفصائل الإسلامية الأخرى، وفرض البيعة والولاء عليها، وإلحاق المناطق المحررة بدولته، وبمحاكمه الشرعية.

وجدير بالذكر أن ظروف العراق، أيضًا، واندلاع الاحتجاجات في المناطق السنية ضد استبداد المالكي، وحكمه الطائفي، منح التنظيم فرصة ليعاود نشاطه، وبشكل محدود، في مناطق الاحتجاجات، مستغلاً نقمة سكانها على الحكومة المركزيّة. خلال عام 2013، توسع تنظيم الدولة في المناطق المحررة، نتيجة غياب إرادة حقيقية لمواجهته من فصائل المعارضة.

وفي تلك الفترة، تقاطعت الأهداف بينه والنظام السوريّ، فالتنظيم ولمحدودية قوته، لم يكن في وضع يسمح له بقتال النظام، أو النظام والمعارضة معاً، فاختار الطرف الأضعف، بشكل حقق مصالح النظام وأهدافه. في المقابل، امتنع النظام عن فتح مواجهة مع التنظيم، وساعده في مواقع عدة ضد قوات المعارضة لرغبته في إضعافها، وللتأكيد على روايته الإعلامية بأنه يواجه إرهابيين وجهاديين، وليقدم نفسه للغرب “شريكًا” أو “عضوًا” في نادي مكافحة الإرهاب، قبيل انعقاد مؤتمر جنيف 2. بيد أن فصائل في الجيش الحر، وعلى رأسها جيش المجاهدين وجبهة ثوار سورية، فوتت الفرصة على التنظيم والنظام معًا، وبدأت، وبالتنسيق مع دول إقليمية، بمواجهةٍ مسلحةٍ مع التنظيم، بداية العام الجاري، إثر محاولته السيطرة على معبر باب الهوى على الحدود السورية التركية، سرعان ما انضمت إليها الجبهة الإسلامية وجبهة النصرة. حُسمت المواجهة، في أيام قليلة، لمصلحة المعارضة، وطرد التنظيم من ريف حماة وإدلب ومدينة حلب ومعظم ريفها (باستثناء الريف الشرقي) ودير الزور، وبقي معزولا في مدينة الرقة وريف حلب الشرقي، من دون أن يمتلك فاعلية تذكر، تتجاوز دفاعه عن مواقعه. كما افتقد التنظيم، ولأول مرة، مند تأسيسه التواصل الجغرافي مع العراق، بعد أن طُرد مقاتلوه من مدينتي الميادين والبوكمال.

الطريق إلى إعلان الخلافة

يكاد يكون تنظيم داعش أكثر التنظيمات الجهاديّة حظوظًا، وبالطبع عندما نركز على “الحظ”، فإننا نتحدث عن سياقاتٍ خارجيةٍ، انعكست إيجابًا على التنظيم، فقد هيأت تطورات الأزمة السوريّة والعراقية، في الربع الثاني من عام 2014، المناخ المناسب لاستجماع قواته، وترتيب صفوفه من جديد، ليبدأ هجوما مضادا في المنطقة الشرقية من سورية، للسيطرة على آبار النفط، وتأمين التواصل الجغرافي مع العراق، والذي استغله، مع عوامل أخرى، سنأتي على ذكرها، لبدء الهجوم على الموصل 10 يونيو/حزيران 2014، وإسقاطها مع باقي مدن وسط وغرب العراق، وصولا إلى إعلان الخلافة الإسلامية 29 يوليو/تموز 2014. ومن أبرز العوامل التي ساعدت على إحياء التنظيم بعد انكساره:

  • الانقسام ضمن الفصائل السورية على قتاله بين فريقين: الأول؛ يضم الجبهة الإسلامية وجبهة النصرة، ولا يرغب في القضاء على التنظيم نهائيا، ويسعى من المواجهة إلى إضعافه وإجباره على قبول مبادرات التحكيم. والثاني؛ فصائل الجيش الحر الراغبة في استئصال التنظيم نهائيا، لكنها تفتقد القدرة وحدها على ذلك، ولاسيما أن الدعم العسكري الخارجي تراجع بعد شهر على بدء المواجهة.
  • الانشغال عن قتاله: شغلت مواجهة تمدد التنظيم الفصائل السورية عن قتال النظام مؤقتا، وخلفت واقعا تستنزف فيه المعارضة باستمرار، مما جعل المعارضة تؤجل المواجهة معه، ريثما يتم درء خطر النظام في مدينة حلب وريفها، أو الحصول على دعم عسكري، أثبتت الأشهر الستة الماضية أنه تراجع بشكل كبير، وكأن إرادة دولية، أو إقليمية، لا ترغب في القضاء على التنظيم نهائياً في سورية. عدا عن ذلك، أفرز الصراع ظاهرة أمراء الحرب بشكل واضح، فهؤلاء، وخصوصاً في المنطقة الشرقية انشغلوا، إن لم نقل تفرغوا، عن الصراع بزيادة النفوذ وتجميع الثروات، أكانت من عائدات النفط، أو أساليب الخطف وفرض الأتاوات مقابل الحماية .. إلخ.
  • سياسات المالكي، وانتفاضة العشائر: ساهمت سياسات نوري المالكي في العراق، والتي استهدفت مكونا اجتماعيا أصيلا وأساسيا في اندلاع احتجاجاتٍ سلميةٍ في المحافظات العراقية ذات الأغلبية السنية. وبدلاً من احتوائها والاستجابة لمطالبها، عاند المالكي حركة التاريخ، محاولاً إخماد هذه الانتفاضة بالقوة، فاقتحم ساحات الاعتصام، بذريعة مكافحة الإرهاب، ما استدعى ردًا مسلحًا من عشائر المنطقة توسع بتوسع عمليات الجيش العراقي. كانت المواجهة المسلحة بين العشائر وحكومة المالكي مدخلا لداعش إلى الساحة العراقية من جديد، ومن الباب الواسع هذه المرة. فلأول مرة، منذ الانسحاب الأميركي، يحصل تقاطع في الأهداف بين التنظيم والعشائر السنية، وهو ما استغله ليعيد طرح نفسه قوة عسكرية، تقف صفا واحدا مع المقاومة المسلحة الناشئة. وقد قوبل هذا التوجه بتحفظات من العشائر، سرعان ما أزيلت بعد استنساخ المالكي تجربة الأسد وقصفه المدن بالطائرات والبراميل المتفجرة والدبابات.

مستقبل داعش.. الإجابة مفتوحة

يفيدنا الاستعراض التفصيلي السابق في الوصول إلى نتيجةٍ مؤداها أن قوة داعش لا ترتبط بكفاءته العسكرية، أو حجم قواته، أو تخطيطه الاستراتيجي أو.. الخ، بل بظروف البيئة الداخلية والخارجية المحيطة في الساحات التي يوجد فيها.

بدا أخيراً أن تمدد داعش في العراق كان في بعض صوره “مصلحة” أميركية، لاسيما بعد أن أحكمت إيران، عبر حليفها المالكي، سيطرتها على هذا البلد، وأصبحت وصيا على حكمه. هدد تمدد داعش حكومة المالكي والعملية السياسية برمتها، وعرقل طموحات إيرانية اشتغلت عليها عقداً من الزمن، بإنشاء محور جيوسياسي تابع لها، تمتد جغرافيته من طهران وصولاً إلى شواطئ البحر الأبيض في سورية ولبنان. لذلك، كان تمدد داعش بمنزلة “عصا” أميركية ضد إيران والمالكي، تلوح به باعتبارها الوحيدة القادرة على مواجهته، من أجل فرض ظروف ومخرجات سياسيةٍ تقطع جذرياً مع فترة نوري المالكي.

يمكن القول إن انتصار داعش أو هزيمته في سورية والعراق يرتبط، الآن، كليا، بخيارات أميركا واستراتيجيتها. ولا شك في أن الولايات المتحدة، وإن غضّت الطرف عن تمدده سابقًا، لن تسمح له بالتوسع يهدد فيه مصالحها أو أمنها القومي. ضمن هذه الفلسفة، بدأت الضربات الجوية المحدودة في العراق، وأعلن عن تشكيل تحالفٍ دوليٍّ ضده بمجرد نجاح تشكيل الحكومة العراقية.

أما في سوريّة، فتبدو أميركا أكثر حذرًا لاعتبارات عدة، في مقدمتها حالة الفوضى المسلحة، وعدم وجود شريك منظم في المعارضة السورية، خصوصاً بعد أن استبعدت، مرحليا على الأقل، التعاون مع النظام السوري، وإعادة تأهيله طرفا في التحالف الدولي والإقليمي الذي تسعى لإنشائه.

يبقى أن مستقبل داعش وبقاءه، وخارج حسابات النصر والهزيمة، مرتبط بشكل مباشر بعوامل أخرى، أكثر أهمية من المواجهة العسكريّة الطارئة؛ فعهود التخلف والاستبداد، وغياب الهوية الوطنية الجامعة كانت “التربة الخصبة”، والتي نشأت فيها هذه الحركات ونمت وتغلغلت. وبناء عليه، إن بقاء النموذج الداعشي أو زواله على علاقة مباشرة بمآلات الثورات ومستقبل الدولة الوطنية العربيّة. وعلى اعتبار أن هذه الحركات، وكما وصف عزمي بشارة، لم تنشأ في ظل نظام ديمقراطي، بل نشأت في ظل أنظمة استبداديّة، اعتبرها برهان غليون قبل عقود في كتابه “بيان من أجل الديمقراطية” “احتلالاً داخلياً” حولت الشعب المسكين إلى شعب من اللاجئين، ليس في المناطق المحتلة، بل في أوطانهم، وحولت الأمة إلى “أمه من العبيد”، فإن الخلاص من داعش يفترض الخلاص من الأنظمة الاستبدادية بالدرجة الأولى، والتي تستحضر هذا “الوحش” وتخلقه، وتزج به في معركتها ضد الشعب، إذا ما نشد الحرية والتحرر والديمقراطية.

وأخيرًا، إن مواجهة الحركات الجهاديّة، وعلى رأسها داعش، تتطلب، قبل كل شيء، مراجعة عميقة لمفاهيم دينية سائدة، توظفها هذه الحركات في تثبيت “مشروعيتها” وحضورها. ولا يكفي الخطاب الديني التبريري لمواجهة هذه الحركات، والذي ينأى بالدين الإسلامي سياسياً عنها، بل يجب إخضاع المفاهيم والمصطلحات والفهم الإشكالي الذي تطرحه للمناقشة الجدية، وتحديثه بما يتواءم مع ظروف العصر. وبدون هذه المراجعة، نجد دائماً من يفكر بالرجوع بنا قروناً خلت، لم يتبقَّ منها، إلا ذاكراتها التاريخية، والتي تُستحضر في إطار كليّ لمواجهة حالة الاستبداد والتخلف القائمة.

العربي الجديد

 

 

 

 

استراتيجية أوباما .. لا شيء عن اليوم التالي/ غازي دحمان

تطرح الاستراتيجية التي أعلن عنها الرئيس الأميركي، باراك أوباما، لمواجهة تنظيم داعش، أسئلة كثيرة مقلقة، فيما جرى ترحيل إجاباتها إلى أفق مجهول، فلم يفعل أكثر من تعريف المعرّف “الحرب على داعش”، فيما أبقى ما هو بحاجة لتوضيح ضروري، غامضاً وملتبساً، ولعلّ ما يزيد من حدة الإرباك أن الإجراءات الموازية، أو ما يفترض أنها التطبيقات التكتيكية لتلك الاستراتيجية التي سيتم العمل على موضعتها، في السياق الإقليمي، تبدو ملفّعةً بغمامة من الغموض غير المنطقي أو المبرر، الأمر الذي يفتح الباب أمام طوفانٍ من الأسئلة الملحّة، بالنظر للتداعيات المحتملة للحدث.

أول تلك الأسئلة، يتعلق بالأساس الذي يشكل ركيزة الحرب الدولية، وحاملها الشرعي، هل هو مبدأ مسؤولية الحماية الإنسانية الذي يشرّع التدخل الدولي؟ إذا كان الأمر كذلك، ما هي حدود تطبيقه، وما هي متضمناته واشتمالاته؟ هل هو خاص بحماية اليزيدين والأكراد ومسيحيي الموصل، تحت عنوان حماية الأقليات، على ما يشير التفسير الضيق لهذا المبدأ؟ في هذه الحالة هل يتم تنسيب الطرف المعتدي للأكثرية، وبالتالي، هي هنا العرق العربي والمذهب السني؟ من الواضح أن القضية جرى تشخيصها لصناع القرار في الغرب على هذه الشاكلة. وانطلاقاً من هذا الأساس، كيف ستكون مخرجات هذه العملية؟ هل ستنتهي بتثبيت أوضاع معينة للأطراف التي استدعي التدخل لأجلها؟

ويستتبع هذا السؤال سؤالاً فرعياً عن الحيز الجغرافي الذي يتم تطبيق هذا المبدأ في إطاره، هل يقف عند حدود المناطق التي تحتلها داعش؟ إذا كان ما يجري في المنطقة الممتدة من بغداد الى دمشق حرب إبادة موصوفة وموثّقة، فلماذا تلك الإنتقائية!

السؤال الثاني، ما هو وضع المنظومة القتالية التي تديرها إيران في المنطقة، ما يسمى بالكتائب الشيعية والعلوية في العراق وسورية ولبنان، وبعضها مدرج على قوائم الإرهاب الأميركية، وتشبه، من حيث الهكيلية والبنية والأيديولوجية، تنظيم داعش، وتستخدم الطرائق والأساليب نفسها التي تعتمدها داعش، في القتل وعمليات التطهير العرقي؟ كما أن بعضها بدأ بالعمل تحت راية “الدولة العلوية في العراق والشام”، وهي مسؤولة بشكل مباشر عن قتل عشرات آلاف العراقيين والسوريين، وتطهير مناطق كاملة في البلدين، فهل ستكون مشمولةً بالحرب على الإرهاب؟

السؤال الثالث يتعلق بدور إيران ووضعها، هل مجرد استثنائها من المشاركة في الحلف أقصى إجراء عقابي ورادع لها؟ وهل سيتم الاكتفاء بهذا الإجراء، من دون إمكانية تطويره إلى لجم سياسات طهران التدخلية؟ هل سيبقى العالم يتعامل مع الوضع على قاعدة وجود

“هل يكفي وصف باراك أوباما الأسد بأنه فاقد الشرعية ضمانة للسوريين!، ما هي الإجراءات الموازية لهذا المنطق؟ وهل سيقتصرالتعاون المطروح مع المعارضة السورية على المنطقة الشرقية؟ ألا يحمل ذلك شبهة استنزاف طاقة المعارضة السورية لخدمة أهداف غربية؟”

مصالح حيوية لإيران في المنطقة، وتحت هذا العنوان، يبرر مرونته الفائضة تجاه سلوكها؟ ماذا عن مصالح شعوب المنطقة، أو بلغةٍ أدق، الأكثرية؟ هل تتضمن الإستراتيجية خطة لتفكيك ركائز النفوذ الإيراني في المنطقة، وهل يمكن عزل تأثيراتها عن الكيانات الوطنية في العراق وسورية ولبنان؟

السؤال الرابع يتعلق بالنظام العربي، ما حدود دوره في المرحلة الحالية، وما المطلوب منه؟، هل ستكتفي الدول العربية بدور الممول؟ ما هو دور جامعة الدول العربية، هل سيقتصر على إعطاء الشرعية للتدخل الغربي؟، ما دورها في الترتيبات المقبلة؟ وما مدى إشرافها على الأوضاع في سورية والعراق في المرحلة المقبلة؟ هل ستقود عمليات حفظ السلام وإعادة الإعمار؟ ما هي مكانة سورية والعراق في بنية النظام العربي القادم؟ هل التوافق داخل المنظومة الخليجية ينسحب على الترتيبات القادمة، أم يقتصر على إعطاء شرعية للتدخل الأميركي؟ ما حقيقة الدور المصري في التحالف، خصوصاً وأن لدى الفريق الأمني للرئيس عبد الفتاح السيسي منظور مختلف للأحداث الحاصلة في البلاد العربية، إذ يتعاطى معها بوصفها تمرداً إرهابياً من سيناء إلى ليبيا والعراق وسورية؟.

السؤال الخامس يتعلق بسورية، وهي التي تشكل قلب هذا الحدث، هل يكفي وصف باراك أوباما الأسد بأنه فاقد الشرعية ضمانة للسوريين!، ما هي الإجراءات الموازية لهذا المنطق؟ وهل سيقتصرالتعاون المطروح مع المعارضة السورية على المنطقة الشرقية؟ ألا يحمل ذلك شبهة استنزاف طاقة المعارضة السورية لخدمة أهداف غربية؟ ماذا عن التشكيلات الثورية العاملة في الوسط والجنوب؟

بالأصل، نظام الاسد خسر المنطقة الشرقية، ويقوم على تجميع قواته في مناطق، يعتبرها أكثر أهمية، ما يشكل ضغطاً كبيراً على الثوار فيها، أليست تلك خدمة استراتيجية واضحة، تقدمها الحملة الدولية للنظام، مع استمرار خطوط إمداده بالأسلحة والجنود من طهران وموسكو تعمل براحتها.

تؤكد المعلومات أن نظام الأسد لم يعد في حوزته سوى 15 إلى 18 مدرجاً صالحاً لاستقبال شحنات الأسلحة يومياً من موسكو وطهران، لماذا لا يقدم التحالف على تعطيلها وضربها، خصوصاً وأن الأسلحة الواردة عبرها تستعمل في إبادة المدنيين؟ ألا يسقط مبدأ السيادة، بشكل أوتوماتيكي، عند تطبيق مبدأ الحماية الإنسانية؟ هل استثناء الأسد من الشراكة في التحالف قرار ستليه إجراءات عملية، أم بسبب عدم الإفادة منه عملانياً في هذه المرحلة وكفى؟

ما هو شكل المنطقة ومصيرها، وإلى أين ستسير الأمور؟ وغيرها أسئلة كثيرة جوهرية متروكة من دون جواب. سياسة أوباما وطريقة تفكيره لا يبعثان على الطمأنينة بقدر إثارتهما القلق والهواجس، وهو، بالفعل، لا يملك تصورات استراتيجية بعيدة المدى، وبالتالي، البدائل غير موجودة في مستويات تفكيره، في حين أن البحث عن البديل، في اليوم التالي، هو الهاجس الأساسي لشعوب المنطقة ومكوناتها.

العربي الجديد

 

 

 

في كل بيت مشرقي “داعش”/ غازي دحمان

يتجهز حلف دولي جرار لإزالة «داعش« من المشهد المشرقي، ويهيئ لذلك الآليات التي يعتقد أنها كفيلة بإنجاز تلك المهمة، طائرات وسفن وذخائر وعسكر، محليون وإقليميون ودوليون، تشكيلات عسكرية وبنى اجتماعية تبدي استعدادها للانخراط في المهمة، وثمة من ينتظر استدعاءه بفارغ الصبر للمشاركة في هذه الملحمة، وكل شيء يتحرك في المشرق، وأي شيء له وهج النار ورائحة البارود، يلتحق بهذه المهمة، لكن أية «داعش« تلك المستهدفة، وهل يمكن حل مشكلة المشرق إن تم القضاء على المجموعات المنتشرة ما بين الرقة والرمادي؟

من شأن المراقب العادي ملاحظة ان داعش، بالصورة النمطية التي يتم تصديرها، صارت الحزب الأول والوحيد في المنطقة، كما أن المشرق برمته صار بيئتها الحاضنة، فالقاعدة الأساسية للفكرة الداعشية هي رفض الآخر وتكفيره، أو إخراجه من إنسانيته وشيطنته، لتبرير ذبحه واستسهال الممارسات السلوكية غير الإنسانية تجاهه. وكل ما يدخل في مدار هذا السلوك هو فكر «داعشي«، وفي هذا ثمة مستويات تبدأ من الازدراء والتحقير وتنتهي بقطع الرؤوس، وما بينهما من تنكيل وتهجير وتطهير عرقي وقتل على الهوية. على ذلك، فإنه يمكننا التمييز بين دواعش حركية ودواعش أيديولوجية.

تتمدد «داعش« الحركية على مستوى الإقليم بكامله، وهي تأخذ طابعاً عسكرياً قتالياً، وتنظيمات متكاملة، تقاتل على خطوط التماس وفي عمق الجبهات، وتشكل رأس جبل الجليد الظاهر في صراع المنطقة، ويمكن ملاحظة أقسامها على الشكل التالي: «داعش« السنية: وهي الأكثر شهرة وتحتل مركز الصدارة بوحشيتها واستعراضها المقزز، واستخدامها للإعلام في سبيل نشر الرعب والترهيب، وحربها الاستئصالية ضد أتباع الديانات الأخرى والقوميات الموجودة في المنطقة، و«لداعش« (التنظيم) نظائر سنية أقل شهرة «كجبهة النصرة«، والكثير من الجبهات ذات الطبيعة الدينية.

«داعش« الشيعية: وهي توازي في الانتشار والحجم نظيرتها السنية، وتمثلها أحزاب سياسية علنية وأذرع عسكرية، بعضها بات يرفع علم «الدولة العلوية في العراق والشام» والكثير منها يمارس سلوك «داعش« في القتل والتطهير العرقي، ولكن بعيدا عن الأضواء وبطريقة ممنهجة وذكية، مثل «أبو الفضل العباس«، و«حزب الله«، و«عصائب الحق«.

«داعش« العلوية: وبما أن المكون العلوي أكثر المكونات عسكّرة، بسبب ارتباطه بالمؤسستين الامنية والعسكرية في سوريا، فإنه يبدو أكثر المكونات المنخرطة في الصراع، ويمارس نفس الاليات الداعشية في القتل والتهجير والاقتلاع.

«داعش« المسيحية: وقد ظهرت تعبيراتها في التجمعات المسيحية في منطقة وادي النصارى، على شكل تنظيم قتالي اتخذ مسمى» أسود الوادي»، وكان له دور فاعل في ذبح وتهجير أهالي منطقة الحصن والقرى التي حولها، وهناك نظائر مسيحية له في منطقة السقيلبية في حماة.

«داعش« الدرزية: وهي الكتائب التي أسسها وئام وهاب في السويداء بحجة حماية «المكون الدرزي«، وتلك التي تمجد عصام زهر الدين، أحد ضباط بشار الأسد الأكثر إجراماً وتنكيلاً.

«داعش« الكردية: وهي مجموعات تطلق على نفسها مسمى «وحدات حماية الشعب الكردي»، وتقوم بأعمال قتل وتهجير واسعين للسكان العرب في مناطق الحسكة، وأخرها مجازر الحاجية وتل خليل.

واذا كانت «داعش« الحركية يمكن للمرء تعيينها، لأنها من النمط الذي يسهل تحديده، فإن «داعش« الأيديولوجية تبدو أكثر تعقيداً، هي عبارة عن عسكري ساكن (غير متحرك) يقدم الخدمات اللوجستية لعسكري الميدان الداعشي، يزوده بكافة أنواع الدعم، من فتوى رجل الدين إلى زغرودة المرأة المحتفلة به حين يعود ميتاً، وهي البيئة الحاضنة، التي تقنعه بصوابية أفعاله وتشرعنها دينياً وأخلاقياً، وتبررها اجتماعياً، وتمجد بطولاتها، وبذلك تصبح كل الدواعش، وبكل ارتكاباتها ضرورة لحماية مجتمعاتها. «داعش« الأيديولوجية هي التي تعتقد أن داعشها الحركي كسّر رأس أعدائها ولولا وجودها لتمت إبادة الطائفة والعرق واللون، وكل الدواعش هنا ضرورات وطنية أيضاً لأنها كلها تحارب عملاء الخارج، بعضهم ينضوي في لواء المشروع الإيراني التشييعي، والآخرون ينضوون تحت لواء السلفية الجهادية، وقسم آخر تقودهم جهة وهمية تريد تقسيم وتجزئة البلاد.

حسناً، ربما تستطيع أميركا ان تخلصنا من جزء من «داعش« الحركية. ربما يقدّر للتحالف الدولي اجتثاث قواعدها العسكرية وعناصرها المسلحة، لكن داعش الباقية فينا، والتي لن يهتم لها ناتو ولا تحالف دولي، كيف السبيل إلى الخلاص منها؟، علينا الاعتراف، شعوباً وأفراداً، أننا بتنا ملوثين بلوثة الداعشية، بل أننا قمنا بتخزين كميات فائضة منها، وإننا قادرون على اجترارها لعشرات السنين المقبلة ما لم يحصل تغيير ما، على شكل ثورة، على مستوى منظومتنا القيمية وطرائق تفكيرنا وصيغ اجتماعنا. ثلاث سنوات من الأزمة كانت كفيلة بتشويه أجيال عديدة، وهز الكثير من مسلماتها وقيمها، وضرب أسس اجتماعها، وإذا كانت العواصف عبر ساعات محدودة تخلف تداعيات لسنين تالية. فإن عاصفتنا قد لا تتخلص منها أجيال تالية ما لم يتم إيجاد نمط تفكير إبداعي، يخرجنا من عبادة أوهامنا عن نفسنا وعن الآخر.

المستقبل

 

 

 

 

 

حول خرافة عدم التدخل الأميركي في الصراع السوري/ ياسين الحاج صالح

لم يتوقف الأميركيون عن التدخل في الصراع السوري منذ البداية، وإن تغايرت أشكاله. ومنذ نهاية 2011، غلب أن كان هذا التدخل لغير مصلحة الثائرين على النظام، وليس ضد النظام، خلافاً لما يفضل أن يروجه النظام والممانعون، وخلافاً لما يظنه طيف واسع في الغرب، ممانع بطريقته، يُعرّف نفسه بدلالة الموقف من إمبريالية مجردة لا يقاومها فعلياً، وذلك بدرجة تتناسب مع فقدانه زمام المبادرة الفكرية والسياسية، وارتداده إلى طائفة خاصة بين طوائف الغرب الكثيرة.

بداية، وفي مناخات «الربيع العربي» عمل الأميركيون على ملاقاة مطلب السوريين في تغيير نظامهم السياسي، وخلال بضعة الأشهر الأولى تواترت تصريحات من قمة الهرم الأميركي تقول إن النظام فقد شرعيته، وتقدر اقتراب نهايته. كان هذا مشجعاً للسوريين في كفاحهم ومُرجِّحاً إثماراً غير متأخر له.

واستناداً إلى هذا الموقف الإيجابي مبدئياً من الثورة السورية، تصدر الأميركيون مجموعة «أصدقاء الشعب السوري»، وقادوها، ضد إرادة أعضاء آخرين فيها (فرنسا، تركيا، قطر…)، إلى شلل مشهود، وعدم مساعدة الشعب المنكود بشيء.

في البداية تذرع الأميركيون بافتقار المعارضة السورية إلى إطار سياسي موحد، حتى إذا تشكل هذا الإطار في خريف 2011 بدأوا يتذمرون منه، ولم تكن عيوبه هي ما أزعجتهم، بل خاصة التزامه الشعار المعرّف للثورة: إسقاط النظام. وهذا لأن عينهم كانت على حل تفاوضي، لا يفسح له ذلك الشعار هامش مناورة. ولم يكن تفضيل الحل التفاوضي مشكلة بحال، لكن الأميركيين لم يفعلوا أي شيء لدفع النظام نحوه. وفي 2012 ضغطوا على دول إقليمية، تركيا وقطر بخاصة، لمنع تقديم عون عسكري فعال لمقاتلي الجيش الحر، بما في ذلك مضادات دروع بمقادير مؤثرة، وهذا من دون أن يكون لهم في أي وقت تأثير في روسيا لوقف تسليح النظام، أو في إيران لوقف إمداداتها البشرية أو المالية إليه. وفي أواخر عام 2012 نفسه، تدخل الأميركيون عند دول إقليمية لتضغط على تشكيلات مقاتلة سورية كي لا تحاول دخول العاصمة دمشق.

وفي نهاية 2012، عمل الأميركيون على تشكيل إطار بديل للمعارضة السورية، الائتلاف الوطني، لم يساعدوه بشيء على الإطلاق، حتى بعد أن كانت وزيرة خارجيتهم وضعت كل ثقلها لإضعاف الإطار السابق، المجلس الوطني. لم يكن قد تشكل الائتلاف حتى كان مسؤولون أميركيون صغار وأصغر يتصلون من وراء ظهره بنشطاء سوريين وينالون من شرعية الإطار الجديد ومرجعيته.

ثم جاءت المذبحة الكيماوية في آب (أغسطس) 2013، وكان ظاهراً بعد أيام من وقوعها أن أوباما مستعد لابتلاع خطه الأحمر، وهو ما وفرته له المبادرة الروسية بسحب السلاح الكيماوي للنظام. كان هذا عملياً إجازة للنظام بأن يستخدم جميع أسلحته الأخرى في قتل السوريين، وهو ما لم يقصر فيه فعلاً.

وفي مطلع ها العام ضغط الأميركيون على الائتلاف للمشاركة في مؤتمر جنيف الذي بدا ظاهراً أنه سيكون لا – حدثاً، وقد عكس بالفعل حقيقة أنه لا سياسة للأميركيين حيال سورية غير هندسة سير البلد إلى الهاوية.

وفي الأثناء، درب الأميركيون مقاتلين سوريين في الأردن، مئات منهم، بما يكفي للقول إنهم متدخلون في الصراع السوري، لكن بما ينضبط بمنهج «إدارة الأزمة»، ولا يفضي إلى تعديل في موازين القوى عل الأرض. وليس ظاهراً على كل حال أن أياً من هؤلاء المقاتلين شارك فعلياً في الصراع ضد النظام السوري. يبدون، بالأحرى، ورقة أميركية احتياطية أكثر مما هم قوة سورية مقاومة للنظام.

ليس كل ذلك وجهاً لسياسة لا – تدخل أميركية جديدة، فالجماعة بصدد تشكيل ائتلاف دولي وإقليمي كبير اليوم لمواجهة نظام «داعش». وهذا بعد وقت قصير من استيلائه على الموصل في العراق واستكمال سيطرته على الرقة السورية وإعلان نفسه دولة خلافة. زعم اللاتدخل خرافة. والولايات المتحدة اليوم لا تنوي التحول من لا تدخل إلى تدخل، بل من شكل للتدخل يحول عملياً دون تسجيل الثائرين على النظام نصراً، إلى شكل يستهدف «داعش» أساساً، ويلحق الصراع السوري ككل بهذه المواجهة. ليس هناك ما يسوغ توقع خير من خفض صراعنا إلى مرتبة ثانوية بعد الصراع مع كيان إرهابي.

ما يبنى على ذلك ليس أن الأميركيين لا يتدخلون في سورية، بل إنهم مارسوا طوال الوقت شكل التدخل المناسب لهم، والمتسبب بضرر عظيم لسورية، مجتمعاً وكياناً وعمراناً مادياً. قد تكون عوامل ذلك إسرائيلية أو غيرها، لكن الكلام على عدم تدخل أميركي هو خرافة. وأكثر من يعرف ذلك ويبني تقديراته عليه هو النظام الأسدي.

ويجب ألا ننسى أننا نتكلم على الدولة الأعظم، المتدخلة بنيوياً بعمق في تكوين المنطقة منذ حوالى ثلاثة أرباع القرن. الولايات المتحدة جزء لا يتجزأ من النظام الشرق الأسطي الذي تتوجه دوله كله نحو الخارج بفعل وجوده هو في الداخل. الاقتصار في محاولة فهم المنطقة على اعتبار دول الأقليم وحدات سياسية ضمن نظام تنافسي عالمي مضلل إلى أقصى حد هنا. الشرق الأوسط هو النظام الذي تشكل الولايات المتحدة موقع المرجع في تفاعلاته، وأمن إسرائيل وحريتها أولوية عليا فيه، وسلامة السلسلة النفطية والدول الحارسة لها أولوية عليا أخرى.

لذلك، فإن الكلام على عدم تدخل أميركي في الصراع السوري لا معنى له بالنظر إلى هذا الواقع البنيوي المديد الذي تتشكل سياسات الدولة وأنظمة حكمها باستبطانه ومراعاة منطقه. النظام الأسدي ليس بحال نتاجاً حصرياً لديناميات داخلية سورية، ولا أي من نظم المنطقة الأخرى، ولا أيضاً سيادة إسرائيل الإقليمية. وعلى خلفية الدخول الأميركي البنيوي في نظام المنطقة، تغدو الإعلانات الأميركية والأطلسية المتكررة طوال 2012 عن عدم النية في أي تدخل في سورية رسالة تطمين للنظام الأسدي، ومؤشراً إلى إرادة إبقاء الوضع الذي يستطيع النظام فيه الاستمرار في قتل محكوميه.

لا نقول إن الأميركيين سعداء بقتل السوريين وتدمير بلدهم، ولكن لا يجدون في هذا ما يتعارض مع أولوياتهم: إسرائيل، البترول، الاستقرار. كان من شأن انتصار الثورة السورية في عامها الأول أن يكون مصدر عدوى أوسع في الإقليم الحيوي. اللاستقرار السوري، ولو بلغ حد جعل البلد غير قابل للحياة، يحمي الاستقرار في نطاق أوسع.

وما يبنى على هذه الاعتبارات أن التدخل الأميركي الوحيد المرفوض من ممانعين محليين ودوليين هو التدخل الفعال ضد النظام الأسدي. ليس حتى أن الجماعة ضد الحرب، فهم لم يخرجوا يوماً ضد حرب النظام على محكوميه، وبعد أيام من المذبحة الكيماوية، كانوا يتظاهرون ضد احتمال معاقبة النظام على جريمته، وليس ضد المذبحة الكمياوية ذاتها. بعد أيام قليلة تكشّف أن معاقبة نظام فاشي على جرائمه شيء أكثر تقدمية وعدالة من أن يقوم به الأميركيون. شيء Too good to be true، كما يمكن أن يقال بالإنكليزية.

لكن، ليس ما يهتم به هذا التناول موقف هذه التشكيلات الممانعة العاطلة، بل فهم واقع الحال. الواقع أن الأميركيين يهندسون الوضع، يديرون الأزمة بالصورة التي تناسبهم. يعدون لتدخل حربي ضد «داعش» لأن هذا يناسبهم، ولا يتدخلون حربياً ولا يساعدون مقاومي النظام على إسقاطه أو الضغط الجدي عليهم لأن هذا لا يناسبهم. وفي ما يناسبهم وما لا يناسبهم لا تشغل حقوق السوريين وحياتهم، وحاجتهم إلى التغيير السياسي في بلدهم وبناء نظام سياسي جديد أكثر استيعابية، مكانة تذكر.

ولا نقول إن هذا خطأ أخلاقي لا يليق بالقوة العظمى، الدولة كائنات أنانية تتصرف كلها هكذا. لكنه فقط محاولة لوصف الواقع بوضوح كي يراه أي مشتغلين سوريين بالشأن العام، ويبنوا على ذلك مقتضاه. وكذلك كي لا نُمكِّن الأميركيين من أن يعطونا دروساً في القيم والسياسة.

* كاتب سوري

 

 

 

تراث الإغارة على النظام السوري: «عقلنة» تحفظ قواعد اللعبة/ صبحي حديدي

ليس مؤكداً أنّ الرئيس الأمريكي باراك أوباما كان يرد على بثينة شعبان، مستشارة بشار الأسد الإعلامية، ضمن طراز من التراشق اللفظي المباشر لا ينزلق إليه البيت الأبيض عادة، خاصة في مخاطبة موظفين بدرجات أدنى، لدى أنظمة استبداد شرق ـ أوسطية. قالت شعبان، من شاشة CNN، إنّ «دمشق قد تسقط الطائرات الأمريكية، لأنها أتت من دون إذن واعتدت على سيادة سوريا»؛ وقال أوباما، عبر صحيفة «نيويورك تايمز»، :»إذا فكر الأسد وأمر قواته بإطلاق النار على الطائرات الأمريكية التي تدخل المجال الجوي السوري، فسندمر الدفاعات الجوية السورية كافة، وسيكون هذا أسهل لقواتنا من ضرب مواقع ‘داعش’».

ليس مؤكداً، أيضاً، أنّ رسالة أوباما هذه ـ مصاغة بلغة غير مبطنة، بل صريحة وقحة كذلك ـ لا يُراد منها «عقلنة» نظام لا ينوي الرئيس الأمريكي استهدافه، مباشرة؛ أو ليس بعدُ على الأقلّ، وليس في هذا الطور من «ستراتيجية» البيت الأبيض لتدمير «داعش». وهذه، إذا صحّت، «عقلنة» ليست جديدة على مجمل الخطّ الذي اعتمدته مختلف الإدارات الأمريكية تجاه نظام «الحركة التصحيحة»، الأب حافظ الأسد، مثل وريثه بشار؛ وهي، ذاتها، تقاطعت مع «عقلنة» من جانب إسرائيل، تبلورت ابتداءً من موقف وزير الدفاع، الأسد الأب، في هزيمة 1967 النكراء؛ وانتهاءً بالموقف الإسرائيلي الراهن، المعارض لأيّ تعجيل في إسقاط نظام الأسد الابن.

ولقد أثمرت «العقلنة» الكثير، للأطراف الثلاثة في الواقع: منذ صمت النظام على الاجتياح الإسرائيلي للبنان، 1982؛ إلى المشاركة في تحالف «حفر الباطن»، ثمّ مؤتمر مدريد، وحوارات شبردزتاون بين رئيس الأركان السوري الأسبق حكمت الشهابي مع الجنرال أمنون ليفكين شاحاك وإيهود باراك، ومحادثات هذا الأخير مع فاروق الشرع في واشنطن، ولقاء جنيف بين حافظ الأسد ـ بيل كلينتون، مطالع التسعينيات؛ وصولاً إلى حوارات ماهر الأسد السرّية، مع مسؤولين إسرائيليين، بينهم إيتان بن تسور، في العاصمة الأردنية عمّان، 2003؛ والمصافحة الفاتيكانية «التاريخية»، بين بشار الأسد والرئيس الإسرائيلي موشيه كتساف، 2005…

ثمة، إلى هذا، «تراث» خاصّ ـ لفظي بدوره، طبعاً، ولكنه أشدّ سوريالية وأعلى افتضاحاً ـ يغطي حكاية الغارات، وطبائع ردود أفعال النظام السوري على وقوعها؛ إذا جاز، بالطبع، الحديث هنا عن «ردود» أو «أفعال» بأيّ معنى، في السياقات الفعلية لوقائع الإغارة. وذات يوم، صيف 2006، خرج أحد جهابذة إعلام النظام بهذا التعليق على تحليق أربع مقاتلات إسرائيلية فوق القصر الرئاسي في اللاذقية: لم يتجاسر الصهاينة على اختراق أجواء دمشق الحصينة، ففرّوا إلى الساحل! والحال أنّ العبقري ذاك تناسى، أو لعلّه بالفعل كان يجهل تماماً، أنّ الصهاينة هؤلاء ذهبوا إلى اللاذقية ليس خشية من المقاتلات السورية في أجواء دمشق، بل ببساطة لأنّ الأسد كان ساعتئذ في قصر اللاذقية وليس في قصر دمشق. ومن جانب آخر، يصحّ القول إنّ الصهاينة لم يخترقوا أجواء البلد (اللاذقية أو دمشق… ما الفرق، بمعنى السيادة الوطنية؟) فحسب؛ بل اخترقوا أمن الرئاسة حين علموا أنه في ساعة محددة، سوف يكون الأسد في اللاذقية وليس في دمشق!

ولهذا فإنّ تحليق القاذفات الإسرائيلية فوق القصر الرئاسي في اللاذقية، حين كان الأسد مقيماً فيه تحديداً، أي في برهة منتقاة بعناية من حيث طبيعة الرسالة المشفّرة طيّ هدير الطائرات؛ لم يكن تصعيداً مع النظام السوري على أيّ وجه: لا في المستوى العسكري، ولا في السياسي، ولا حتى في مستوى المساس بالقواعد التي وضعها شارون حين قصفت الدولة العبرية موقع «عين الصاحب»، شمال غرب العاصمة السورية، بتاريخ 5/10/2003. لكنه تذكرة صاخبة بعض الشيء، لكي لا نقول إنها تنبيه غليظ، حول عواقب أيّ سلوك عاقّ إزاء خدمات أسدتها إسرائيل إلى النظام مؤخراً، بل طيلة حقبة ما بعد اغتيال رفيق الحريري، من جانب أوّل. والتحليق، من جانب ثانٍ، كان إنذاراً بأنّ الخروج الجدّي عن «قواعد اللعبة» سوف يقلب رقعة الشطرنج رأساً على عقب!

ولسوف يتواصل «التراث» إياه: في خريف 2007 عبرت قاذفات إسرائيلية الأجواء السورية من جهة الساحل السوري، بعد أن اخترقت جدار الصوت على هواها، لتبلغ أهدافاً حيوية في العمق السوري (مساحات واسعة من المنطقة الشرقية ـ الشمالية، من بادية دير الزور إلى تخوم المثلث السوري ـ العراقي ـ التركي، مروراً بمطارَين عسكريين في الأقلّ)، وعادت أدراجها سالمة مطمئنة. السلطات الإسرائيلية التزمت الصمت المطبق، وأوّل الخيط أتى من تصريح رسمي للنظام ـ على غير العادة، ولكن ليس دون التزام بالحاشية التقليدية حول حقّ الردّ في الزمان المناسب! ـ يعلن وقوع الغارة، ولكنه لا يحدّد أين وقعت، وماذا استهدفت، وكيف انتهت. باب التكهنات فُتح على مصراعيه، وتكاثرت الروايات وتضاربت، واتّسع الخيال وتوسعت الأقوال… حتى اتضح أنّ الغارة الإسرائيلية استهدفت مشروع مفاعل نووي كان النظام يشيّده، بتعاون مع إيران وكوريا الشمالية.

كذلك سوف تتكشف حقائق دراماتيكية، سردها الإسرائيليان ميخائيل بار زوهار ونسيم مشعال في كتابهما «الموساد ـ العمليات الكبرى»؛ بينها التالية، على سبيل الأمثلة فقط: أوّل الخيوط قدّمهاالجنرال علي رضا عسكري، النائب السابق لوزير الدفاع الإيراني وأحد كبار ضباط «الحرس الثوري»، بعد انشقاقه؛ وأهمّ المعلومات وفّرها أحد كبار ضباط الأسد، الذي كان ينزل في فندق لندني فخم، وتمكنت الاستخبارات الإسرائيلية من زرع «حصان طروادة» في كومبيوتره الشخصي؛ وأدقّ التفاصيل تعاونت على تأمينها أقمار تجسس أمريكية وإسرائيلية، بعد أن نجحت وحدة كوماندوز إسرائيلية في الهبوط على أرض «الكبر»، وأخذ عينات من التربة؛ وأمّا ضوء العملية الأخضر النهائي، بعد قرار إيهود أولمرت رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، فقد صدر عن البيت الأبيض، ونقله ستيفن هادلي مستشار الأمن القومي في حينه.

أخيراً، ولأنّ «التراث» يطول ويتشعب، ثمة بعض المغزى الخاص في التوقف عند الغارة الإسرائيلية التي وقعت مطلع العام الماضي، لأنها استهدفت قافلة عسكرية كانت تنقل شحنات من صواريخ SA-17 روسية الصنع، في طريقها إلى مخازن «حزب الله»، في لبنان. ذلك لأنها كانت تذكرة، عنيفة وقصوى، بأوّل «المحرّمات» التي فرضتها إسرائيل على النظام، في الشطر التسليحي من علاقاته مع «حزب الله»، أي عدم السماح بمرور أسلحة صاروخية يمكن أن تغيّر قواعد اللعبة، دون سواها. كما أنها، من جانب ثانٍ، تعيد طرح السؤال، القديم المتجدد: ما قول النظام «الممانع»، في طائراته الحربية التي تقصف السوريين، ثمّ تولّي الأدبار في وجه طيران العدو الإسرائيلي، الذي يعربد على مبعدة كيلومترات قليلة؟ وثالثاً: ما قول قيادة «حزب الله» في «انتهاك صارخ»، ضدّ «سوريا الأسد» حسب تعبير حسن نصر الله؟ وما قول علي أكبر ولايتي، صاحب الحكمة المأثورة، في أنّ «بشار الأسد خطّ أحمر»؟

ذاك، إذاً، «تراث» الإغارة بالقاذفات، وللمرء أن يضرب صفحاً عن عمليات عسكرية أخرى تُنفّذ من عرض البحر (اغتيال العميد محمد سليمان)، أو تُنزل المظليين داخل العمق السوري (الإنزال الأمريكي في منطقة البوكمال)، أو تستخدم وحدات الكوماندوز والعملاء المحليين (اغتيال عماد مغنية، في قلب دمشق)… وذاك، استطراداً، تراث يشير إلى أنّ أوباما لا ينذر نظام الأسد، بقدر ما يهديه إلى سواء السبيل، والحفاظ على قواعد اللعبة.

 

٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

 

 

 

 

ماذا علينا فعله؟/ ميشيل كيلو

بقيام التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب، تدخل منطقتنا في مرحلة جديدة، وتطرح نفسها علينا أسئلة متنوعة، تتصل بالمنحى الذي ستتخذه الأحداث، والنتائج التي يمكن أن تترتب عليها بالنسبة لنا في سورية والعراق، كما في بلدان المنطقة المجاورة لنا، كالأردن ولبنان، والبعيدة نسبيا عنا في الخليج العربي.

بداية، لا بد من التوقف عند بعض ما يجب علينا فعله، لملاقاة تطورات الموقف الدولي، الذي ينتقل، اليوم، من سياسة قامت على التنصل السلبي والمتحفظ من صراعات منطقتنا إلى سياسة الانخراط الإيجابي والمباشر المحدود فيها، الذي قد يتسع، بمرور الوقت وتطور المعركة، ويشهد استخداماً متزايداً للقوة الدولية، سواء بالسلاح أم بالعسكر، ويحتمل أن يصل بعد نيف وعام، مع مغادرة باراك أوباما البيت الأبيض، إلى دور مباشر تلعبه الجيوش البرية.

ثمة نقطة مهمة لا بد من التوقف عندها، لعبت دوراً مهماً في وقوع التغيير الذي نلاحظه في السياسة الأميركية تجاه منطقتنا، تتلخص في اقتناع البيت الأبيض بأن انهيار الجيش العراقي أمام “داعش” أكد أن أي نظام غير ديمقراطي، في بلد تعرض، فترة طويلة، للاستبداد، لا بد أن ينتج الإرهاب بالضرورة. ويبدو أن واشنطن فهمت، بحكم التجربة، أن البديل الديمقراطي يستطيع، وحده، حماية بلدانه، وحمايتها من خطر الإرهاب. هذا ما أظن أنهم أدركوه بعد معركة الموصل، واستخلصوه من فشل حكم نوري المالكي الذي قام على فئويةٍ أقصت قطاعات عراقية واسعة جداً من أية مشاركة سياسية، أو عامة. لذلك، لم تنتج غير نقيضها الذي يشبهها. عنيت التنظيم الإرهابي الفئوي المسمى “داعش”، ولم يسبق للعالم أن واجه ما يماثله، أو يشبهه في العنف وسرعة الانتشار. السؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل فهم الأميركيون أن الفوضى ليست بديل الاستبداد، خلاقةً أم هدامة، وأن هذا البديل لا بد أن يكون نظاماً ديمقراطياً، وإلا كان عليهم تحمل ارتدادات الإرهاب بديلاً حتمياً، ولا مهرب منه على بلادهم، في ظل إرهاب عالمي الطابع والأبعاد، يرجح أن ينخرط قطاع كبير من مواطنيهم فيه، بما يجعله جزءاً من عالمهم الخاص، الداخلي، ويجعل من الصعب عليهم احتواءه أو القضاء عليه، على الرغم من أنه سينشر قدراً كبيراً من العنف داخل مجتمعهم، وسيكون في وسعه تخريب سلامهم وأمنهم الداخلي؟

بنت أميركا خطتها العراقية على هذا الفهم، وطالبت بتشكيل حكومة وحدة وطنية، لا يستبعد أحدٌ منها، تعبر عن مختلف قطاعات العراق الشعبي والحزبي، على أن تستند وحدة التمثيل الحكومي إلى وحدة وطنية وشعبية، هي وحدة القاع المجتمعي. وقد نجحت في تحقيق شكل أولي منها، عبرت عنه وحدة مواقف المرجعية الشيعية وهيئة علماء المسلمين والكرد والجيش وكتل البرلمان الحزبية، ما أتاح تغيير موقف إيران من المالكي، وتأمين غطاء وطني عام، لتدخل عسكري بالخبراء والطائرات والمعونات، مع ما سيترتب عليه من غلبة تحققها واشنطن على طهران في بغداد، فضلاً عن لي ذراع إيران في الصراع الناشب بينهما بالواسطة، وتهميش دور روسيا التي بادرت إلى إمداد جيش بغداد بالطائرات، من دون أن تلعب، حتى الآن، أي دور سياسي ملحوظ، أو مؤثر في الأزمة.

هل ستنتهج أميركا في سورية السياسة التي تنتهجها اليوم في العراق الشقيق؟ أعتقد أن هناك نقطتين مهمتين تحولان بين الوضع السوري وجعل أميركا والغرب ينفذان عندنا أعمالاً تشبه

التي تتم في بلاد الرافدين. أولاً، ليس لدينا وحدة سياسية أو شعبية أو عسكرية، في وسعها تقديم غطاء مناسب لدور الخارج في قضيتنا. لذلك، علينا إعطاء أولوية مطلقة لوحدة كهذه، سيحتاج العالم إليها، لكي يدعمنا بصورة يومية وملموسة، وسنحتاج نحن إليها كي نعزل “داعش” عن الجمهور المسلم، ونحول بينها وبين تقديم نفسها طرفاً يعبر عنه. ثانياً، ليس لدينا وحدة بين قوى المقاومة المسلحة والمعارضة السياسية والحزبية، يمكنها جني عائد المعركة ضد “داعش”، ووضعه في خدمة الثورة، واستخدامه ضد نظام الأسد.

تقوم أميركا، اليوم، بنقلة سياسية، تتطلب مصالحها القيام بها، وهي ستحجم أغلب الظن عن توسيع هذه السياسة في اتجاه يخدم مصالحنا نحن أيضاً، ما لم يمكنها وضعنا الذاتي والوطني من الاكتفاء ببذل قدر محدود من الجهد العسكري من جهة، مع تحقيق أكبر عائد سياسي من جهة أخرى، سيجسدها نجاح حل سياسي، هو، في نظرها، مآل أي عمل ستقوم به في بلادنا، من جهة أخرى.

ماذا يعني هذا الفرق بين العراق وبيننا؟ إنه يعني، بكل بساطة، أنه سيكون هناك تطبيقان مختلفان لسياسة واشنطن في العراق وعندنا، وأن تصعيد مواقفها في بلادنا سيتوقف على سد الثغرتين السابق ذكرهما، خصوصاً وأن قراءتها لهما ليست في صالحنا، بما أنها ترى في “داعش” حقيقة شعبية محتملة، وفي النظام طرفاً قد يفيد من ضرب الإرهاب، الأمر الذي قد يدفعها إلى الإحجام عن الذهاب في الشوط ضد ” داعش سورية” إلى أقصى مداه. لن يكون في مقدورنا، بعد الآن، تجاهل ما علينا فعله، ويتوقف عليه مصيرنا. فهل نبادر إلى إنجاز مهامنا أم نواصل التلاعب بقضيتنا، وإضاعة وقت شعبنا، والتمتع بالتفرّج على دمائه المسفوكة؟

العربي الجديد

 

 

نقاش مع بعض الأصدقاء حول الجهاديين في الثورة السورية والنظام/ بدرخان علي

لا أعتقد أن النظام أخرج الإسلاميين – الجهاديين من السجون كمؤامرة مبيتة وتخطيط مسبق من أجل “تخريب الثورة و لـ”أسلمة الثورة” كما يقال كثيراً. لدرجة أن هذه المقولة باتت سردية عامة مهيمنة لم تعد تثير النقاش أصلاً. هناك مقالة نشرت في إحدى المواقع الالكترونية المعارضة صارت مرجعاً في “تثبيت” هذه الرؤية التبسيطية. تفترض هذه المقالة أن النظام من خلال أحداث سجن صيدنايا العسكري و العنف الذي مارسه ضد نزلاء سجن صيدنايا، وكثير منهم كانوا إسلاميين وجهاديين عائدين من العراق، كان يعد العدّة (( ابتداء من سنة 2005 بتنفيذ برنامج تدريبي عملي لإعداد إسلاميين جهاديين كجزء من اختبار أكبر لصراع أهلي محتمل، مكان الاختبار هو معتقل صيدنايا العسكري شمال غرب دمشق)) يا لطيف!!!

( راجع مقالة عن «اختبار صيدنايا» وتداعياته على الثورة وسوريا: تنظيم الإسلاميين وبروڤة أولى لصراع أهلي للكاتب فراس سعد في موقع “الجمهورية” بتاريخ 26 كانون الأول 2013 )

طبعاً هناك في المعارضة من يقول يوماً إن الجهاديين “صنيعة النظام”، وفي اليوم التالي يقول أنهم “جزء أساسي من الثورة”. وهؤلاء لا يستحقون تضييع الوقت معهم أصلاً.( وبشكل خاص جماعة “المجلس الوطني السوري ” من سياسيين ومثقفين).

أنا برأيي أن المكّون الإسلامي العسكري، بما فيه الجهاديّ، مكون أساسي وأصيل في الثورة السورية المسلّحة. إنكار هذا الأمر لا يجدي. واسمحوا لي بالقول إن هذه الرؤية تنطلق من نظرة رومانسية و جمالية جداً للواقع السوري، والمجتمع السوري. وكذلك نظرة رومانسية للانتفاضة السورية ومحرّكاتها الاجتماعية. وكأن سوريا ليست بلداً غالبيته مسلمون سنّة، يتأثرون بالعالم الإسلامي الواسع. سيما في المحيط المباشر، في العراق ولبنان والخليج . وبعد “الصحوة الإسلامية”، وبعد اندلاع الطائفية في العراق ولبنان بشكل خاص. كما أنه هناك تجربة جهادية ليست بعيدة كثيراً كان لها عواقبها. هي تجربة الإخوان المسلمين وطليعتها المقاتلة في الثمانينات. وهي ليست بعيدة كثيراً. والعنف الطائفي في تلك المرحلة وما تلاها من ندوب وجروح اجتماعية ووطنية وسياسية. هناك العديد ممن خرجوا من سوريا بعد الأحداث الدامية تلك، باتوا جهاديين بارزين في الخارج، ومنهم من أصبح أبرز كوادر تنظيم القاعدة. الإسلاميون – الجهاديون ليسوا نبتة غريبة في الأرض السورية ( ولا حالة عامة أيضاً). القبضة الأمنية الشديدة للسلطة السورية منعت أي تجلٍ للإسلام الجهادي أن يبرز داخل سوريا، مثلما منعت أي حراك سياسي معارض آخر. عاينتُ في حلب والجزيرة السورية التعاطف الكبير مع الجهاد في العراق بعد إسقاط نظام الطاغية صدام حسين والاحتلال الأمريكي عام 2003. النظام كان مشجعاً جداً وعاملاً مسهلاً . لكنه لم يكن من خلق الجهاد من لا شيء.

الاعتماد على تكهنات من قبيل أن النظام حاور الجهاديين ،أو بعضهم في السجن، وبموجب ذلك اتفق معهم كي “يخربوا الثورة”، افتراض غير صحيح، فضلاً أنه غير مؤكد. وهو يستند أيضاً إلى افتراضات خاطئة عن الإسلاميين والجهاديين، وكذلك عن المجتمع السوري، والسلطة الحاكمة. إنه افتراض مثل المئات من الفرضيات والشائعات والأكاذيب التي روجها إعلام المعارضة، والإعلام العربي الممول من دول دعمت المعارضة الراديكالية، ودعمت الإرهاب في سوريا.

النظام أفرج عن جهاديين بعد انطلاق الانتفاضة. هذا صحيح. لكنه قتل الكثير منهم أيضاً داخل السجون. كما أن النظام أفرج عن نشطاء ومناضلين سلميين علمانيين أيضاً ( كما قتل الآلاف منهم أيضاً) . هناك نشطاء نعرفهم دخلوا السجون وعُذّبوا، وخرجوا ومارسوا نشاطهم وأعيد اعتقالهم وأفرج عنهم، ثم أعتقلوا مجدداً. وهناك من أفرج عنهم قبل انتهاء محكوميتهم . لماذا لا يقال عنهم كما يقال عن الإسلاميين أو الجهاديين؟

كذلك ، النظام أفرج عن نسبة لا بأس من المعتقلين، بعد الحوار مع وجهاء محليين، ووفود من مناطق متعددة، من أجل محاولة تهدئة بيئات بعينها. خصوصاً في الشهور الأولى من الانتفاضة. ( وعذب وقتل الكثيرين أيضاً) . وكان مطلب الإفراج عن المعتقلين على رأس مطالب قدمها وفود اجتماعية من مناطق متعددة. وكان بين هؤلاء إسلاميين وغير إسلاميين. للنظام حساباته الخاصة في البقاء على معتقلين أو الإفراج عنهم في كل الأوقات. هل كان الإفراج عن الإسلاميين خطأ في حسابات النظام. ربما. لكنها ليست مؤامرة منه واتفاقاً مع الإسلاميين لـ”تخريب الثورة”.

نعرف عن تلاعب السلطة السورية بالجهاديين وإرسالهم للعراق أو لبنان. وهذا غير بعيد عن هذا النظام البراغماتي. لكن سياق الثورة السورية مختلف عن تلك الحالات. و يعرف النظام كره الإسلاميين الجهاديين الشديد له. خاصة بعدما ذاقوا في سجونه.( واعتبار الجهاديين أن النظام السوري غدر بهم).

أريد القول إن الجهاد في سوريا، ليس مؤامرة من النظام على الثورة. إن الجهاد حصيلة عوامل تاريخية اجتماعية –طائفية واقتصادية-طبقية وسياسية، محلية وخارجية، ونتيجة عنف وإرهاب النظام الوحشيّ والتدخلات الخارجية و العسكرة و التمويل الخليجي والتركي ونتيجة “تحرير” المعابر الحدودية السورية. ( رُفع علم “القاعدة” على إحدى المعابر مع تركيا لحظة “تحريره”)

الحالة الجهادية في سوريا، لم تبدأ مع داعش ولا مع شقيقتها “جبهة النصرة”.

الجهاديّون مكوّن أساسي من مكونات الثورة السورية المسلّحة. أياً كان الموقف من الجهاد والجهاديين. ومن مشروعهم ( وهو مشروع خطير للغاية بالطبع لكن هذا حديث آخر). وينبغي للتأريخ القول أن المئات من الجهاديين قتلوا في الحرب مع النظام . بل كان الجهاديون الذراع الأساسية للثورة المسلّحة، في كثير من المناطق. وإذا كان معيار الثورية والوطنية عند الكثيرين( لستُ منهم) هو مقدار الجدية والمصداقية في محاربة النظام لكان واجباً عليهم الاعتراف أن الجهاديين جزء أساسي من الثورة السورية.

الذي يعتقد بثورة مسلّحة في سوريا بدون جهاديين وإسلاميين ، وفي الشروط الواقعية الملموسة المشخّصة لا الاعتماد على كتب جين شارب البسيطة عن تغيير الأنظمة الديكتاتورية أو مقولات غاندي ؛ فلينتظر حدوث هكذا “ثورات نظيفة” بلا عنف وبلا دماء ولا مجازر…. ولا لصوص ولا نهب ولا ميليشيات ولا اختطافات ولا طلب فديات….. ولا إسلاميين بكافة تدرجاتهم.

 

 

 

“داعش” كمؤشر على انحسار تيار الاسلام السياسي/ محمد سيد رصاص

بعد صعود هتلر للسلطة يوم 30 كانون ثاني 1933 كتب ليون تروتسكي الكلمات التالية في وصف النازية: «كل ما كان المجتمع نبذه كحثالة الثقافة وبرازها… ها هو يدفعه من حلقومه. تتقيأ الحضارة الرأسمالية الهمجية غير المطحونة. هذه هي فيزيولوجية النازية» (إسحق دويتشر: «النبي المنبوذ»، المؤسسة العربية، بيروت 1983، ص191).

أفرزت ألمانيا، بلد غوته وبيتهوفن، معاكسهما المتمثل في أدولف هتلر. ليس هذا معزولاً عن ثقافة وسياسة: وصف جورج لوكاش في كتابه «تحطيم العقل» المسار الثقافي الألماني على مدى قرنين من الزمن، بكل ما يحويه من اتجاهات فلسفية ــ فكرية الذي قاد إلى النازية. في السياسة هذا ليس معزولاً عن الهزيمة الألمانية عام 1918 وما تبعه من عقوبات وتكبيلات فرضها المنتصرون في معاهدة فرساي على الألمان. وكذلك هو مرتبط بصعود المد البلشفي، ثم بأزمة عام 1929 الاقتصادية التي حطمت الطبقات الفقيرة والفئات الوسطى الألمانية. الهزيمة العسكرية وتهديد البلشفية، اجتمعا عند فئات واسعة من المجتمع الألماني، مع رعاية من أصحاب المصانع وكبار الرأسماليين، لفرز إيديولوجية فكرية سياسية وحزب سياسي من أجل الرد على الهزيمة الألمانية وضرب ومواجهة المد الشيوعي، مع توجيه النار إلى درايا يهودية حمّلوها مسؤولية هزيمة الحرب العالمية الأولى بعد أن رفض كبار أصحاب البنوك من اليهود الألمان اقراض القيصر الألماني في عام 1918 لتمويل المجهود الحربي بعد أربع سنوات من الحرب، ما أدى إلى انهيار اقتصادي كان سبباً للهزيمة. فيما كان الجيش الألماني سليماً عسكرياً، إذ اجتمع في هذه الإيديولوجية وذاك الحزب وذلك الزعيم مزيج من نِشدان غسل عار الهزيمة مع التوق إلى العظمة الألمانية تحت شعار «ألمانيا فوق الجميع» مع ميول فكرية – سياسية تسوّغ استعمال الوحشية والعنف والقتل للخصوم السياسيين وبخاصة الشيوعيين، والمذابح والتطهيرات الجماعية التي وصلت إلى «الهولوكوست» مع ملايين اليهود. لم يكن موسوليني في ايطاليا بمعزل – كاتجاه فاشي نشأ كحزب وكحركة في آذار 1919 – عن رد فعل دفاعي بوجه المد الشيوعي ركب على الخيبة الايطالية من ترك الحلفاء لروما من دون غنائم الحرب التي احتكرتها لندن وباريس. إذ اعتمد موسوليني على مئات آلاف الجنود المسرحين الآتين من جبهات القتال وعلى الطلاب من الفئات البرجوازية الصغيرة والفلاحين الذين عانوا من أزمة اقتصادية كبرى في فترة ما بعد الحرب اضيفت إلى المشكلة الايطالية المزمنة الموجودة بين جنوب زراعي أقل تطوراً بمدنه وبلداته وريفه وشمال ايطالي متطور ومزدهر صناعياً، حيث أتت القاعدة الاجتماعية للفاشية من الريف وأساساً في الجنوب. كان صعود الفاشية اجتماعياً وتنظيمياً وسياسياً إثر المد اليساري العمالي في أيلول 1920 الذي تمثل في احتلال المصانع من قبل العمال ورد فعل عليه. بدأ استعمال العنف الفاشي في تشرين ثاني1920 ضد العمال واليساريين. وصل موسوليني للسلطة في 28 تشرين أول 1922. كان الجنرال فرانكو ووصوله للسلطة عام 1939 حصيلة لمئات آلاف الجثث بعد ثلاث سنوات من الحرب الأهلية الاسبانية ضد الجمهوريين الذين كان الشيوعيون عصب قوتهم حيث كانت هناك اشتراكات إيديولوجية – فكرية – سياسية، في تبرير راض عن قتل وذبح الجمهوريين وتهجير الملايين للمنافي، داخل معسكر الملكيين الذين لم يضموا فقط أنصار «حزب الفالانج» (الكتائب) بل ضموا الكنيسة الكاثوليكية ومؤمنيها وكتلة اجتماعية كبرى من الاسبان الميسورين ومن الفئات الوسطى.

في حالات هتلر وموسوليني وفرانكو كان القتل والتصفيات والذبح مؤدلجاً فكرياً، ومشرعاً سياسياً، وعلنياً في الممارسة، ولم تمارس التقية أبداً حيال ذلك: اجتمعت الهزائم مع الاحباط مع الأزمات الاقتصادية مع الشعور بخطر مد فكري – سياسي مضاد لكي يولد ذلك كله مزيجاً مركباً تمظهر في حركات إيديولوجية – فكرية – سياسية – ثقافية – تنظيمية حزبية أدلجت القتل والذبح والتصفيات الجماعية. أتى هذا من مركب اجتماعي، هو المعسكر الرأسمالي، شعر نفسه في حالة انحسار أمام المد الشيوعي. لم تتولد هذه الوحشية آنذاك في لندن وباريس وواشنطن، حيث لم يكن التهديد الشيوعي قريباً من الأعناق، ولكن في حالات خاصة ببرلين وروما ومدريد حيث اجتمعت عوامل مختلفة خاصة بالحالات الثلاث المذكورة لكي تفرز تلك الوحشية السياسية المؤدلجة. ولم تكن بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأميركية حزينة لما جرى لخصوم هتلر وموسوليني وفرانكو بل راضية، ولم تتحسس رقبتها إلا عندما بدأ هتلر وموسوليني منذ عام 1936 يمدان أيديهما خارج الحدود. قضي على هتلر وموسوليني عام 1945 ثم جرى تدجين نظام فرانكو في حلف الناتو منذ عام 1949. لم تعد النازية والفاشية والكتائبية الفالانجية تلاقي رواجاً في الغرب بعد أن اطمأنت الرأسمالية إلى مصيرها إثر «يالطا» وتقاسم أوروبا ثم بعد أن جرى احتواء المد الشيوعي في السبعينيات، ولو سمحت واشنطن بطبعات عن هتلر وموسوليني وفرانكو أمام خطر المد الشيوعي في أندونيسيا 1965 وتشيلي 1973.

هناك سلسلة تقود من حسن البنا إلى أبو بكر البغدادي عبر سيد قطب مروراً بشكل مباشر إلى الظواهري ومن عبدالله عزام إلى ابن لادن. قاد ابن لادن – الظواهري من خلال «تنظيم قاعدة الجهاد» عام 1998 إلى الزرقاوي وأبو أيوب المصري في «تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين». في زمن المصري وقيادته للقاعدة بالعراق بين حزيران 2006 ونيسان 2010 جرى تأسيس «دولة العراق الاسلامية» ووضع عراقي على رأسها هو أبو عمر البغدادي. بعد مقتلهما أتى أبو بكر البغدادي في نيسان2010: في زمن المد الذي عاشه تيار الاسلام السياسي بين عامي 1967 و2013 وضعت الأفكار التطرفية – التكفيرية لسيد قطب، التي أتت حصيلة رد فعل أنتجته الزنزانات والتعذيب والسجون في زمن المد الناصري، جانباً من قبل جماعة «الاخوان المسلمين» مفضلين عليها أفكار حسن الهضيبي الذي رد على كتاب سيد قطب «معالم في الطريق» (1964) عبر كتاب كتب أيضاً في السجن عام 1969 هو «دعاة لاقضاة». في زمن المد أفرز «الإخوان» ظواهر اعتدالية مثل عمر التلمساني الذي تولى منصب «المرشد العام» بين عامي 1974 و1986. تحت تأثير ضربات حسني مبارك برز «مرشد عام» هو مصطفى مشهور بين عامي 1996 و2002 رعى صعود التيار القطبي بقيادة محمود عزت ومحمد بديع إلى الواجهة القيادية الاخوانية، ولكنه لم يستطع الوصول للقيادة إلا بعملية أشبه بالانقلابية جرت في صفوف «مجلس شورى» الجماعة بشهر كانون أول 2009 تم فيها ابعاد المعتدلين مثل عبدالمنعم أبو الفتوح ومحمد حبيب وتم الاتيان بمحمد بديع مرشداً للجماعة. كان التيار القطبي متحكماً بـ«الإخوان» في أثناء الإطاحة بمبارك وفي زمن الزواج الموقت بين الاسلام السياسي وواشنطن الذي قاد لوصول محمد مرسي للرئاسة المصرية في 30 يونيو 2012. أشر سقوط مرسي في 3 يوليو 2013 إلى بداية انحسار مد تيار الاسلام السياسي، وقد جرت ترجمات لاحقة لذلك عند «اخوان» تونس وليبيا وسوريا. لم ينتج اعتدال اخواني عقب سقوط مرسي كما جرى من قبل الهضيبي والتلمساني بالستينيات والسبعينيات، بل هناك مؤشرات على أن قيادة التيار الاسلامي السياسي الآن والجناح الأقوى فيه هي لـ«السلفية الجهادية»، وأن التشدد الاسلامي أو الاعتدال لم يعد تفرخه بيضة «الاخوان» كما جرى عبر مثالي قطب والهضيبي في الستينيات. واضح الآن في عام2014 وعقب سقوط مرسي أن دفة «الاسلام السياسي» قد أصبحت ممسوكة من قبل «داعش»، أي «الدولة الاسلامية في العراق والشام» التي أعلنها البغدادي يوم 9 نيسان 2013 ثم حولها إلى «دولة الخلافة الاسلامية» في 29 حزيران 2014، وأن «الأصولية الاخوانية» لأول مرة قد أصبحت أضعف من «السلفية الجهادية» منذ أن مثلها «تنظيم قاعدة الجهاد» عام 1998. وهذه خريطة جديدة في صورة تيار الاسلام السياسي، وهي غير مسبوقة منذ آذار 1928 لما أسس البنا جماعة «الاخوان المسلمين» حيث لم يستطع أحد، لا «حزب التحرير» ولا غيره، منافسة «الاخوان» على صدارة تيار الاسلام السياسي.

يؤشر البغدادي و«داعش» إلى حالة انحسارية يعيشها الآن تيار الاسلام السياسي، ووحشيته العنفية تعبّر عن حالة حصار ودفاعية وشعورية انحسارية يعيشها هذا التيار كما كان هتلر وموسوليني وفرانكو أمام المد الشيوعي السوفياتي. كانت وحشية بول بوت و«الخمير الحمر» في كمبوديا، أثناء حمكمهم بين نيسان 1975 وكانون ثاني 1979، مؤشر على انحسار المد الشيوعي السوفياتي البادئ منذ أكتوبر 1917 وعلى قرب سقوط تيار الشيوعية السوفياتية التي فرخت الستالينية والماوية وكان من الأخيرة «الخمير الحمر»، ولولا انحراف دينغ سياو بينغ عن الماوية وقيادته للصين في اتجاه جديد بالثمانينيات، وهو الذي أبعده ماو عن القيادة عام 1966، لكانت بكين لحقت موسكو في السقوط.

* كاتب سوري

الأخبار

 

 

الفيل الأميركي وبيت الفخار المشرقي/ غازي دحمان

هي المرة الأولى التي تحضر فيها أميركا إلى المنطقة، بدعوة من غالبية دول وقوى الإقليم، وغالباً ما كان حضورها يصنع انقسامات واصطفافات، وغالباً ما كانت المبادرة والمتشجعة، الكل يعتقد أنها قادمة لأجله، أو على الأقل يستطيع تجيير حضورها لمصلحته، وجعلها القوة النارية التي سيهزم بها خصمه، وسبب ذلك اعتقاد الأطراف المختلفة في المنطقة أنها أوصلت خصومها إلى الجولة الحاسمة التي ستخوضها بالذراع الأميركية.

لكن، أيضا، ينطوي استدعاء القوة الأميركية، في أحد تعبيراته، على اعتراف صريح من كل القوى المتصارعة بأنها وصلت إلى طريق مسدود، واستنزفت كل إمكاناتها في البقاء والصمود. وبالتالي، فهي تستدعي الطرف الأميركي لإيجاد مخرج لها من هذا المأزق. لكن، ألا يستدعي هذا الأمر الحذر والتروي، من الطرف العربي الأضعف على المستوى الإقليمي، وخصوصاً أن هذا التدخل تحيط به ثلاثة معطيات (حقائق) تنذر بمخاطر جمة، قد يحدثها هذا الاستدعاء الأميركي:

الأول، انهيار الوطنيات المشرقية، في العراق وسورية ولبنان وفلسطين، وبلوغها مستوى متدنياً، لم تشهده منذ نشأتها، ويحول هذا الوضع الكيانية في هذه البلدان إلى جسم رخو وقابل للتشكيل وإعادة الصياغة، في ظل حالة الانقسام الطائفي والمناطقي التي باتت تعبر عن نفسها بوضوح صارخ. وتشي هذه الاختلالات البنيوية بتغييرات جيوبوليتيكية قادمة، خصوصاً أن التدخل يأخذ شعار حماية الأقليات، ممن؟ ما يعني توجيه ضربة نهائية لإمكان قيام هوية مواطنية في المشرق الذي يعاني من عطب مزمن في بنيته السياسية.

الثاني، هياج المحيط الإقليمي، الإيراني – الإسرائيلي – التركي، وبحثه عن أدوار ومنافع جيواستراتيجية، مستغلاً حالة الدولة المريضة في المشرق، وينتظر أن يرث أجزاء من جغرافيته، ويطوي كتلاً من ديمغرافيته، بوصفها امتداداً حيوياً وشرفات جغرافية وأحزمة أمان مستقبلية لها. فيما النظام الإقليمي العربي صار خارج القدرة على التأثير والفعالية، بل هو نظام انهار، وإن من دون إعلان رسمي بنهايته.

الثالث: وقوع هذين المتغيرين، واندماجهما، على خط التغييرات البنيوية الحاصلة في النظام الدولي والتغييرات الاستراتيجية الهيكلية في النظام العالمي، ووقوع منطقة المشرق العربي في قلب خريطة نقل الغاز إلى الغرب، بوصفه الطاقة البديلة في القرن الحالي.

وثمة معطى آخر، يتوجب الانتباه إليه، هو أن الحرب الأميركية، إن حصلت في المنطقة، ستكون أول حرب أميركية غير أيديولوجية، منذ نحو قرن، ذلك أن حروبها السابقة في أوروبا وآسيا والشرق الأوسط خاضتها واشنطن تحت شعار مناصرة الديمقراطية وحقوق الإنسان، بغض النظر عن التزامها بهذا المحتوى، وهذا يعني أنه كانت لكل تلك الحروب أهداف واضحة، على ضوئها كان يتم رسم الاستراتيجيات، وتقدير مدى الحروب وطبيعتها، في حين تبدو أميركا الحالية بدون استراتيجية كبرى واضحة، وجراء ذلك تعاني سياستها الخارجية اضطراباً ملحوظاً ولا تعرف نخبها السياسية ما تريده بالضبط، وخطورة هذا المتغير من كونه قد يجعل من سلوكها عنيفاً، ويشتغل على ردات الفعل.

وإضافة إلى ذلك، لا بد من ملاحظة قضيتين خطيرتين في الحضور الأميركي، سيكون لهما أثر كبير في التطورات المستقبلية للمشرق:

الأولى: أن الحضور الأميركي لا يحصل من أجل مشكلات المشرق بحد ذاتها، وإنما بهدف تحييد تأثيراتها على خط مصالحه الذي رسمه شمالاً عند حدود كردستان، وجنوباً قرب بغداد، حيث يوجد موظفوه وحقول النفط والاقتصادات والأسواق الناشئة. ويهدّد هذا الأمر بإمكانية إيجاد ترسيمة للمنطقة، تقوم على أساس مناطق مفيدة، يجري دمجها بخريطة العولمة، تشمل المناطق السابقة وشواطئ المتوسط، ومناطق هامشية، يجري تركها للخراب ومجمعاً للقوة المنبوذة.

الثانية: أن واشنطن تلح على السؤال عن اليوم التالي، ماذا بعد تدخلها؟ وتكاد تطرح هذه المسألة محدداً، أو شرطاً، لقبول انخراطها بالحرب على الإرهاب، وهذه المسألة بالذات يبدو أن واشنطن بصدد ترتيب صياغة لها، إذ تلمح أميركا إلى طرح مسألة الفدرلة في العراق، وتعميمها، لاحقاً، على المشرق العربي، وهي دعوة غير بريئة، في ظل واقع التشظي الذي يضرب الكيانات المشرقية، إذ يجعلها وصفة مؤكدة للتقسيم.

هذا التصميم في حال حصوله، يشكل ربحاً صافياً للقوى الإقليمية غير العربية، وخصوصاً إيران التي تريد أخذ حصتها في الخليج والعراق على شكل دول طائفية، ربما ذلك ما يفسر الترحيب الإيراني بالتدخل الأميركي.

بين المشرق العربي والتدخلات الأجنبية حالة تنافر دائمة، إذ يشير تاريخ التدخلات، دائماً، إلى حصول تغييرات مهمة على مستوى الكيانات، والعبث ببناها الاجتماعية وعلاقات مكوناتها، وليس بعيداً ذلك التاريخ الذي عمل فيه الفرنسيون على تقسيم سورية إلى خمس دول، وكذا إعطاء وطن قومي لليهود في فلسطين، واجتزاء أراض عراقية لمصلحة إيران وأقاليم سورية للدولة التركية، والغريب تشابه ظروف اليوم ووقائعها مع تلك التواريخ، وخصوصاً لجهة الفوضى الحاصلة في النظام الدولي، والتغييرات في مواقع ومراكز القوى الإقليمية، وعدم وجود دولة مركزية قوية، واليوم يقع التدخل الأميركي فيما تنخرط مكونات المشرق كلها في حرب ضروس، فتكت بوطنياته وأسس اجتماعه، بينما تظهر أميركا قوةً عارية من دون مشروع واضح، ما يجعل دخولها يشبه دخول فيل أعمى إلى بيت من فخار.

العربي الجديد

 

 

 

 

حول خلفية الداعشيين الغربيين/ عبدالباسط سيدا

كثر الحديث حول تزايد عدد الأجانب من مواطني الدول الغربية ضمن تنظيم داعش، سواء من أبناء الجاليات المهاجرة، أو من الأبناء الأصليين لتلك الدول. وقد ظهرت بصمات هؤلاء واضحة على عمليات الإخراج الإعلامية لرسائل داعش المصورة لبث الرعب في نفوس المستهدفين، ورفع وتيرة الحقد الأعمى لدى المناصرين، لتكون الحصيلة لا عقلانية هوجاء تنذر بزلزلة القواعد والحدود.

ومنذ البداية، كانت ظاهرة التحاق مواطني دول أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأميركية، وكندا، وحتى استراليا، موضوع اهتمام لافت، ومتابعة دقيقة من الأجهزة الأمنية الخاصة بالدول المعنية التي من المفروض أن تكون قد وضعت الخطط والبرامج التي لا بد أن تُعتمد لمواجهة عودة هؤلاء، والأخطار التي يمكن أن تترتب على ذلك.

وفي الآونة الأخيرة نلاحظ أن هناك اجراءات وقائية تحدث عنها الإعلام، الغرض منها هو الحد من وصول دفعات جديدة من الراغبين في الالتحاق بالتنظيم المذكور. وهي اجراءات بدأ يتخذها عديد الدول، منها السعودية. وهناك من تحدث عن التهديد بسحب الجنسية من المعنيين، الأمر الذي سيثير من دون شك الكثير من الجدل حول قانونية، أو حتى دستورية، إجراء كهذا.

والأمر الذي يستوقف أكثر من غيره في ما يتصل بهذا الموضوع، أن الخطوات المقترحة لمعالجة هذه الظاهرة تركّز على النتائج من دون المقدمات، هذا على رغم وجود بعض الاستثناءات. فحينما يتخذ الشاب قراره الالتحاق بهذا التنظيم، أو ما يماثله، تصبح كيفية الالتحاق مجرد قضية اجرائية تنفذ في غالب الأحوال. وربما ساهمت الإجراءات الأمنية المتخذة راهناً في عرقلة وصول أعداد من هؤلاء، أو حتى منع وصول قسم منهم، إلا أنها لن تقطع الطريق على هذه الظاهرة نهائياً، طالما أن المقدمات فاعلة، تمارس تأثيرها، وتؤدي إلى نتائج سرعان ما تغدو مقدمات لنتائج أخرى، وهكذا حتى نصل إلى عمليات الالتحاق ذاتها.

وهذه المقدمات منها ما هو عام، له علاقة بالتحولات التي طرأت على النمط المعيشي، والتوجهات المجتمعية في الدول المعنية في مرحلة ما بعد الحداثة. ومنها بخاصة ما يتمحور حول وضعية المجموعات المهاجرة في الدول ذاتها، وانعكاساتها بصورة خاصة على الجيلين الثاني والثالث من شبان هذه المجموعات.

وأهم المقدمات العامة في هذا السياق يتجسّد في حالة خواء مرعبة على الصعيد الروحي، تعيشها المجتمعات المعنية، وهي تتمثل في تضاؤل الإهتمام بالفلسفات الإنسانية، وطغيان النزعة النسبية الشمولية المنافية بطبيعتها لأية مرجعية قيمية مستقرة. وقد أدى ذلك إلى تراجع الاهتمام بالشأن العام، نتيجة تحوّل الفرد إلى مركز الاهتمام عوضاً عن المجتمع. وما تمخّض عن ذلك هو انكماش واضح في دائرة المهتمين بالعمل السياسي، الأمر الذي ترتب عليه، بفعل التراكم، غياب الزعامات السياسية الكبرى التي كانت تجسّد بأقوالها وأفعالها صيغة من صيغ التواصل الوجداني الروحي بين القيادة والشعب، وغدت الحسابات الانتخابية الموجه والمحرّك في ميدان تحديد أولويات سياسات الحكومات، ما أدى إلى تفارق شبه قطعي بين المصالح والقيم الإنسانية، وأصبحت الأخيرة مادة لمواثيق تزيينية مناسباتية، تُستخدم بصورة انتقائية مادة اعلانية، أو وسيلة للتدخل حينما تُوجب المصالح ذلك، بعيداً من المبادئ الأخلاقية.

وفي مناخ كهذا، تنتشر النزعات العدمية بأشكالها المختلفة، وذلك نتيجة تفاعل حالة الخواء الروحي، إذا صح التعبير، مع حصيلة النسبية المطلقة. فتختفي الروادع الذاتية، وتغدو الحرية مجرد إطار خالٍ من أي مضمون حقيقي. وتبرز مظاهر العنف الفردي ضمن المجتمعات المعنية، لتعبّر عن حالة من حالات اثبات الذات أو جذب الانتباه، أو نسقاً من أنساق من التمرّد المبهم على وضع لاعقلاني، يساهم العنف الإعلامي بتقنياته المختلفة في تعميق أزمته وحدّته.

أما بالنسبة إلى أبناء الجماعات المهاجرة، فمعاناتهم عادة ما تكون مركّبة، لأن ما يسري على المجتمع العام يشملهم أيضاً. لكنهم في الوقت ذاته يعانون ضمن مجتمعاتهم الفرعية من تبعات اخفاق سياسات الاندماج، وتنامي التيارات العنصرية، وتفاقم آثار ظاهرة الفزّاعة الإسلامية. ويتشخّص كل ذلك في نزعة تمييزية مقيتة، تتجلى في مظاهر عدة منها: ارتفاع نسبة البطالة، والعزل السكني، والشعور المؤلم بالتهميش وانسداد الآفاق. وبتفاعل كل ذلك مع اتساع نطاق الاتصالات مع المجتمعات الأصلية عبر الأقنية الفضائية، ومن بينها المتشددة، ومواقع التواصل الاجتماعي التي تشرف على العديد منها الحركات المتطرفة بأسمائها المختلفة. هذا إلى جانب الجهود الدعوية التعبوية فضلاً عن نشاطات شبكات الايقاع باليافعين. وبتفاعل كل ذلك مع ما تقدم، تكون النتيجة هذه الأعداد من المتطرفين الغربيين الذين تتداخل لديهم نزعات البحث عن بطولات تحقق لأصحابها مجداً شخصياً يتخيلونه، مع مشاعر المظلومية، والرغبة في الانتقام، ومساعي البحث عن استقرار وجداني، لا بل التطلع لبناء نظام اسلامي يستلهم الماضي المجسّم وفق مقاسات المنطق الرغبوي، والذي لا يلتزم عادة بالوضعية التاريخية الواقعية واحتياجاتها الفعلية.

ومن هنا، نرى أن معالجة ظاهرة المتطرفين الداعشيين أو أقرانهم في المجتمعات الغربية لا يمكن أن تتم وفق خطط أمنية وحيدة الإتجاه. وأية معالـــجة جدّيّة ناجعة تستوجب وجود استراتجية متكاملة، متعددة الجوانب، تشمل الدين والفلسفة والــسياسة والاقتصاد والاجتماع، استراتيجية تعالج المسائل من جذورها، وتصادر على جهود الجماعات المتطرفة عبر تمكين شبان المهاجرين من أداء المهام التي يستحقونها، بناء على مؤهلاتهم، في مجتمعاتهم الجديدة. وهي استراتيجية أساسها الحوار والتفاهم والاحترام المتبادل. أما أن تقتصر جهود المعالجة على الإجراءات الأمنية، أو في أحسن الأحوال على تنظيم بعض النشاطات المناسباتية الاعلامية أو الاعتماد على جهود بعض الهواة الذين عادة ما يعقّدون الأمور عوضاً عن معالجتها.

وهذا مؤداه أن ظاهرة تدفق سيل المتطرفين الغربيين نحو مناطق الصراع مرشحة للاستفحال. وهو ما سينعكس سلباً من دون شك، طال الأمد أو قصر، على المجتعات التي قدموا منها، الأمر الذي سيؤدي من جهته إلى تنامي الظاهرة بصورة أعمق وأشمل، وتغدو المعالجة في حالات كهذه أصعب وأشد تعقيداً بطبيعة الحال.

الحياة

 

 

 

في العجز عن مكافحة “الإرهاب”…/ لؤي حسين

كان معروفاً، قبل الآن، أن تخطي الأزمة العنفية السورية الحدود الجغرافية لسورية سيولّد إشكالا عصياً. فالأزمات المتعدية من سورية إلى دول الجوار لن يكون من اليسر حلها من دون حل الأزمة السورية، وبالمقابل لن يقتضي حل الأزمة السورية، التي هي المسبب المباشر لتلك الأزمات، حلاً تلقائياً لتلك الأزمات، ذلك لأنها تكون قد تمكنت من إنتاج ميكانزماتها، أو آليات وجودها، الخاصة. ما يعني ضرورةً جمع تلك الأزمات تحت عنوان واحد كأزمة إقليمية، والتعاون على حلها كأزمة إقليمية واحدة. لكن هذا لن يكون في متناول الأيدي، فالاختلاف والتعارض بين المصالح الدولية سيحول دون إمكانية العمل المشترك لهدف مشترك.

نحن الآن عند هذه النقطة تماماً: داعش تحولت إلى أزمة إقليمية بكل معنى الكلمة، تهدد بتحطيم بنى سياسية واجتماعية في بعض البلدان مثل سورية والعراق ولبنان (لحد الآن)، وتنذر بالتمدد الفكري والإيديولوجي لبلدان أخرى كتركيا وبلدان الخليج، وكذلك البلدان العربية في إفريقيا.

وفي مواجهة ذلك تم الإعلان الآن عن تشكيل تحالف دولي بقيادة أميركية لمواجهة داعش. لكن أعمال هذا التحالف، على المستوى العسكري والسياسي، ستقتصر فعلياً على العراق فقط. أما في سورية فلن يكون لهذا التحالف فاعلية تذكر، لا بالمعنى العسكري ولا بالمعنى السياسي. فعلى المستوى العسكري لا توجد قوات برية في سورية يمكن لهذا التحالف الاعتماد عليها في مواجهة داعش، كما هي الحال في العراق من خلال الجيش العراقي وقوات البيشمركة ومجموعات الصحوات العراقية. فالجيش السوري هو بأمرة النظام، الذي لا يقبل هذا التحالف مشاركته، والمجموعات الكردية المسلحة ليست بمستوى البيشمركة، والمجموعات المسلحة التي تصفها واشنطن بالمعتدلة لن تكون في غالبيتها على استعداد لمقاتلة فصيل إسلامي كداعش تحت راية أميركية، أو بالتعاون مع أميركا. هذا فضلاً عن أن الهجمات الجوية الأميركية على «داعش» سورية، مع ضعف احتمالها، لن يكون لها تأثير بالغ الأهمية.

أما على المستوى السياسي فليس هناك أي عمل يقوم به هذا التحالف غير الحل الجذري للأزمة السورية. فواشنطن ليست في وارد فتح ملف الحل السياسي للأزمة السورية من جديد، على رغم تأكيد باراك أوباما مواصلة «العمل من أجل التوصل إلى حل سياسي للأزمة في سورية مرّة واحدة ونهائياً». فالأزمة السورية ليست مقتصرة على وجود خطر داعش على الساحة السورية، إضافة إلى وجود أطراف دولية رئيسة في الأزمة السورية، كروسيا وإيران، ليست مستعدة بالمقابل، لحد الآن، على القبول بتسوية سياسية في سورية لا تحقق لها انتصاراً.

إذن، ووفق تقديري، لن يكون في مقدور هذا التحالف القضاء على داعش في المنطقة خلال فترة الثلاث سنوات التي حددتها واشنطن لإتمام مهمة هذا التحالف. فالقضاء على داعش في العراق يقتضي ضرورة القضاء عليها في سورية في الوقت ذاته وفي البرنامج ذاته، عسكرياً وسياسياً وثقافياً، واقتصادياً أيضاً.

وبناء على هذا، يمكننا النظر إلى هذا التحالف، وإلى غاياته، ضمن لوحة الحرب الباردة القائمة بين واشنطن وموسكو أكثر من النظر إليه على أنه السبيل المؤمل للقضاء على داعش. فواشنطن تمكنت، عبر هذا التحالف، من توحيد وقيادة كل دول المنطقة، ما عدا إيران، إضافة إلى الدول الأوروبية، على مسألة ذات حساسية أخلاقية عالية، تحظى بشعبية وجماهيرية واسعة، من دون أن تشرك روسيا معها. وهذا سيُظهر روسيا، مقارنة بالنيات المعلنة لهذا الحلف، على أنها غير جديرة بمواجهة داعش، القوة الأكثر همجية في التاريخ الراهن، بل ربما تظهر ببعض المستويات على أنها داعمة لها بشكل غير مباشر من خلال دعمها النظام السوري، الذي تماثله الدول الغربية، وغالبية دول التحالف، مع داعش من حيث الهمجية والوحشية.

هذا يعني أننا أمام فوز سياسي للولايات المتحدة على روسيا في حربها الباردة معها، إن كان على المستوى الدولي أو الإقليمي. فروسيا ليست ضمن هذا التحالف ولن يكون في مقدورها معارضته، كما لن ينفعها في هذا المجال اعتبارها الهجمات الجوية الأميركية، المحتملة، على قوات داعش في الأراضي السورية خروجاً عن القانون الدولي قبل أن يكون هناك تفويض من مجلس الأمن. فهذا الموقف سيجعلها تبدو مدافعة عن وجود داعش أكثر مما ستبدو على أنها مدافعة عن القانون الدولي. وربما تتلكأ واشنطن بالقيام بمثل هذه الهجمات متذرعة بالموقف الروسي والإيراني المعارض لذلك بحجة السيادة الوطنية للنظام السوري الفاقد الشرعية دولياً من وجهة نظر واشنطن.

بعض الأطراف الدولية تعرف أن لا جدية لحد اللحظة في مواجهة خطر داعش على المنطقة. إذ إنها تدرك أنه لا يمكن القضاء على داعش أو مواجهتها فعلياً من دون تعاون جاد مع السلطة المركزية السورية ومع الجيش السوري. لكن سلطة دمشق الحالية غير مؤهلة البتة لمواجهة داعش، إذ إن مثل هذه المواجهة تتطلب سلطة وطنية يشعر جميع المواطنين بأنها سلطتهم، فيلتفون حولها ويشكلون بيئة نابذة لداعش أو لأي طرف تفتيتي لوطنهم. مثل هذه السلطة يقتضي أن يتشارك فيها جميع المكونات والقوى السورية بشكل فعلي، من دون استئثار طرف أو مكوّن مجتمعي بها وحده. فتكون بذلك سلطة قادرة على قيادة جميع قطعات الجيش، وليس الموالين لها فقط، في مواجهة داعش.

ويبقى أن مواجهة الإرهاب لا يمكن أن تقوم به حكومات غالبيتها لا تزال تمارس أشكالاً متنوعة من العنف تجاه مواطنيها، وتفرط في ذلك، مثل شرعنة العنف ضد النساء والمهمشين والمعارضين والمختلفين في الرأي. فمواجهة الإرهاب تقتضي أساساً العمل الجاد على استئصال العنف، كل أشكال العنف، من الثقافة العمومية لأبناء منطقتنا ومن الثقافة السلطوية لحكومات دولنا.

* رئيس تيار بناء الدولة السورية

الحياة

 

 

 

تحالف المتخالفين/ علي العبدالله

سلّطت لقاءات السيد جون كيري في جدة وأنقرة والقاهرة وباريس الضوء على الخيارات المتعارضة التي تتطلع اليها الدول التي ارتضت المشاركة في التحالف الدولي الذي سيواجه داعش عسكريا واقتصاديا، والمدى الذي ستذهب اليه في المواجهة والنتيجة التي ترتضيها كل دولة للصراع.

لم يكن اجتماع جدة(11/9/2014) الذي ضم عشر دول عربية الى جانب تركيا والولايات المتحدة ناجحا بالصورة التي تحدث عنها السيد كيري : لم تقبل تركيا التوقيع على البيان الختامي بذريعة عدم تضمنه اسقاط النظام السوري، وتمسكت بموقفها خلال زيارة كيري لأنقرة واكتفت بالقيام بدور لوجستي وإنساني، وحديث الوزير السعودي سعود الفيصل عن عدم كفاية مواجهة داعش عسكريا وضرورة مواجهته فكريا، وتباين رؤية مصر حول طبيعة المواجهة وساحتها، ما يعكس تحفظها على خطة اوباما التي تركز على مواجهة داعش في العراق ثم في سوريا، وهذه بالإضافة الى التصريحات الالمانية التي تحفظت على المشاركة العسكرية، والبريطانية التي استبعدت المشاركة في قصف داعش في سوريا، ودعوة فرنسا الى عقد مؤتمر حول العراق في باريس ما يعني وجود تباين مع الموقف الامريكي. أثارت اسئلة حول قدرة التحالف على تنفيذ المهمة المطلوبة وحول الفترة الزمنية والكلفة المادية والبشرية. فاتفاقا نيوبورت (اتفاق عشر دول اطلسية على التحالف ضد الارهاب)وجدة، اللذان شكلا ركيزة تحالف الراغبين، ينطوي على تعارضات وتباينات حول المدى الذي يمكن ان يذهب اليه كل طرف ورؤيته للطريقة المناسبة لهزيمة داعش والأهداف المتوخاة من العملية في ضوء تباين المصالح والتصورات والاستعدادات. فالسعودية اولويتها مواصلة عزل ايران وإضعاف دورها في المشرق العربي من خلال اعادة تشكيل الفضاء السياسي العراقي بحل الميليشيات الشيعية وإشراك السنة العرب في العملية السياسية بطريقة تجعلهم شركاء فعليين في القرار السياسي، وإسقاط رئيس النظام السوري، في حين تريد مصر توسيع دائرة الحرب على الارهاب بحيث تشمل جماعة الاخوان المسلمين والتنظيمات الجهادية في مصر وليبيا، وتوقّف واشنطن عن انتقاد ممارسات النظام واستئناف ارسال المساعدات العسكرية، بينما تسعى قطر الى تحسين صورتها وتخفيف الضغط الامريكي والسعودي عليها عبر قيامها بإبعاد اعضاء من جماعة الاخوان المسلمين المصريين، وبالتوسط لإطلاق الرهائن الدوليين واللبنانيين، وتعزيز موقفها الاقليمي عبر التحالف مع تركيا. تركيا من جهتها تريد تجنب مشكلات قد تضر بفرص حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البرلمانية القادمة والتي يعول عليها الرئيس التركي رجب طيب اردوغان كثيرا كي يواصل خطته في تحويل النظام التركي من نظام برلماني الى نظام رئاسي، وأي نتائج سلبية نتيجة للحرب على داعش مثل اعدام الرهائن الاتراك عند داعش( 49 شخصا بينهم اعضاء القنصلية التركية في الموصل والقنصل) او الاصطدام بالأكراد السوريين وتعطيل المصالحة مع اكراد تركيا، قد تطيح بفرص تحقيق فوز كاسح في هذه الانتخابات البرلمانية يتيح تعديل الدستور التركي وتحقيق هدف اردوغان المشار اليه، ناهيك عن التخوّف من التغيرات المترتبة على الحرب وتسليح البيشمركة واحتمال وصول اسلحة متطورة الى حزب العمال الكردستاني.

قدمت الولايات المتحدة محفزات لإقناع الدول العربية بالمشاركة في التحالف والانخراط في مواجهة داعش من الموافقة على دعم المقاتلين السوريين المعتدلين، وعلى تدريبهم في السعودية، الى رفض التنسيق مع النظام السوري، واستبعاد إيران من التحالف، الى رفض مشاركتها في مؤتمر “الامن والسلام في العراق” الذي عقد في باريس يوم الاثنين 15/9/2014، مرورا بالالتزام بانجاز حل سياسي في سوريا يستبعد بشار الاسد، فحاجتها ماسة الى انخراط دول عربية في المعركة لاعتبارات تتعلق بالتغطية السياسية والدينية للحرب ناهيك عن المساهمة في نفقاتها. وقد سربت جهات امريكية مرافقة لكيري خلال زيارته الى بغداد ما تتوقعه من هذه الدول حيث للسعودية دور في قتال داعش عند المثلث السعودي الاردني العراقي ولدول الخليج الأخرى دور لوجستي: فتح القواعد والأجواء والمطارات ونقل السلاح والذخيرة الى العراق، بالإضافة الى اقناع العشائر السنية بالقتال الى جانب الحكومة العراقية، في حين يقوم الاردن بتدريب القوات العراقية وتقديم دعم استخباراتي، وتقوم مصر بإرسال قوات برية الى سوريا.

وقد عكس هدف فرنسا المعلن من عقد مؤتمر “الأمن والسلام في العراق”، وهو توزيع الادوار في مواجهة داعش، عدم موافقتها على التصور الامريكي للأدوار، ودعوتها الوزير الروسي سيرغي لافروف، ورغبتها في دعوة ايران، وجود تباين وتنافس فرنسي أمريكي، ففرنسا لا ترضى بقيادة أمريكا للتحالف وتريد العودة الى الساحة العراقية وضمان حصة مناسبة من كعكتها بعد ان أخرجتها واشنطن هي وروسيا منها بعد احتلال العراق عام 2003، وألمانيا لا تريد الانخراط في صراع يضعها في مواجهة جماعات متطرفة على ارضها بالنظر الى حجم الجالية المسلمة فيها وتوجهاتها السياسية والاجتماعية، وبريطانيا مازالت تعاني عقدة رفض مجلس العموم لمشاركتها بالقصف الامريكي المزمع على سوريا بعد استخدام النظام للأسلحة الكيماوية في الغوطة في 21/8/2013، وترغب بالاحتفاظ بالعلاقات الاقتصادية الجديدة مع ايران وبالإيداعات المالية الروسية الضخمة في مصارفها.

هذه التباينات والتعارضات في الرؤية والأهداف بين شركاء التحالف تشي بالكثير من العقبات والتعقيدات ازاء المعركة واحتمالاتها وانعكاساتها، والوضع سيكون اعقد وأكثر خطورة اذا اضيف اليها الدور الذي يمكن ان تلعبه جهات اقليمية ودولية رافضة للإستراتيجية الأمريكية(ايران وروسيا) التي لم تُستبعد من التحالف فقط بل وجاءت استراتيجية اوباما التي ستحكم حركة التحالف على الضد من مصالحها ان في سوريا او في العراق، ناهيك عن الاشتباك القائم حول اوكرانيا بين الأخيرة والغرب، وقد بدأتا في الاعلان عن عدم رضاهما عن التوجهات الامريكية والخطط المطروحة عبر المطالبة بالالتزام بالشرعية الدولية والتحرك بعد الحصول على قرار من مجلس الامن الدولي، والمطالبة بالتنسيق مع النظام السوري قبل القيام بأي عمل عسكري في سوريا، الى التحفظ على تسليح المعارضة باعتباره وسيلة لتغيير التوازن العسكري مع النظام، الى اعتبار التحالف عملا انتقائيا غير مقبول والهجوم عدوان على شعوب المنطقة، وصولا الى اتهام واشنطن بصنع داعش واستثمار العملية لإعادة احتلال المنطقة، والتلويح بقيام روسيا بقصف مواقع داعش في سوريا على خلفية اعتبارها اداة أمريكية.

هل تنجح واشنطن في تقريب وجهات النظر داخل صفوف التحالف وتعزز تماسكه وقوته، وهل ستأخذ الموقف المناسب لردع الدول المناوئة بحيث تفتح الطريق لعملية عسكرية وسياسية ناجحة تقود ليس الى دحر داعش فقط بل والى صياغة واقع سياسي ايجابي في الاقليم يضع دول المنطقة على طريق الامن والاستقرار في ظل نظم سياسية تحظى برضا الشعوب.

المدن

 

 

 

موقع أكراد سوريا في التحالف ضد داعش/خورشيد دلي

سيناريو أكراد العراق

محاذير غربية

الاختبار على الأرض

مع تواصل الجهود الأميركية لاستكمال إستراتيجية الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) تتجه الأنظار إلى القوى الموجودة على الأرض لمحاربته في إطار الإستراتيجية الأميركية.

في سوريا تبدو قوات وحدات حماية الشعب الكردية المعروفة بـ”ي ب ك” هي القوة الوحيدة التي لها سجل موثوق في الحرب ضد هذا التنظيم، إذ خاضت هذه القوات خلال السنتين الماضيتين مواجهات شرسة مع مقاتلي داعش في مناطق متفرقة في ما يعرف بكردستان الغربية أي المناطق الكردية في سوريا.

ولعل من أهم هذه المواجهات تلك التي جرت في رأس العين (سري كانيه) وجزعة وتل حميس وتل معروف ومعبر ربيعة المعروف بـ”تل كوجر” على الحدود السورية-العراقية، حيث يكتسب التنظيم يوما بعد آخر المزيد من القدرات والنفوذ والقوة والشعبية في المناطق الكردية السورية.

سيناريو أكراد العراق

في العمق يشعر أكراد سوريا -وتحديدا حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي والقوات العسكرية المنضوية تحت رايته (ي ب ك، والأساييش)- بازدواجية المعايير الغربية في التعامل معهم، ولعلهم يتساءلون لماذا يندفع الغرب لدعم ومساندة إخوانهم من أكراد العراق في مواجهة داعش، في حين لا يتوافر مثل هذا الدعم لهم رغم أنهم أثبتوا جدارتهم في مواجهة التنظيم؟

وعليه، ربما يطمح هؤلاء إلى تكرار سيناريو الدعم الغربي لأكراد العراق من خلال إثبات جدارتهم في المعارك الجارية وإبداء الاستعداد للتعامل مع التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن والانفتاح على قوى المعارضة السورية، أملا في الحصول على سلاح متطور يقوي من دورهم في التطورات الجارية ويجلب لهم المزيد من الاعتراف المحلي والإقليمي والدولي.

ترى قوات وحدات الحماية الشعبية الكردية أن ما جرى في سنجار ضد الإيزيديين، والدور الذي لعبه التنظيم في إجلاء آلاف الإيزيديين فتحا صفحة جديدة في العلاقة مع القوى الغربية ولا سيما الولايات المتحدة، حيث للمرة الأولى جرى لقاء علني بين الجانبين في سنجار خلال عمليات إجلاء الإيزيديين رغم أن التنظيم يعد الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني المصنف في لائحة الإرهاب.

ويبدو أن تأكيد وزير الخارجية الأميركية جون كيري على ضرورة دعم القوى المحلية على الأرض المستعدة للعمل ضد داعش زاد من آمال أكراد سوريا بالمزيد من الانفتاح الغربي عليهم والحصول على المساعدات التي يتمنونها.

وأبعد من خطوة الحصول على الدعم الغربي فإن أكراد سوريا وتحديدا حزب الاتحاد الديمقراطي يأملون من مثل هذا الانفتاح بتحقيق جملة من الأهداف، لعل أهمها:

1- تحسين حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي لصورته في الداخل والخارج في ظل الاتهامات الكثيرة الموجهة له، مما يعزز من نفوذه ويكرسه قوة مهيمنة بالمناطق الكردية في سوريا.

2 – جلب اعتراف دولي بالحقوق القومية الكردية في سوريا، خاصة أن الحزب أعلن منذ أكثر من سنة عن مشروع الإدارة الذاتية الذي قام على إقامة ثلاثة كانتوتات في الجزيرة وعفرين وكوباني (عين العرب) كشكل من أشكال الحكم المحلي، حيث تواجه هذه الإدارة صعوبات وتحديات كثيرة بسبب الحصار والظروف الحياتية الصعبة، فضلا عن الوضع الأمني المتفجر.

3- من شأن هذا الدعم جعل القضية الكردية في سوريا على طاولة المشهد السياسي السوري المستقبلي وضرورة إقرارها في أي حل للأزمة مستقبلا. ومن دون شك يدرك أكراد سوريا أن آمالهم هذه لا يمكن أن تتحقق من دون ثمن، ورغم أن الثمن معروف، وهو القيام بدور أساسي في الحرب ضد داعش على الأرض، ورغم أن هذا الأمر متحقق من قبل فإن تقديم الغرب الدعم لهم يواجه عقبات كثيرة.

محاذير غربية

ثمة شكوك غربية كثيرة بشأن حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي الذي يسيطر على المناطق الكردية، وتنبثق هذه الشكوك من جملة محاذير وأسباب، لعل أهمها:

1- الحديث عن علاقة سرية بين الحزب والنظام السوري، ووجود تنسيق بين الجانبين تجلى في إخلاء النظام العديد من مواقعه ومقاره في المناطق الكردية وسيطرة الحزب عليها دون صدام أو مواجهة.

2- يعد الحزب في الأساس الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني بقيادة عبد الله أوجلان المعتقل في تركيا منذ 15 عاما، وهو المصنف في قائمة الإرهاب.

وعليه، فإن أي دعم غربي لأكراد سوريا يواجه برفض تركي لأسباب تتجاوز الأزمة السورية إلى السياسة التركية تجاه القضية الكردية في عموم المنطقة والصراع الجاري مع حزب العمال الكردستاني، وخوف تركيا الدفين من ولادة إقليم كردي ثان على حدودها الجنوبية، مما يلهب حماس أكراد تركيا برفع سقف مطالبهم في تركيا، حيث تتقدم عملية السلام بين الجانبين ببطء وحذر شديدين.

3 – العلاقة المتوترة بين حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي وباقي فصائل المعارضة السورية السياسية والعسكرية بما في ذلك الائتلاف الوطني والجيش الحر، حيث جرت مواجهات بين الجانبين في أكثر من ساحة ومكان خلال الفترة الماضية.

4- العلاقة المتوترة بين مجلس غرب كردستان الذي ينضوي فيه حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي وبين أحزاب المجلس الوطني الكردي الذي يتخذ من أربيل مقرا ومرجعية له، حيث يشكو الأخير من احتكار مجلس غرب كردستان ساحة أكراد سوريا وفرض نفوذه بالقوة، فيما يقول الأخير إن النضال لا يكون من خلال فنادق أربيل وعن بعد، وإنما بالعمل المضني على الأرض وتقديم التضحيات.

هذا فضلا عن أنه يشكو من محاولة فرض أربيل الوصاية على أكراد سوريا في إطار التنافس التاريخي بين الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البارزاني وحزب العمال الكردستاني بزعامة أوجلان.

دون شك، هذه الأسباب تشكل محاذير غربية في التعامل مع قوات وحدات الحماية الشعب الكردية، وعليه تنظر واشنطن بعين الريبة والشك في التعامل مع هذه القوات رغم خبرتها القتالية الناجحة نسبيا في مواجهة داعش والتي نجحت حتى الآن في حماية المناطق الكردية السورية من الوقوع تحت سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية.

لكن رغم المحاذير والريبة الأميركية فإنه من الواضح أن واشنطن -خاصة بعد إشارتها إلى دعم القوى المحلية على الأرض- باتت تنظر إلى أكراد سوريا كحليف جيوسياسي يمكن لهم أن يلعبوا دورا فاعلا على غرار أكراد العراق في إطار إستراتيجيتها لمحاربة داعش، خاصة أن التطورات الجارية أفرزت شكلا من أشكال التعاون أو التحالف بينهم وبين قوى المعارضة السورية التي تصفها واشنطن بالمعتدلة وتسعى إلى تشكيلها في جبهة واسعة، سواء لمحاربة داعش أو النظام.

الاختبار على الأرض

بانتظار استكمال الإستراتيجية الأميركية ضد داعش في سوريا وشكل التحرك العسكري ضده وتهيئة القوى التي ستقوم بتنفيذ هذه الإستراتيجية على الأرض، من الواضح أن قطار التحالفات بين القوى المقاتلة على الأرض السورية تحرك باتجاه تشكيل جبهة مقبولة غربيا لتكون مصدر ثقة يمكن الاعتماد عليها.

ولعل التطور الأسرع والأبرز هنا هو الإعلان عن تشكيل أوسع تحالف بين الأكراد والعديد من الفصائل المقاتلة في شمال سوريا باسم “غرفة عمليات بركان الفرات”، وهو تحالف ضم قوات وحدات حماية الشعب الكردية والعديد من الكتائب التابعة للجيش الحر وغيره من الفصائل المسلحة لمحاربة داعش في الريف الشمالي لحلب ومحافظة الرقة.

وإذا كان هذا الإعلان يشكل تحولا لافتا في علاقة الأكراد بالفصائل المسلحة فإن التوقيت يحمل رسائل سياسية غير بعيدة عن الجهود التي تبذلها واشنطن في تشكيل التحالف الجاري ضد داعش والقوى التي ستتحرك ضده على الأرض.

وإذا كانت رسالة التحالف الجديد لواشنطن هي أنه يمكن الرهان عليه في تنفيذ الإستراتيجية الأميركية فإن الأمر بالنسبة للأكراد يحمل رسائل كثيرة، أولاها: تأكيد عدم صحة الحديث عن أنهم في تحالف غير معلن مع النظام ضد القوى المطالبة بإسقاطه.

وثانيتها: أن أكراد سوريا ينطلقون في كفاحهم من أجل نيل حقوقهم القومية من معادلة وطنية سورية، وأنهم على استعداد للعمل المشترك مع باقي القوى السورية لبناء سوريا جديدة يكون فيها اعتراف بهذه الحقوق.

وثالثتها: رسالة إلى الغرب وحتى تركيا بضرورة تصحيح النظرة المسبقة وغير الدقيقة عن طبيعة الحركة الكردية وارتباطاتها، وبالتالي تطلعاتها وما يترتب على ذلك من نظرة جديدة. في النهاية، ربما يعتقد أكراد سوريا أنه رغم كل التحفظات الغربية على دعمهم عسكريا فإن موقعهم الجغرافي وخبرتهم القتالية ضد داعش واستعدادهم للمزيد وغياب قوى يمكن الاعتماد عليها كلها أسباب كفيلة بجعلهم شريكا موثوقا في التحالف الجاري، وبما تفضي الأحداث إلى نوع من الاعتراف الدولي والمحلي بقضيتهم.

الجزيرة نت

 

 

 

 

الأكراد وداعش.. حروب الهوية والسيطرة/ خورشيد دلي

حروب للسيطرة

الدعم الغربي للأكراد

تداعيات الحرب

الحرب بين داعش (تنظيم الدولة الإسلامية) والأكراد لم تبدأ مع سيطرته على الموصل وتوسعه باتجاه أربيل لاحقا كما يتصور البعض، بل بدأت قبل ذلك بأكثر من سنة عندما حاولت داعش التقدم للسيطرة على المناطق الكردية في شمال شرق سوريا وتحديدا للسيطرة على بلدة رأس العين (سريه كانيه) على الحدود السورية التركية، حينها واجه التنظيم مقاومة شرسة من مقاتلي وحدات حماية الشعب الكردية.

لكن الجديد في الأمر هو الاستنفار الغربي للدفاع عن إقليم كردستان الذي يكاد يشكل قصة النجاح الأميركية الوحيدة في العراق بعد غزوه عام 2003، إذ بدا الدفاع عن الإقليم وكأنه مخرجا للمعضلة الإستراتيجية الأميركية الأخلاقية في العراق في مواجهة زحف داعش وما رافقه من قتل وتدمير، لتأخذ الحرب شكل معارك كر وفر للسيطرة على المناطق المتداخلة عرقيا ودينيا وقوميا، وهي المتخمة أصلا بالنفط والمياه والكنوز التاريخية.

حروب للسيطرة

عندما سيطرت داعش على الموصل سارعت قوات البشمركة الكردية إلى بسط سيطرتها على مدينة كركوك، وأعلنت قيادة الإقليم أنه تم تطبيق المادة 140 الخاصة بمستقبل كركوك، وقتها اتهم رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي الأكراد بالتآمر مع داعش في الموصل تمهيدا لتقسيم العراق.

لم يمض على هذا الاتهام أسابيع قليلة حتى كانت داعش تتقدم صوب أربيل عاصمة الإقليم، فيما كانت دفاعات البشمركة تتهاوى في مخمور وسنجار وزمار وغيرها من المناطق، وكان لتقدم داعش وقع الصدمة على أربيل والعالم خاصة وأن هذا التقدم اقترن بارتكاب مجازر ضد الإيزيديين والأقليات التاريخية كالآشوريين والصابئة المندائيين والشبك.

قيادة الإقليم التي كانت مشغولة بالخلافات المتفاقمة مع بغداد وبمعركة الاستقلال، لم تجد مناصا من الانتقال من معركة الدفاع عن الإقليم وعدم التورط العسكري خارجه إلى الهجوم، إذ بدت وكأنها في معركة وجود مهدد بقوة زحف داعش، فانطلقت في حرب على الأرض، صورتها على أنها معركة الدفاع عن العالم لمحاربة الإرهاب، طالبة النجدة من الغرب الذي سارع بدوره إلى تلبية النداء وتقديم السلاح بل والمشاركة الأميركية العسكرية في الحرب ضد داعش بعد أن قالت الإدارة الأميركية في وقت سابق إنها لن تعود إلى العراق بعد الانسحاب منه.

على الأرض بدت المعركة وكأنها حرب للسيطرة على المناطق والهوية، واللافت هنا أن قوات وحدات حماية الشعب الكردية في سوريا وصلت إلى سنجار حيث الموطن التاريخي للإيزيديين قبل وصول البشمركة إليها، واللافت أيضا، أنها المرة الأولى في التاريخ التي يلتقي فيها مقاتلون أكراد من المناطق الكردية في العراق وسوريا وإيران وتركيا على أرض سنجار للقتال معا في خندق واحد، في معركة أطلق بعض الكرد عليها معركة الشرف والكرامة.

وهكذا عززت الحرب من تدفق الهوية القومية الكردية على جغرافية حبستها سايكس بيكو قبل نحو قرن في حدود جغرافية سارع داعش إلى إزالتها قبل الأكراد.

ربما اعتقد الإقليم الكردي في البداية أن ما جرى كان مؤامرة إقليمية للقضاء على طموح الإقليم للاستقلال، لكن الإقليم سرعان ما وجد نفسه في مناخ جديد أوجده داعش نفسه عندما أنتجت سيطرته على الموصل معادلة سياسية جديدة في بغداد، قضت برحيل المالكي والمجيء بحيدر العبادي وسط دعم دولي وعربي وإيراني، وهو ما أعاد الجسور السياسية بين أربيل وبغداد من زاوية أولوية محاربة داعش بوصفه تهديدا لوجود الطرفين.

وقد كان التعاون بين أربيل وبغداد والإدارة الأميركية بمثابة ساعة الصفر من قبل البشمركة لوقف تقدم داعش على جبهات سهل نينوى ومحافظة ديالى وكركوك وصلاح الدين بعد أن سيطر التنظيم على أغلب مناطق سهل نينوى وقضاء سنجار وزمار وسد الموصل وجلولاء، قبل أن تستعيد البشمركة السيطرة على معظم هذه المناطق بدعم جوي أميركي وعراقي، لتصبح الحرب على الأرض معارك كر وفر من منطقة إلى أخرى.

الدعم الغربي للأكراد

العديد من المحللين يتساءلون عن سر الاندفاع الغربي وتحديدا الأميركي إلى الإسراع في نجدة أربيل لمواجهة داعش مقابل تكلؤ الإدارة الأميركية في الاستجابة لطلبات بغداد المماثلة عندما سيطر التنظيم على الموصل وهدد بالزحف نحو بغداد.

قرار الرئيس الأميركي باراك أوباما بشن غارات ضد داعش سرعان ما أتبعه دعم بريطاني وفرنسي وألماني، ثم قرار أوروبي بتسليحه، وقبل ذلك قرار دولي تحت رقم 2170 يقضي بمحاربة إرهاب داعش.

قرار التدخل الغربي حمل شعارات أخلاقية تراوحت بين حماية الأقليات الدينية والعرقية ومحاربة الإرهاب وخطر التنظيمات التكفيرية، لكن الرئيس أوباما كان واضحا أيضا عندما برر شن الغارات الجوية بحماية المصالح الأميركية، ومع أنه لم يحدد ماهية هذه المصالح، إلا أنه من الواضح أنها تتعلق أولا بحماية المصالح النفطية وامتيازات شركات النفط الأميركية (إكسون موبيل وشيفرون) واستثماراتها الضخمة في الإقليم الذي بدأ يصدر النفط للخارج ويخطط لارتفاع إنتاجه بشكل قياسي خلال السنوات القليلة المقبلة. كما أنها تتعلق بحماية الوجود العسكري الأميركي حيث تتحدث تقارير أميركية عن وجود عدة آلاف من الأميركيين في أربيل.

وعلى المستوى السياسي فإن هذا التدخل شكل مسارا دبلوماسيا لرسم خريطة سياسية جديدة في العراق بعد رحيل المالكي وربما فاتحة لشكل من التعاون الأميركي مع الدول الإقليمية بشأن المستقبل السياسي للعراق.

في الإجمال يمكن القول إن التدخل العسكري الأميركي أدى إلى نتائج إيجابية على جبهة البشمركة تمثلت في:

1- تأمين الغطاء الجوي لقوات البشمركة للقيام بهجمات ضد داعش.

2- رفع معنويات القوات الكردية خاصة وأنها تعرضت في البداية إلى ما يشبه انتكاسة عندما سيطرت داعش خلال يومين على مناطق شاسعة من قضاء سنجار.

3- تسليح البشمركة بأسلحة متطورة وبكميات جيدة بعد أن منعت بغداد ذلك خلال السنوات الماضية.

4- جلب حالة من التعاطف الدولي مع إقليم كردستان وتأييده في الحرب ضد داعش خاصة في ظل ارتكاب الأخير جرائم وأعمال قتل لا سيما ضد الطائفة الإيزيدية.

5- لقد كشف كل ما سبق عن وجود لوبي قوي في الغرب داعم للأكراد، خلافا لما كانت عليه العلاقة التقليدية بين الكرد والغرب، عندما كان الغرب يتعامل مع الأكراد من زاوية أمنية وقتية فقط، بعيدا عن كونهم شعبا وقومية وأمة، لهم حقوق ويمكن بناء مصالح مشتركة معهم.

تداعيات الحرب

دون شك فإن التدخل العسكري الغربي إلى جانب البشمركة أحبط تقدم داعش، ونقل المعركة إلى مرحلة جديدة، لعل من أهم عناوينها استيعاب اندفاعة داعش، وتوجيه ضربات مميته له في العراق، إفساحا في المجال أمام أهداف سياسية تتعلق بترتيب المشهد السياسي في العراق، على شكل تحقيق نوع من التوازن الشيعي السني في الحكم من جهة، ومن جهة ثانية إعادة العمل بالآلية الدستورية لحل الخلافات بين بغداد وأربيل بعد أن تفاقمت هذه الخلافات في عهد المالكي.

في الأساس يمكن القول إن داعش وقعت في فخ التوسع الجغرافي عندما سيطر على مناطق واسعة من العراق وسوريا وأقام شبه دولة تمتد من منبج بالقرب من حلب على الحدود السورية التركية إلى مشارف بغداد التي تشكل عاصمة حيوية لدول الخليج وإيران معا.

وإلى جانب فخ التوسع فإن قضية التسوية السياسية في بغداد فتحت المجال أمام العملية السياسية بما يخفف من أهمية البعد الاجتماعي الذي استندت إليه داعش في خطابها السياسي ضد حكومة المالكي.

ولا يستبعد كثيرون أن يكون الهدف الأميركي من التدخل السريع في الأحداث هو توجيه ضربة للنفوذ الإيراني في العراق وتشكيل جسر جديد للمزيد من التعاون العسكري مع بغداد وأربيل، ليس للقضاء على داعش في العراق فحسب، بل بما يمهد لسياسة عراقية مختلفة تجاه الأزمة السورية.

في الواقع ومع تأكيد صعوبة القضاء على داعش في العراق، خاصة بعد أن توسع التنظيم وامتلك قدرات عسكرية وخبرات قتالية كبيرة، إلا أنه من الواضح أن الانتصارات السريعة لداعش نبهت العالم إلى خطره وضرورة التحرك ضده ووضع حد لمسيرة صعوده في العراق، بما يعني كل ذلك وضع داعش أمام خيار وحيد، ألا وهو التوجه بأسلحته ومقاتليه شمالا أي نحو الأراضي السورية.

وما سيطرة داعش على دابق شمال حلب وتكثيف معاركه في المناطق الشمالية والشرقية أي حلب والرقة ودير الزور إلا بداية لموسم هجرة داعش من شمال العراق إلى سوريا، فيما يبقى الأمر بالنسبة لإقليم كردستان قصة نجاح جديدة، أو طريقا لفرض شروطه على بغداد أو حتى معبرا نحو الاستقلال.

الجزيرة نت

 

 

 

تركيا والحرب على «داعش»: محنة السياسة وجدل الخيارات/ خورشيد دلي

تبدو تركيا في محنة حقيقية مع استكمال خطوات الحشد الدولي للحرب على «داعش»، فهي من جهة لا تريد الظهور بمظهر الدولة الشاذة خارج التحالف الدولي الذي تعده واشنطن، ومن جهة ثانية تخشى من انعكاسات مدمرة على ديبلوماسيتها، فضلاً عن أثمان كبيرة محتملة على أمنها. محنة تركيا هذه، تعكس إلى حد كبير تلك الصورة التي تقول إن تركيا هي من أكبر الداعمين والمستفيدين من «داعش»، سواء في استخدام التنظيم كأداة لإسقاط النظام السوري أو لمنع تشكل إقليم كردي في شمال شرقي سورية، أو لتحقيق نوع من التوازن في المشهد السياسي الداخلي العراقي، أو حتى استخدامه كقوة ناعمة في إطار الصراع الطائفي مع إيران على المنطقة العربية. وعليه كيف لدولة مستفيدة بهذا الشكل، وفي ظل التطورات العاصفة التي تشهدها المنطقة، ان تدخل في حرب ضد تنظيم تحول إلى شيطان دولي كما يقول المحلل السياسي التركي ممتازير توركينيه في صحيفة «الزمان»؟

من رفض أنقرة التوقيع على بيان جدة إلى موقفها الغامض والحذر من المشاركة في هذه الحرب، تسوق أنقرة جملة من التحفظات والأخطار من هذه الحرب، لعل أهمها:

1- الخوف على حياة 49 ديبلوماسياً بمن فيهم القنصل التركي في الموصل، خطفهم «داعش» في حزيران (يونيو) وسط خشية من لجوئه إلى الانتقام وإعدامهم في حال قررت تركيا المشاركة في الحرب ضده على غرار ما حصل مع الصحافيين الأميركيين.

2- الخشية من ان يصل السلاح إلى يد حزب العمال الكردستاني وحليفه حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي في سورية، وبالتالي استخدام هذا السلاح لاحقاً في تركيا ونسف عملية السلام الجارية مع الأكراد. وفي الإجمال لا تريد تركيا ان يستفيد الأكراد سواء في العراق أو في سورية وعموم المنطقة، إلى حد الانتصار في هذه الحرب والخروج منها بما يحقق دولتهم المنشودة.

3- الخشية من أن يكون النظام السوري هو المستفيد الأكبر من هذه الحرب وأن تؤدي إلى تقويته، عبر ملء الفراغات التي ستتركها حرب القضاء على «داعش».

4 – الخوف من حدوث فوضى واضطرابات قد تصل إلى داخل تركيا وزيادة التدخل الخارجي في المنطقة، وعليه يمكن فهم حديث أنقرة الاستباقي للحرب على «داعش» عن إقامة منطقة أمنية عازلة في المناطق الحدودية مع سورية والعراق لمواجهة الأخطار والتداعيات.

هذه المخاوف وغيرها، تسوقها أنقرة في معرض رفضها الحرب. لكن هذا الرفض لا يعد قراراً نهائياً لصانع القرار السياسي التركي الذي لا يتردد في الحديث عن تحسين شروط هذه الحرب موازنة الحسابات والمصالح التركية. بانتظار الموقف النهائي لأنقرة، فإن الأخيرة تبدو في محنة خيارات صعبة، وجدل حسابات متداخلة في كل الاتجاهات، فحدودها باتت مجاورة لحدود دولة «داعش»، وبالقرب من هذه الدولة هناك حدود الدولة الكردية الناشئة في العراق وسورية. وفي الأساس، فإن قضية تنظيم «داعش»، منذ البداية وحتى لحظة الحرب عليه، تطرح أسئلة كثيرة نادراً ما تجد إجابات مقنعة، وأينما تقلب تركيا البوصلة تجد نفسها أمام أخطار واثمان.

ثمة من يرى ان تركيا تقف أمام سيناريوات ثلاث، ولكل سيناريو حسابات وأثمان.

الأول: سيناريو الأردن، أي أن تأخذ كل الاحتياطات والإجراءات على أراضيها من دون التدخل المباشر في الحرب على داعش.

الثاني: سيناريو المشاركة الكاملة، أي الانخراط في هذه الحرب بوصفها دولة عضواً في الحلف الأطلسي وعلى علاقة متينة بالولايات المتحدة، وبالتالي لا يمكن لها التخلف عن حرب يقودها هذا المعسكر باسم مكافحة الإرهاب.

الثالث: سيناريو المشاركة الجزئية، أي تقديم الخدمات اللوجستية والاستخبارية ووضع المطارات التركية والمناطق الحدودية في خدمة هذه الحرب.

في كل هذه السيناريوات، تبدو تركيا حائرة مثل جغرافيتها وهويتها وخياراتها السياسية، فهي ان شاركت في الحرب بشكل كامل تخشى من أن يلجأ «داعش» إلى نقل عملياته إلى الداخل التركي حيث تقول التقارير إنه بات للتنظيم حاضنة داخل العديد من المناطق التركية وأن هناك مئات المقاتلين الأتراك داخل التنظيم، فضلاً عن أن الأخير قد يلجأ إلى إعدام الرهائن الأتراك انتقاماً لمـــوقف حكومتهم. وإن لم تشــارك فالخسائر ربما ستكون مضاعفة واستراتيجية، فالولايات المتحدة الحليفة الاستراتيجية لتركيا في إطار العضوية في الحلف الأطلسي لن تنسى لتركيا مثل هذا الموقف وسترد لها في العديد من القضايا والمناطق، وربما أولى القضايا التي يمكن أن تظهر في هذا المجال، احتمال ان تلجأ واشنطن إلى اعتماد حزب العمال الكردستاني العدو التاريخي لتركيا والموصوف بالإرهاب حليفاً واقعياً ومجرباً لمحاربة ارهاب «داعش».

الأمر الثاني ان هذه الحرب وضعت العلاقة بين تركيا وإقليم كردستان في مهب الامتحان الاستراتيجي، فإقليم كردستان الذي كاد ان يسقط تحت وقع زحف «داعش» بعد سيطرته على الموصل بات ينظر بعين الريبة إلى الموقف التركي الذي تقاعس عن نجدته، وعلى وقع هذا الموقف بات الإقليم يراجع علاقاته بتركيا بعد ان وصلت إلى مستـــوى الشراكة، كل ذلك مقابل حضـــور قــوي لإيران التي سارعت إلى نجــدة الإقليم في أرض المعركة، ما شكل ضربة قوية لأنقرة، خصوصاً أن أكراد العراق هم الكيان الوحيد الذي كانت لأنقرة علاقات قوية معه في المنطقة. مهما يكن، فإن تركيا في محنتها السياسية، وأمام الضغط الأميركي الهائل والمتواصل، والحسابات المتداخلة، تبدو أقرب إلى السيناريو الثالث، أي خيار المشاركة غير المباشرة في الحرب على «داعش»، والموصوف هنا بتقديم الجهد الاستخباراتي وضبط الحدود وتكثيف الجهود لمنع تدفق المقاتلين وملاحقتهم ووضع المطارات والقواعد التركية ولاسيما انجرليك في خدمة هذه الحرب.

في معرض قراءة الموقف التركي، يذهب بعضهم إلى المقارنة بين موقف تركيا من التحالف الجاري هذه الأيام ضد «داعش» وموقفها عشية الغزو الأميركي للعراق عام 2003 عندما رفض البرلمان التركي استخدام الأراضي التركية لغزو هذا البلد الجار، لكن الثابت هذه المرة ان محنة تركيا أكبر بكثير، وخياراتها صعبة تحمل الكثير من التداعيات والأثمان، فهي تحس من جهة بخسارة هائلة على الجبهة الديبلوماسية وقوتها الناعمة، ومن جهة ثانية تحس بأخطار غير مسبوقة على أمنها القومي، على شكل موقف صعب يشكل الامتحان الأكبر للسياسة التركية في عهد الرئيس رجب طيب أردوغان.

* كاتب سوري

الحياة

 

 

 

 

 

من مجموعة أصدقاء الشعب السوري إلى التحالف الدولي ضد داعش/ بكر صدقي

تشكلت مجموعة أصدقاء الشعب السوري من عدد من الدول العربية وغير العربية التي أعلنت وقوفها إلى جانب الشعب السوري في ثورته ضد نظام الأسد الكيماوي، وضمت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، وهي دول دائمة العضوية في مجلس الأمن، والسعودية وقطر وتركيا، وهي الدول الاقليمية الأكثر انخراطاً في سوريا، إضافة إلى عدد كبير من الدول الأخرى القريبة جغرافياً والبعيدة. تركت الولايات المتحدة الشأن السوري إلى حلفائها الاقليميين إلى حد كبير، في نوع من القيادة من الخلف، لتتدخل عند الحاجة لضبط إيقاع الصراع أو وضع حدود معينة له خدمة لاستراتيجيتها المعلنة والقائمة على حتمية الحل السياسي للأزمة. ما يعني أن الصراع الدائر يجب ألا ينتهي بانتصار النظام ولا بإسقاطه. بل إنهاكه إلى الحد الذي يرغمه على الجلوس إلى طاولة المفاوضات مع المعارضة. مفاوضات مرسومة حدودها أيضاً بتنحية رأس النظام وبعض حاشيته المقربة والابقاء على النظام. فشل مؤتمر جنيف 2 في شباط/فبراير 2014 لم يغير من هذه الاستراتيجية الأمريكية، لكن الحل السياسي أصبح بعيد المنال. التفاهم الأمريكي الروسي على الحل السياسي انكشف في جنيف عن فراغ سياسي ازداد خطورةً بعد أحداث أوكرانيا والتوتر الروسي ـ الغربي بشأنها.

هذا الفراغ السياسي، معطوفاً على فراغ مماثل في الوضع العراقي بسبب تشبث نوري المالكي بالحكم على رغم المعارضة الحادة لتوليه من المكونين السني والكردي، خلق الشروط المثالية لإعلان دولة الخلافة من قبل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بعد اجتياحه السهل لمحافظة الموصل. كانت ردة الفعل الأمريكية فاترة أمام إعلان الدولة الإسلامية ثم الخلافة. بل استخدمت الإدارة الوضع الجديد للضغط على إيران من أجل تنحية المالكي وتشكيل حكومة جديدة جامعة تمثل جميع المكونات. كذلك استفادت إدارة أوباما من توجه قوات أبي بكر البغدادي شمالاً نحو أربيل للضغط على قيادة الاقليم الكردستاني لتتخلى عن أحلامها الاستقلالية. لكن خطر اجتياح قوات داعش الوشيك لعاصمة الاقليم الفيدرالي شكل نقطة الفصل في السياسة الأمريكية. فبدأ القصف الجوي لمواقع داعش وقوافل قواته على الفور، بما سمح لقوات البيشمركة باستعادة بعض المواقع التي سبق واحتلتها قوات داعش.

اليوم تعمل الإدارة الأمريكية بنشاط على تشكيل تحالف دولي هدفه، كما أعلن الرئيس الأمريكي في خطابه الأخير، تحجيم تنظيم الدولة وصولاً إلى القضاء عليه، في الوقت الذي تواصل فيه المقاتلات الأمريكية توفير الغطاء الجوي لقوات البيشمركة وجيش الحكومة المركزية اللذين يقاتلان «الدولة» على الأرض. وأعلنت كل من فرنسا وبريطانيا وقطر استعدادها للمساهمة بفعالية في الضربات الجوية ضد قوات داعش. في حين تبدو تركيا خارج هذه الحرب في جانبها العسكري، بل غير متحمسة للمشاركة في التحالف الدولي لأسباب عدة في مقدمتها وجود نحو خمسين رهينة من طاقم القنصلية التركية في الموصل في يد داعش، ولتخوفها من اتساع نطاق العمليات العسكرية للتحالف لتشمل الأراضي السورية، الأمر الذي من شأنه أن يقدم خدمة مجانية لنظام دمشق. وتتضمن خطة باراك أوباما لمواجهة تنظيم الدولة هذا التوسع في العمليات الجوية لتشمل الأراضي السورية، مع غموض بخصوص القوات التي ستقاتل داعش على الأرض، بخلاف الوضع في العراق. صحيح أن أوباما قد استبعد نظام دمشق، ومعه إيران وروسيا، من التحالف الدولي بوضوح، لكن البديل ما زال غامضا: تدريب قوات «المعارضة المعتدلة» على الأراضي السعودية. هذا فقط ما عرفناه من خطة أوباما في شقها السوري. ترى ما هي الفصائل العسكرية التي تعتبرها واشنطن معتدلة؟ وهل تشمل قوات الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني أو الفصائل الإسلامية التي ساهمت سابقاً، وما زالت، في قتال داعش في سوريا منذ بداية العام الجاري؟

ربما كان من أول نتائج العمل الجاري لتشكيل التحالف الجديد استبعاد عدد من الشخصيات الإخوانية المصرية من قطر، لتذليل بعض الخلافات داخل أطراف في التحالف المنشود.

نلاحظ بالمقابل معارضة حادة لهذا التحالف من إيران وروسيا ونظام دمشق الكيماوي، الأمر الذي أعلنه ولي الفقيه شخصياً. ترى هل يدفع لبنان الثمن من أمنه الهش؟ وما هي الأوراق المتبقية بيد النظام الكيماوي ليلعبها ضد التحالف الذي استبعده على رغم كل توسلات وليد المعلم وبثينة شعبان؟

الخلاصة أن ظهور دولة البغدادي وتمددها قد غيَّر الأجندة الدولية برمتها، وخلط الأوراق من جديد في الاصطفافات الاقليمية. اجتماعات ما سمي بمجموعة أصدقاء الشعب السوري التي سبق وتحولت إلى روتين مضجر، ربما ستخلي مكانها في الفترة القادمة لمؤتمرات التحالف الدولي ضد داعش، وقد عقد منها اثنان، إلى الآن، في غضون خمسة أيام في كل من جدة وباريس على التوالي. الأيام والأسابيع القادمة ستشهد مزيداً من الحراك السياسي الدولي – الاقليمي محوره ترتيب شؤون أطراف التحالف الجديد، وتخريباً متوقعاً من المحور الإيراني ـ الروسي. المؤكد أننا بصدد سنوات إضافية من الحروب والدم في هذه الرقعة الملعونة الممتدة من العراق إلى سوريا ولبنان وصولاً إلى اليمن.

٭ كاتب سوري

القدس العربي

 

 

 

 

نفخ داعش/ سلامة كيلة

باتت داعش الخطر الرئيسي الذي يجب حشد “تحالف دولي” ضده. منذ لحظة الخلاف مع تنظيم القاعدة، ظهر أن هناك دوراً يُحضَّر لداعش، ويبدو أن أطرافاً عديدة، كان كل منها يريد هدفاً خاصاً به من ذلك. فقد خدم التنظيم النظام السوري في إيجاد فوضى وقتل واعتقال، في المناطق التي سمّيت “محررة”، وفرض على الشعب والكتائب المسلحة الصراع معه، وبالتالي، القتال على جبهتين في وضعٍ، لم يكن يمتلك السلاح، كما كلٌّ منهما. وكانت احتكاكات تنظيم داعش بالسلطة محدودة. وأحياناً كثيرة، كانت هجماته متناسقة مع هجوم السلطة على الثورة.

وفي العراق أيضاً، أربك التنظيم الحراك الشعبي، وبات وجوده المدخل لاستخدام نوري المالكي العنف ضد الاعتصامات، وصرّح وزراء من قائمة المالكي أنه هو من أطلق سراح عناصر داعش من سجن أبو غريب، وأرسلهم إلى سورية، كما جرت الإشارة إلى تمويل إيراني، وكانت تصريحات قادة في التنظيم توحي بذلك كذلك. وفي الحراك الأخير ضد المالكي، لعبت داعش أخطر الأدوار في إجهاضه، وتحويل الصراع إلى وجهة أخرى، هي التي فتحت على الوضع الجديد.

كان تقدم داعش ضد الأكراد الذين دعموا الحراك الشعبي ضد المالكي المدخل لتدخل أميركي، بعد أن كان كل الحراك الذي جرى في العراق للسيطرة على السلطة قد وُضع في جعبة داعش، في تناسق إعلامي لافت، شمل كل الأطراف المتناقضة، فظهر قوة خارقةً، تسيطر على نصف سورية ونصف العراق، بعدد عناصر بلغ عشرة آلاف، زيد، أخيراً، لتبرير التدخل الأميركي إلى ثلاثين ألفاً حسب التصريحات الأميركية.

وربما تُظهر السياسة الأميركية الجديدة السبب الذي جعل كل وسائل الإعلام ومسؤولي العالم، المتناقضين في محاور “متعادية”، يتوحدون في تضخيم قوة داعش وخطرها الذي لم يسبق أن وُجد مثله، كما كرر الخطاب الأميركي. حيث كانت إيران تريد “توريط” أميركا في الصراع الذي انفتح في العراق ضد سلطة المالكي، وهي تعمل على إعادة تكريسه حاكماً بعد الانتخابات الأخيرة، والسلطة السورية تريد “تحالفاً” مع أميركا، وكانت ترى أن اللعب بمسألة الإرهاب مفيد في ذلك، من أجل سحق الثورة. لكن، ظهر أن أميركا تريد أن تغيّر التوازنات في العراق، وربما في سورية. وسيبدو أن النظامين، الإيراني والسوري، قد خرجا خاسرين من لعبةٍ اعتقدا أنهما ممسكان بها، وهي لعبة داعش المخترقة لهما، لكن المسيطر عليها أميركياً. فقد خدمتهما في الصراع مع الشعوب وضد الثورات، لكن، حين تريد أميركا تعديل موازين القوى السياسية تصبح هذه أداتها، و”عدوها اللدود” الذي يكون المدخل لكي تغيّر في “مكان آخر”، هو بالتحديد توازنات السلطة في العراق وفي سورية، وبالتالي، لكي تكون الغطاء لتحقيق هذا التغيير.

 

لهذا، كان يجب نفخ داعش، وكان يجب أن يشرّد المسيحيون في الموصل، ويقتل الإيزيديون، وأن “يذبح” صحفيان يحملان الجنسية الأميركية في مشهد لفيلم هوليوودي (كل مشاهد داعش كانت بإخراج هوليوودي بامتياز). فهذه هي “عدة الشغل” التي تستخدمها السياسة الأميركية لتبرير التدخل، للشعب الأميركي، وتبريره عالمياً. وإذا كانت لا تريد التدخل البري، لأنه لم يعد في مقدورها ذلك نتيجة السياسة التي تقررت بعد الأزمة المالية، والتي حصرت التدخل في هذه المنطقة باستخدام الطيران فقط، فإن ما تريده إعادة سيطرتها على العراق، وإنْ بالتفاهم والتقاسم مع إيران، بحيث يجري تقاسم السلطة بين أطراف “العملية السياسية” فعلياً، وليس شكلاً، كما كان في مرحلة المالكي. هذا واضح فيما جرى في العراق بعد إبعاد المالكي، ومحاولة تشكيل حكومة “متضامنة”. لكن، هل يكون التدخل في سورية مدخلاً لتحقيق ما هو مشابه؟ أي إبعاد الأسد، وتشكيل حكومة انتقالية وفق مبادئ جنيف1 أو على غرارها؟

العربي الجديد

 

 

سورية: بين فرانكشتاين ودراكولا/ مصطفى الجرادي

إنها سلسلة الرعب الواقعيّة التي أبدعها مخرجو «داعش» بعيداً من مؤلفي سيناريوات الأفلام ذوي المخيّلة الخصبة في هووليود، وبلا استخدام التقنيّات والمؤثرات التي تسحرُ الألباب في المدينة الهوليوودية المشهورة بأفلامها. سلسلة الرعب التي أعنيها ابتدأت بحزّ رقبة الصحافي الأميركي جيمس فولي وكان آخر ضحاياها حتى الآن عامل الإغاثة

البريطاني ديفيد هاينز الذي كان الضحية الطازجة للواقعيّة الإجراميّة الداعشية، وهي الأكثر إثارة ورعباً على ما يبدو من أفلام العم سام على رغم كلّ المليارات التي تُنفق عليها.

في المفاضلة بين إجرام فرانكشتاين (بشار الأسد) ودراكولا (داعش)، يُرتكب الكثير من المغالطات ويُفضّل أحد الوحشين على الآخر، مع أنّ الأول كان أكثر دمويةً وتفنّناً في أساليب الإجرام وطرائقه المختلفة، بدءاً من سكاكين القطعان الطائفيّة التي جلبها من لبنان والعراق وأعملت ذبحاً وتقتيلاً بأطفال الحولة والقبير، وليس انتهاءً برائحة الكيماوي التي ما زالت تعبق بها الأنوف في غوطة دمشق وأكنافها، وصولاً إلى براميل الموت اليوميّة التي تُلقى من طائرات موت لعينة خبرها السوريّون جيداً في حلب وغيرها. وبالطبع لم ينسَ أبناء المناطق الخارجة عن سيطرة هذا المسخ الأسدي الصواريخ الباليستية التي محت حارات وشوارع بكاملها وحوّلتها إلى خراب ويباب يقف السوريون على أطلالها.

لكن ّ دراكولا الداعشي استطاع خطف الأنظار كلّها إليه واســترعى واجــتذب العالم بأسره إلى إجرامه اللامحدود والمنفلــت من كلّ عقال، فقطع الرؤوس وبثّ عمليات حز الأعناق بمقاطع فليمية في غاية الدقة ومتــقنة الصنع، استطاعت سرقة الأضواء وحجب إجرام النـظــام الأسدي اللامتناهي. هكذا لم يعد يحفلُ العـــالم بمشاهد الموت اليوميّة المتكررة القادمة من ســـورية، والتي أصابت المشاهد المحايد بحالة من الســـأم والضجر من رؤيتها مع فنجان القهوة الصباحيّة، أو المرور عليها أثناء وجبة غداء أو عشاء منزليّة. لكنّ العـــالم ذاتـــه يستنفر كل قواه وعزائمه حين يبثُّ دراكولا الداعشي مقطعاً جديداً لقطع رأس أحد الرهائن الأجانب المحتجزين لديه، فتتسابق وكالات الأنباء العالميّة لنقل صور الضحية الجديد، ويستعر الخبر على الشبكة العنكبوتية استعار النار في الهشيم اليابس.

قد يكون التسويق (الماركتينغ) الداعشي المقصود وراء هذا الحضور الآسر والطاغي لإجرام «داعش» على مختلف الفضائيات العالميّة والعربيّة واحتلاله الفضاء المقروء والمسموع والمرئي. وقد يكون الخطاب الذي يوجههُ «مجاهد» أجنبي يتكلّم لغة إنكليزية واضحة بلكنة مدينة الضباب لندن، وهو يهدد الأميركيين ومعهم حلفاؤهم الإنكليز بالمزيد من الرؤوس المقطوعة نتيجةً للحرب والحلف الذي يعقده الطرفان للقضاء على «داعش». لكنّ السبب الأكثر رجاحةً هو رُهاب الإسلام أو الإسلاموفوبيا التي تغزو الغرب. لذا تجدُ جرائم دراكولا الداعشي مدخلاً وطريقاً سهلاً إلى قلوب الغربيين ورؤوسهم لتصبح ضيفاً يطيل البقاء عندهم، بينما تمرُّ صور الدمار والأشلاء البشرية التي قطّعتها براميل فرانكشتاين الأسدي كضيف طارئ سريع الترحال يحث خطاه على عجل وبلا ضوضاء تُذكر.

… وما بين فرانكشتاين دمشق ودراكولا الداعشي، تاه السوريون في مجال إجرامهما الحيويّ ولم يعودوا قادرين على التمييز، فيما العالم منشغل عنهم بعقد الأحلاف وشحذ الهمم للقضاء على دراكولا الداعشي، بينما يُترك المسخ الأسدي حرّاً طليقاً مدة أربع سنوات وهو يمعن في القتل والإجرام مستخدماً كل ّما طالت يداه من أدوات وأسلحة.

* كاتب سوري.

الحياة

 

 

 

 

تركيا وأميركا وبينهما تنظيم «الدولة/ هوشنك أوسي

أشار الكثير من التقارير والمصادر الإعلامية والاستخباراتية إلى تورط حكومة حزب العدالة والتنمية الإسلامي الحاكم في تركيا في دعم الكتائب الإسلامية المتطرفة التي قاتلت النظام السوري. بل ثمة مراقبون يؤكدون أن تركيا هي التي غيرت وجهة بندقية هذه الكتائب التكفيرية من التصويب نحو نظام الأسد إلى مقاتلة عناصر حزب العمال الكردستاني والموالين له في المناطق الكردية السورية، بالتوازي مع مقاتلة الجهات التي تعارض أو تتحفظ على الدور التركي في المعارضة السياسية والعسكرية السورية. وعليه، أثناء الحديث عن العوامل والأسباب والدوافع والظروف الداخلية والخارجية التي أدت إلى ظهور وانتعاش الأخونة ضمن الثورة السورية، وانزلاقها نحو الدعشنة، إن جاز التعبير، لا يمكن مطلقاً تجاهل أو القفز فوق الدور التركي في ذلك، بحجة أن تركيا «تأوي ما يزيد على مليون نازح سوري، وقدمت للمعارضة السورية كذا وكذا… وهي فوق النقد والشبهة، وبعيدة من استثمار الوضع السوري في خدمة مصالحها»! ذلك أن الدول هي بمن يحكمها وبمصالحهم، وليست جمعيات خيرية، تقدم خدماتها ابتغاء مرضاة الله وحسب.

ونتيجة الضغوط الداخلية والخارجية على أنقرة، لحضها على نفض يديها من دعم «داعش» و «النصرة» لوجستياً، وتسهيل تمرير أو وصول العناصر المتطرفة إلى سورية، عبر الحدود التركية، والكف عن معالجة جرحى هذه الكتائب في المستشفيات التركية… استجابت تركيا لهذه الضغوط، وقللت من حجم دعمها لهذه التنظيمات التكفيرية، ما اعتبره «داعش» بمثابة خيانة، لذا، قام باختطاف وأسر البعثة الديبلوماسية التركية في الموصل، في حزيران (يونيو) الماضي، كرهائن، بغية استخدامهم ورقة ضغط على أنقرة، وقت الحاجة. مقصد الكلام أنه ما زالت هنالك قنوات ارتباط بين الحكومة التركية و»داعش» على رغم نفي المسؤولين الأتراك. وليس هنا مكمن العيب، كونه ناجماً عن دواعٍ أمنية أو سياسية. وهذا من طبائع الأمور لدى الدول التي تنظر إلى نفسها كقوة إقليمية، وتحاول أن تمسك بالكثير من الخيوط والأوراق في حلبة الصراع على المصالح، من دون أن ننسى أن أنقرة، وعلى طول فترة صراعها مع حزب العمال الكردستاني، حافظت على وجود قنوات الاتصال به، سواء في شكل مباشر أو غير مباشر، حتى قبل اختطاف واعتقال زعيمه عبدالله أوجلان عام 1999، حيث سقط رأس الحزب في الحضن التركي، وعبره بقي جسد الكردستاني تحت السيطرة.

لا يُحسد الأتراك على حرج موقفهم من التحالف الذي تريد الإدارة الأميركية تشكيله ضد «داعش». إذ لم ينجح وزير الخارجية الأميركي جون كيري في إقناعهم بالانضمام الى هذا التحالف، في شكل قوي ومباشر، والسماح باستخدام أراضيهم ومجالهم الجوي لضرب «داعش». وجه الحرج التركي، يمكن تخليصه بالتالي:

أولاً، الرهائن الأتراك ما زالوا بيد «داعش»، ولم تنجح الحكومة التركية في الافراج عنهم، على رغم التطمينات التي قدمها داوود أوغلو للرأي العام التركي، حين كان وزيراً للخارجية. وعليه، فالمشاركة العلنية في التحالف هو بمثابة إطلاق نار تركي على الرهائن الأتراك.

ثانياً، رفضت الحكومة التركية عام 2003 التدخل الأميركي في العراق، ضد نظام صدام حسين، بحجة الدفاع عن سيادة الدول وأن العراق دولة مسلمة جارة…! وقبول مشاركتها في التدخل الأميركي في سورية والعراق عام 2014، سيضرب صدقيتها، المشتبه بها، في الصميم!

ثالثاً، المشاركة في هكذا تحالف، سيشعل التيارات والعناصر الدينية المتطرفة في تركيا، ضد الحكومة التركية (الإسلامية).

رابعاً: المرحلة التي سبقت وصول زعيم حزب العدالة والتنمية السابق رجب طيب اردوغان لرئاسة الجمهورية، كانت صاخبة بالتراشق والمزايدات السياسية بين أردوغان وحليفه السابق، الداعية الاسلامي فتح الله غولن. وكان أردوغان يتهم الأخير بأنه أداة في يد واشنطن، تحركه اميركا ضد تركيا، بهدف النيل من نهوضها الاقتصادي والسياسي ومصالحها في المنطقة. وإذا دخلت أنقرة في تحالف مع أميركا ضد «داعش» تكون بذلك قدمت خدمة كبيرة لغولن، كي يفتح النار مجدداً على حكومة العدالة والتنمية، وأردوغان وأوغلو.

تركيا مضطرة لأن تكون في هذا التحالف، ولو من خلف الكواليس، لئلا تكرر خطأ 2003. ولن يقتصر دورها على دعم المعارضة السورية المعتدلة، طبقاً لما صرح به المسؤولون الأتراك والأميركيون، بل سيتعدى ذلك إلى أمور أخرى، لن يصار إلى الكشف عنها، نزولاً عند الرغبة التركية. ولربما رفضت واشنطن «منح» رأس غولن، ثمناً لدخول أنقرة في هذا التحالف، أو العكس. ما هو مفروغ منه ان تركيا تنظر الآن إلى خطر «داعش» على أنه أكبر من المخاطر التي كان يشكلها العمال الكردستاني سابقاً على أمن واستقرار تركيا. وفي حال وصلت التسوية السلمية بين تركيا والكردستاني إلى اتفاق نهائي، فليس من الغرابة أو الاستبعاد أن تستخدم أنقرة قوة العسكرية الضاربة للكردستاني، في سورية والعراق، في مواجهة «داعش» ومخاطر تمددها. وفي المحصلة، ستحاول تركيا أن تتجاوز غلالها من الحرب على «داعش» الحيز المحلي – الداخلي، وحتى الإقليمي أيضاً، لتصل إلى تحقيق مكاسب دولية.

* كاتب كردي سوري

 

 

الأسد لا يستحق حرباً كاملة لإزالته!/ غازي دحمان

ينطوي القرار الدولي بإخراج نظام الأسد من شبكة التحالفات التي يجري تصميمها للحرب على داعش على مضمون يحمل إهانة كبيرة لنظام الاسد، ومن خلفه حلفائه، فحواه، أن هذه المنظومة التي ينضوي النظام في إطارها لا تستحق ان تكون شريكاً في الحرب على الإرهاب، ليس فقط لأن التحالف معها يؤدي إلى حرج شديد باعتبارها تكاد تتطابق مع تنظيم «داعش»، الذي يتم تجهيز العدة الدولية للقضاء عليه، من حيث الشكل المتطرف والمضمون الإجرامي، بل إنها أيضاً غير ذات فائدة وجدوى حقيقية نظراً لأنها لا تشكل جسماً متماسكاً يمكن إدماجه ضمن هيكلية منظومة التحالف الدولي للحرب على الإرهاب.

انتهت ماكينة إيران القتالية، بعد سنوات من الاستنزاف، إلى مجرد قطع متناثرة في إقليم يمتد من البصرة الى صور، بعضها يعمل لأهداف محلية كتلك التشكيلات الموجودة في بغداد والتي ينصب جل اهتمامها على تحقيق درجة عالية من التطهير في بغداد وغلافها بقصد إفراغها من سكانها العرب السنة، وتستخدم في سبيل ذلك عمليات القتل والترويع، حتى إن نهر دجلة يفيض يومياً بجثث القتلى المغدورين، وبعض تلك التشكيلات بات يرفع علم «الدولة العلوية في العراق والشام» على نمط دولة «داعش»، وخاصة الكتائب القتالية العائدة من سورية والتي لا تملك حكومة بغداد سلطة عليها، وبعضها ما زال يعمل على خط المشروع الايراني، مثل «حزب الله»، وبدا في الفترة الأخيرة ممزقاً بين وضعه في لبنان وأدواره الاقليمية وضغط إمكانياته التي لم تعد تسمح له بالبقاء في هذه الوضعية التي فرضتها إيران عليه، وبات يتلطى خلف الجيش اللبناني طلباً للحماية من المخاطر التي وضع بيئته بقلبها، في حين تبدو كتائب الاسد أكثر تشتتاً وفوضوية جراء إنهاكها من قبل الثوار وسيطرة أمراء الحرب عليها وضباط القطّاعات.

جراء كل ذلك، تبدو الصيغة التي تطرحها الولايات المتحدة الأميركية للتعاطي مع حالة الأسد تقع ضمن حالتين:

الأولى: أن يتم تسوية وضعه ضمن الصفقة الشاملة المنتظرة مع إيران، بحيث يجري استلحاقه على هامش هذا الاتفاق ويوكل لإيران مهمة منحه لجوءاً في طهران وتفكيك ما تبقى من البنية القتالية التي تأتمر به، وفي هذه الحالة لن يجري التعامل مع بشار بوصفه طرفاً وطنياً سورياً بقدر ما هو عامل ضمن مشروع إيران، وهذا تعامل واقعي ومنطقي مع حالة بشار الأسد، حتى صفة ديكتاتور وطني لم تعد تليق به، ويفيد هذا التعيين الدقيق لوضع بشار في نزع القيمة التفاوضية له من يد إيران، التي حاولت طويلاً منحه صفة وطنية وتحويله الى معطى سوري لا يمكن تجاوزه.

الثانية: تشكيل ديناميكية إقليمية وداخلية، تشمل فعاليتها ونطاق حركتها، المناطق التي تسيطر عليها داعش في سورية، وهذا الأمر ينطوي عليه تضمين خريطة انتشار قوات الاسد وكتائبه ضمن دائرة الاستهداف بحكم الضرورات العملانية، وهذا يعني اختراق بنى تشكيلات الاسد العسكرية في كل نقاط التماس، وهي متعددة بحكم التداخل بين الاطراف السورية المتقاتلة على الأرض، بما يستتبع ذلك من عزل ميداني كامل لقوات الاسد ومحاصرة خطوط إمداده وتفكيك طرق مواصلاته باتجاه حلفائه الإقليميين وبالعكس، ويشمل ذلك ضرب منظومة الاتصالات التي يعتمد عليها النظام بما فيها شبكة راداراته، التي قد تكون خاضعة لحالة فرض منع طيران ضمن خطوط معينة في سورية، وهذا ينتج عنه فرط كامل لمنظومة الاسد وانحلالها ووقوعها بين فكي كماشة الثوار وضربات التحالف الدولي.

التقدير الارجح هو حتى اللحظة هو تفعيل هذه الديناميكية المشار إليها، لأن إيران قررت اللعب على حافة الهاوية في سورية، وهي بذلك تدفع نظام الأسد للقتال حتى الموت، ذلك أن الغرب لم يطرح عليها حتى اللحظة سوى معادلة خاسرة في حديها، إما الاستسلام أو الاستسلام، وبالحسابات الإيرانية ثمة استسلام يختلف عن آخر، من حيث النتائج والالتزامات، فما دام نظام الاسد راحلاً بكل الأحوال، وهذا ما بينته ردود الفعل الغربية القاطعة، فالأفضل رحيله من دون ان يجري تحميله على الصفقة المتوقعة مع الغرب، كما أن إيران يمكنها في المستقبل تنسيب هذا الأمر لجهودها، كأن تحاجج بأنها اوقفت الدعم عنه منذ مدة وهو ما ساهم بإسقاطه ورحيله عن المشهد السوري، والسياسة الإيرانية مشهورة بهذا النمط من التنسيب، حيث انها نسبت لنفسها استبعاد نوري المالكي في حين ان الرجل فقد الغطاءين الداخلي» توصية السيستاني» والخارجي» إلحاح واشنطن على عزله».

لا شك أن نظام الاسد بدأ يستشعر مخاطر إزالته التي راح يتحسّسها من أكثر من اتجاه، فثمة حركة مغايرة بدأت تدب حول العاصمة دمشق التي راحت جبهاتها تتداعى الواحدة تلو الأخرى، ويجري حصر الأسد ضمن حيز جغرافي محدد، يشبه القفص تمهيداً لخنقه، ولا شك ان نظام الاسد فسّر هذا التطور في إطار وجود جدية دولية لعزله وإسقاطه. من ناحية أخرى بدأ النظام، وعلى وقع التحضيرات العسكرية لضرب داعش، يستشعر خطورة تداعيات الحالة عليه، ربما هذا ما يفسر حالة الغضب التي بدأت تظهر على مندوبيه كما عبّرت عنها المستشارة الإعلامية لبشار الاسد، بثينة شعبان، التي ظهرت حائرة بين التهديد والتوسل للعالم لكي يضم نظامها الى جهوده في محاربة داعش، وبالتأكيد ليس شفقة بالمناطق السورية التي ستستهدفها الضربات الغربية بقدر ما هي محاولة لضمان استثناء النظام من هذه الضربة، وكان أول من لفت الانتباه الى هذه المسألة الطرف الروسي الذي طالب بضرورة العودة الى مجلس الامن من أجل الموافقة على ضرب داعش، وكأن الروس بدأوا يرون شبح السيناريو الليبي يعاد تطبيقه على الأرض السورية، وخاصة لجهة موافقة روسيا على القرار 1270 الذي يشكل الاساس الذي يستند عليه التحالف الدولي لضرب داعش.

الأسد ذاهب بالإزالة لانه يقع على مسار طريق يجري ترتيبه في المنطقة، مشكلته ان الطريق إجبارية، وأن موقعه تصادف أن كان في وسط هذا الطريق، أليات القص والإزالة باتت جاهزة، لكن المفارقة ان هذا النظام الذي صنع كل تلك الكارثة بالمنطقة تبين انه لا يستحق حرباً لإزالته مثل الطغاة الذين سبقوه، كل ما في الامر أنه سيصار الى إزالته ضمن الحرب على داعش وبوصفه عميلاً إيرانياً إنتفت الحاجة إلى خدماته، أو لأنه لم يعد ثمة أمل يرتجى منه.

المستقبل

 

 

 

“داعش».. توحيد للعالم الآن فقط/ طيب تيزيني

انطلقت عواصم الغرب منذ بعض الوقت تعلن بصوت لاهث، دعوتها للوقوف في وجه “التسونامي” الإجرامي الجديد “داعش”، الذي يمثل ظاهرة خطيرة في الحقل الأكثر حساسية، أي في حقل الأديان والعقائد والأيديولوجيات، فهذه جميعاً تبرز هنا بصفتها حقولاً مغلقة بإطلاق لا تحتمل قراءة متحركة أو قراءات متعددة ممكنة، فإما أن تأخذ بها جزءاً وكلاً، وإما أن تأخذ مكانك بمثابة حالة مطلقة ومغلقة وغير قابلة للاحتمالية ولا للتأويل، بصيغة ما وبوجهة ما، فإن موقفاً من هذا النمط يُعرّف بذاته من دون غيره.

إن قيام المسلم ببذل جهد صادق في قراءته وتأويله النص القرآني المقدس، يعتبر مدخلاً مقبولاً، مع حثّه على الاجتهاد وتدخل هنا كذلك الفكرة المستنبطة من الحديث النبوي القائل أن «القرآن ذو وجوه متعددة، فخذوا بوجهه الحسن»، لتعمق أبعاد القراءة القرآنية (الحسنة).

ذلك جميعاً يجعل أمثال “داعش” حالة أو قراءة أو أمراً مستعصياً على البشرية وخارجاً عن القراءة الحسنة وما عليها، وهذا بدوره يضع الناس المؤمنين في آخر فسحة من عنق الزجاجة، مما يُخرج الموقف من المنظومة الدينية الإسلامية والمنظومة الأخرى الإنسانية النبيلة.

ما وصل إليه “داعش”، وما يطالب به يُمثل حالة تعجيزية بحد أقصى، وهذا يعني أن (داعش) نفسه يمثل ضحية الفساد والإفساد والظلم والاستبداد والإفقار، الذي عمّ العالم واخترقه، والملاحظ الطريف أن هذا الواقع الهائل في ظلاميته ومأساويته هو الذي يُراد له الآن أن يوحّد العالم تحت راية (مكافحة الإرهاب)، لماذا يعيش هذا العالم في ذعر مريع؟ لأن الموس وصل إلى ذقونهم جميعاً! والحق، إذا ما تتبعنا تاريخ الإرهاب بدقة، وجدنا إحدى مراحله ماثلة في مداخل ومظاهر متعددة، منها الدولة الطبيعية الطائفية بسلطة استبدادية تلتهم ثروة المجتمع وحق العمل وعدالة العمل ومصداقية المدرسة وشفافيتها، معاً مع تكريس إعلام الوطن والشعب والبناء لخدمة رؤوس أو رأس الدولة والمجتمع، ومع قضاء فاسد يلتهم الحق والحقيقة ويزج في السجون عشرات ألوف الشرفاء والمهمشين… الخ، إن مجتمعاً يقوم على الحرية والعدالة والمدنية والديمقراطية والمساواة هو الذي يحول دون نشوء الفساد والإفساد والاستبداد والإفقار والإذلال والتهميش والتجهيل المعرفي والثقافي، ومن ثم الإرهاب وهذا ما هيمن على المجتمعات الرأسمالية الاستعمارية والأخرى المتخلفة والمخلَّفة والمحكومة من قبل آليات النظام الأمني الاستبدادي واستئثار بالثروة والسلطة والإعلام والمرجعية المجتمعية.

هكذا نضع يدنا على قاع الإرهاب وجذره، إنه مجتمع القلّة الفاسدة المجرمة التي أثْرت وتُثري على حساب الأكثرية الكادحة. هذه القلة التي قد توظف الهوية الطائفية أو الدينية أو الإثنية في خدمة التأسيس لتفكيك مجتمعها وإفقاره وإذلاله وتهميشه من طرف أول، إضافة إلى أنها قد تستفز هذا المجتمع وتورّد له أنماطاً من المشكلات والاستفزازات ذات الديمومة الزمنية من طرف آخر، تلك التي تبرز منها مثلاً مأساة الشعب الفلسطيني، ومن ضمنه أطفال ونساء، وكذلك مأساة الشعب السوري الذي يعيش مأساة إجرامية غير مسبوقة، ومن ضمنها صورة تهز الأعماق لطفل بعمر ستة أو سبعة أعوام، وهو نائم بين قبرين لأمه وأبيه.

الإعلان عن تشكيل قوات عسكرية عالمية لمواجهة “داعش” أمر مشروع وفي غاية الأهمية، ولكن من دون غض الطرف عن كون الإرهاب الذي يهز العقل والضمير والإنسانية والذي يعيشه العالم، لم يأت من “داعش” فحسب، بل هو ذو تاريخ أسود أنتجته وكرّسته وعمّمته مرجعيات العصابات الدولية خصوصاً في البلدان التي تقوم على جهود عصابات متخصصة بالقتل والذبح، الذين يبرزان بمثابة استراتيجية دولة أو بعض دولة، إن “داعش” تعبر عن أكثر الجرائم خِسّة وشناعة، ولكن الفريق الآخر الذي يحصر الإرهاب في حقل الغرب الراهن ويبرر بلداناً من الشرق ليست بعيدة عن المشاركة في الحرب ضد الشعب السوري وفي سبيل تكريس نمط من الإرهاب الدولي.

ليس ثمة ما يسمح بتسويغ أعمال الطرف الآخر من المعادلة، أو ما يُخفي أعمال هذا الطرف الآخر، كلاهما، الغرب والشرق متورط بأعمال إرهابية موجهة إلى الشعب المظلوم، وعلى أرضه، ويبقى القول حاسماً بأن الدعوة إلى تأسيس قوة دولية مضادة لداعش، إنما كان على من يُطلقها ألا يسوغها، لأن الأيام والسنين السابقة عليها لم تكن تخلو من أعمال إجرامية قام بها الغرب وألحق عبرها الأذى الهائل بحياة وحقوق شعوب عربية مكافحة، في فلسطين وفي العراق وفي سوريا ولبنان وغيرهما، إذن، لنقل دعوة لتوحيد العالم عبر إسقاط قوى الشر والإجرام والإرهاب في كل العالم، ومن أجل تحقيق شعار العصر: الحرية والعدالة والكرامة والمساواة في مجتمعات وأوطان من نمط وموطن حر وشعب سعيد!

الاتحاد

 

 

 

 

 

البغدادي وسافونارولا.. الموصل وفلورنسا/ صبحي حديدي

مسألة فيها نظر، ولهذا فإنها استطراداً إشكالية قابلة للسجال، تلك المقارنة بين أبو بكر البغدادي، زعيم «داعش» و»خليفة» آخر زمان، في مدينة الموصل العراقية، وجيرولامو سافونارولا، الراهب الطهوري المتشدد الذي عيّن نفسه دكتاتوراً أخلاقياً على مدينة فلورنسا الإيطالية، ابتداءً من 1494 وحتى 1498، حين أُعدم حرقاً، بمباركة صريحة من البابا ألكسندر السادس. المقارنة عقدها، مؤخراً، الأكاديمي العراقي ـ الأمريكي إبراهيم المراشي، الأستاذ المساعد في قسم التاريخ، بجامعة كاليفورنيا الحكومية.

جدير بالذكر أنّ المراشي هو صاحب مقالة شهيرة بعنوان «شبكة الاستخبارات والأمن في العراق: دليل وتحليل»، نُشرت بالإنكليزية في أيلول /سبتمبر 2002، حين كان مؤلفها طالباً في جامعة أكسفورد البريطانية. أمّا شهرة المقالة فقد صنعتها فضيحة كبرى مزدوجة: أولاً، رغم أنّ معلومات المراشي، في المقالة، كانت قديمة، عمرها 12 سنة، وبعضها صار مغلوطاً، فإنّ حكومة توني بلير سرقت منها ستّ فقرات كاملة، بالحرف، وبالأخطاء اللغوية، وضمتها إلى التقرير البريطاني/الفضيحة، حول أسلحة الدمار الشامل العراقية، وثانياً، كانت الفقرات الستّ هي ذاتها، بالحرف، أمثلة كولن باول، وزير خارجية أمريكا يومذاك، في امتداح التقرير، والاتكاء عليه، خلال الخطبة أمام مجلس الأمن الدولي، مطلع 2003.

وفي العودة إلى المقارنة، يرى المراشي أنّ الموصل 2014، تحت سلطة البغدادي؛ هي بمثابة فلورنسا 1494، تحت سلطة سافونارولا: «كلاهما رأى منطقته نواة لدولة بدئية طهورية، واستخدما جيوش الشوارع لتطهير المدينتين من الآثام، ومن الفنّ والعمارة بوصفهما وثنية، وحرّما السلوك الذي عّدّ غير أخلاقي. وكلاهما خلقا أعداء أقوياء، واستُنكرا من زعماء تعرّض احتكارهم الديني للتحدّي، سواء البابا ألكسندر السادس من آل بورجيا، أو ملك السعودية خادم الحرمين الشريفين»، يكتب المراشي في مقالة بعنوان «حرب أوباما ومتغيّر الموصل»، نشرها مؤخراً الموقع الإنكليزي لقناة «الجزيرة».

الفارق، من جانب آخر، بين البغدادي وسافونارولا، حسب المراشي؛ هو أنّ الأخير، على نقيض الأوّل، لم يكن يسيطر على قوّة عسكرية منضبطة، اختُبرت في المعارك، ودبّت الرعب في المناطق التي بسطت نفوذها عليها، بل أبعد منها أيضاً. والأفكار اللاحقة في المقالة لا تعني هذه السطور، ضمن خطّ مناقشة المقارنة إياها، لأنّ المراشي يناقش ردود أفعال الموصليين إزاء وجود «داعش» في المدينة، مقارنة مع أجهزة نوري المالكي الأمنية والعسكرية، وما إذا كانت الحال ستتبدل عند استئناف الضربات الجوية الأمريكية على نطاق أوسع، ضمن استراتيجية الرئيس الأمريكي باراك أوباما الجديدة.

والحال أنّ مقارنات من هذا الطراز، بين مجتمعات متباينة وأزمنة متباعدة وثقافات غير متطابقة في الحدود الدنيا، يمكن أن تسفر عن مزالق كثيرة، ومحاسن أقلّ بكثير من المساوىء. وهذه الأخيرة قد يكون بعضها منهجياً وتاريخياً، يتسبب في أضعف الأضرار أثراً، ولكن قد يكون بعضها سياسياً وثقافياً، وهنا فإنّ مظاهر التباين والتباعد وانعدام التطابق تتخذ صفات أخرى أدهى: كأنْ تعبّد الطرق، المتعرجة غالباً، نحو أنساق من الصدامات، «الحضارية» و»الدينية» و»القومية»… فعلية او متخيَّلة، بالغة الأذى في الظروف الهادئة، شبه الطبيعية، فكيف حين تكون الأجواء مدلهمة وصاخبة وعاصفة!

وهكذا، فإنّ ما تغفله مقارنة المراشي، ولعله أحد أهم الجوانب إذا أجاز المرء أيّ تناظر بين البغدادي وسافونارولا؛ هو أنّ عقائد الاثنين وممارساتهما في التحريم والتحليل كانت، رغم نهوضها على مبدأ مناهضة الأنظمة السياسية والسلطات الدينية، تؤدي خدمة ضمنية للحاكم في علاقته بالمحكوم: آل بورجيا، في أزمنة فلورنسا، وإيطاليا القرن الخامس عشر عموماً، وآل الأسد والمالكي في سوريا والعراق، مطلع القرن الحادي والعشرين. كان سافونارولا يجوب شوارع المدينة منذراً بخراب العالم ودنوّ الساعة: «تعساً لكم، يا نسل الأبالسة! لسوف يأتي يوم لا يتبقى فيه عدد من الأحياء يكفي لدفن الموتى!»، كان يهتف، وفرائص المؤمنين البسطاء ترتعد ذعراً. أمّا آل بورجيا، فقد كانوا يتابعون مباذلهم في قصور روما وأروقة الفاتيكان، فهم الأكثر سعادة بالعتمة الثقيلة التي يفرضها هذا المناخ على عقول وأبصار المؤمنين.

ولعلّ من حقّ المرء أن يقارن هكذا، أيضاً: كما كانت «دولة» سافونارولا الطهورية مقدّمة ضرورية لانطلاق الإصلاح في إيطاليا، كذلك فإنّ ظلمات «خلافة» البغدادي يمكن أن تكون عتبة ضرورية أمام الأنوار التي وعدت بها الانتفاضات الشعبية العربية. ولعلنا، إزاء الحال الراهنة، نرى أنفسنا في حلكة الليل، ولكنّ الفجر هو وحده الطالع!

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى