«دروب الحرية» لسارتر: أسئلة الحرية والمسؤولية والالتزام/ ابراهيم العريس
«منذ البداية كان في نيتي أن أكتب رواية عن الحرية، أسير فيها على الخط الأسلوبي الذي مشى عليه عدد من الكتاب من أمثال دوس باسوس وفرجينيا وولف، خط يقوم على فكرة الوصف المتزامن والذي يغوص في حيوات عدد من أشخاص أتابعهم بين عام 1938 و1944. لقد كان قراري يومها أن أبدأ بأن أحكي أحداث «سن الرشد» – التي ستصبح الجزء الأول من ثلاثية، تحولت جزئياً إلى رباعية كما سوف نرى- بطريقة عادية، ولكن فجأة وجدتني أمام أحداث عام 1938، ووجدت كل الحواجز تنهار، بما في ذلك حاجز الأسلوب. صحيح أن الجزء الثاني المعنون «وقف التنفيذ» يستعيد شخصيات «سن الرشد» ذاتها، لكنها باتت الآن شخصيات ضائعة في الزحام….». بهذه العبارات تحدث جان بول سارتر (1905- 1980) ذات يوم عن هذه الرواية الضخمة التي تعتبر من أبرز أعماله كما من أبرز الأعمال الفرنسية التي ظهرت أواسط القرن العشرين. لكنها أيضاً، ولعل هذا أغرب ما في الأمر، آخر عمل روائي كتبه سارتر منذ وضع السطور الرئيسة للفصول التي كتبها من الجزء الرابع «الفرصة الأخيرة» الذي لم ينجزه أبداً، وذلك بعد سنوات من اكتمال الثلاثية بالجزء الثالث المنجز فعلاً «موات الروح». حسناً هذا كله قد يبدو حتى الآن أشبه بلعبة كلمات متقاطعة من شأنه أن يضيف إلى الرواية، بمجملها، تعقّداً ليست في حاجة إليه… لماذا؟
> ببساطة لأننا هنا لا نشعر إلا قليلاً بأننا في حضرة رواية سردية حقيقية، بل أشبه بأن نكون أمام نص فكري يدور من حول أشخاص نادراً ما نشعر أنهم من لحم ودمّ. إنهم أشخاص/ أفكار كما قد يليق بشخصيات يتحدث عنها سارتر، أن تكون. والكاتب ذاته في العبارة التي أوردناها أعلاه، نبّهنا على أي حال إلى أنه إنما كان في الأصل راغباً في كتابة رواية عن الحرية. فإذا أضفنا إلى هذا، ما تقوله لنا سيرة سارتر عن أنه كتب، على الأقل الجزء الأول من الرواية «سن الرشد» فيما كان يشتغل، من ناحية أخرى، على كتابه الأكبر والأصعب «الكينونة والعدم»، وبأن «الرواية» والكتاب الفلسفي معاً يدنوان من المواضيع الأقنومية الثلاثة التي ما توقف سارتر عن الاشتغال عليها، أي «الحرية» و «المسؤولية» و «الالتزام»، سيكون في إمكاننا أن نستعيد هنا سؤالاً لطالما طرحه المعنيون بالكتابات السارترية: هل نحن أمام رواية حقيقية أم أمام كتاب فكري كان سارتر يدبجه كنوع من الترويح بين فصل وآخر من «الكينونة والعدم» وكنوع من التوضيح لنفسه في ما يتعلق بأفكار محددة يريد إيرادها في الكتاب الفلسفي ويرى من الملائم اختبارها أدبياً أول الأمر؟
> كل هذا يبقى مجالاً للدراسة والبحث الاختصاصيين. لكن الجوهري هنا هو أن هذه الرواية المجزأة تتسم بصفتين أساسيتين أولاهما كونها عملاً أوتوبيوغرافياً، وأنها تنهل من سيرة سارتر والرفاق المحيطين به إلى حد الشفافية الخالصة، وثانيتهما كونها نصّاً تأملياً حول مجموعة من الأفكار الكبرى التي جابهت سارتر في تلك المرحلة الصعبة والعالم على شفير الحرب العالمية الثانية، إذ يقوم التاريخ بهجمته الكبرى للتأثير الجذري على مصائر البشر. ولنستعرض في الفقرات التالية، هذه الوقائع في ارتباطها بأجزاء الرواية، إن توافقنا على اعتبارها رواية!
> يتابع الجزء الأول، «سن الرشد» نحو ثمانية وأربعين ساعة من حياة المدعو ماثيو ديلارو، وهو أستاذ فلسفة في نحو الرابعة والثلاثين من عمره – سن سارتر ذاتها في ذلك الحين إذ كان يبدأ في دبج السطور الأولى من «الكينونة والعدم» -. ولماثيو هذا عشيقة هي مارسيل، وتكاد تكون صورة من سيمون دي بوفوار صديقة سارتر بالفعل في ذلك الحين، بل حتى آخر أيامهما طبعاً، حملت لكنه يسعى معها لتدبير المبلغ الكافي لإجهاضها طالما أنهما يشعران أن الوقت غير ملائم لتحمّل تربية طفل. ثم أن ماثيو مغرم في الوقت ذاته بالصبية إيفكا شقيقة تلميذه السابق بوريس، والشخصيتان لهما جذور حقيقية معروفة في الواقع. إذا يسعى ماثيو لتدبير المبلغ اللازم ويقصد صديقه دانيال فيرفض إقراضه عارضاً في المقابل، وعلى رغم أنه مثليّ الجنس، أن يتزوج مارسيل ويتبنى الطفل. في نهاية الأمر يسرق ماثيو المبلغ من صديقة بوريس، لكن ليس هذا هو المهم في الأمر. المهم هو أن تلك الساعات الثماني والأربعين التي يستغرقها البحث عن حل، تضع ماثيو في مجابهة أسئلته الكبرى حول المسؤولية والالتزام. وبخاصة أن أستاذ الفلسفة اللامع يبدو في كل لحظة من لحظات مسعاه غير واثق من موقفه: هل عليه أن يكرس نفسه وجهوده لعشيقته وطفله المقبل، أم عليه أن يضحي بكل هذه الشؤون الفردية لكي يهتم، وحسب، بفكره وعمله السياسي الذي يرتبط بالنسبة إليه بذلك الفكر؟
> في الجزء الثاني من الثلاثية «وقف التنفيذ» وهو نص كتبه سارتر فيما كان الألمان يحتلون باريس عام 1940، يصف لنا سارتر حياة شخصياته ذاتها خلال ثمانية أيام تقع بين 23 و30 سبتمبر (أيلول). هنا تبدأ الأحداث ذاتية وشخصية، ولكن فجأة في لمحة واحدة ينقلب التاريخ رأساً على عقب. فالنازيون يحتلون تشيكوسلوفاكيا (السوديت) وسط صمت عالمي مدوّ آيته اتفاقية ميونيخ التي عقدت بين هتلر من ناحية ولندن وباريس من ناحية ثانية. بالنسبة إلى سارتر، وبالتالي إلى ماثيو، لم يعد الزمن زمن أسئلة بل زمن فعل… فالأحداث تتسارع في ارتباط غير مسبوق هذه المرة بين ما هو شخصي وما هو عام. لم يعد ثمة انفصال بين حركة التاريخ وحركة الأفراد. وهكذا، لأن كل الحواجز قد انهارت بين الذات والتاريخ، تتعدد هنا وجهات النظر الأسلوبية ولا تعود الأحداث تُروى من وجهة ماثيو، بل في تعددية مدهشة، إذ قد تتغير وجهة النظر الراوية بين فقرة وأخرى، بل قد يحدث في بعض الأحيان أن تتبدل وجهة النظر هذه داخل الجملة الواحدة. وكأن الأمور باتت من الاختلاط والتعقد إذ اختلط كل شيء بكل شيء. ولعل اللافت هنا هو أن ما يبدو مأثرة أسلوبية لغوية، يتحول تحت قلم سارتر، إلى ضرورة فكرية ومرآة فلسفية. ولكن أكثر من هذا: إلى تحليل سياسي إذ إن الكاتب يغوص في الحديث عما ترتب عن الأحداث السياسية ليس فقط على المصير الحياتي للشخصيات، بل كذلك على مصيرها الفكري، ولا سيما أن القسم الأكبر من هذا الجزء يدور من حول انخراط ماثيو وغيره في الجندية وخوضهم الحرب في شكل أو في آخر، ناهيك بدخول هتلر وموسوليني ودالادييه وتشامبرلين على خط الأحداث في الأقسام الأخيرة. وواضح أن أسئلة ماثيو القلقة تغيب هنا أمام وطأة التاريخ الأكثر مدعاة للقلق. لقد أجاب التاريخ ذاته عن أسئلة بطلنا!
> وفي الجزء الثالث «موات الروح»، نجد الأحداث متمركزة من جديد من حول ماثيو نفسه. ونحن هنا في شهر يونيو (حزيران) عام 1940 يوم الهزيمة التي ألحقها الألمان بفرنسا باحتلال أجزاء كبيرة من أراضيها عند بدايات الحرب العالمية الثانية ملحقين بها، ليس الهزيمة فقط ولكن العار أيضاً. بيد أن ماثيو سوف يحسم أمره هنا، بعد واحد وعشرين شهراً مضت على أحداث «وقف التنفيذ». هذه المرة سنجد ماثيو في المعتقل الألماني، تماماً كما حدث لسارتر نفسه في تلك الفترة ذاتها. وهو داخل المعتقل سيتمكن من تنظيم رفاقه الأسرى في عمل سياسي قد يبدو ظاهرياً من دون جدوى، لكنه محمّل بكل دلالاته على مستوى الرمز. وحتى وإن كان عمل ماثيو السياسي سيبدو مفتقراً إلى الهدف، فإن الكاتب سارتر سيقول لنا إن بروني صديق ماثيو الشيوعي عرف كيف يجعل لعمله هدفاً. أما ماثيو الذي سيفر من المعتقل فإنه سوف يُقتل، ولكن ظاهرياً خلال مشاركته أهل قرية فرنسية في التصدي للمحتلين الألمان….
> لكن الحقيقة أن ماثيو الذي بعمله الشجاع قد عبّر أخيراً عن أقصى درجات التعلق بالحرية، سوف «يظهر» لاحقاً إنما في الجزء الرابع «الفرصة الأخيرة» الذي لن يكمله سارتر أبداً، ولكن الناقدين ميشال كونتا وجورج بوير سوف يشتغلان عليه ويصدرانه بعد عام من رحيله عام 1980 ما أكمل الثلاثية في رباعية لا بد من القول إنها على رغم شهرتها فقدت مع السنين جزءاً كبيراً من بريقها وحتى من أهميتها الفكرية.
الحياة