يحيى الأوس
لا تعتبر الرابطة الدينية للدروز ولا الرسائل الدينية الخاصة بهم جامعا نهائيا بالنسبة لهم، بل لعلهم من أكثر الملل التي تشهد جدلا حول فحوى تعاليمهم الدينية الخاصة وارتباطها بهم وتأثيرها في حياتهم. خصوصا عقب حزمة التحولات التي أصابت الوسط الدرزي وظهور فئات واسعة من المثقفين المطالبين بالإصلاح والقريبين من أوساط رجال الدين الشباب المنفتحين.
وعلى الارجح فإن ما يؤلف بين الدروز هي تلك القيم والمفاهيم الحضارية والاجتماعية التي يتقاسمونها والتي لا تقوم على أساس من مبدأ ديني أو فقهي بعينه بقدر ما تقوم على ثقافة مشتركة. فلا مرجعية واحدة وقوية يحتكمون إليها في أمور حياتهم لأن مرجعياتهم متعددة ومتقلبة وفقا للمصالح والتحديات وحتى الأهواء في بعض الأحيان. وما يعود بالدروز إلى حظيرة مرجعياتهم هي تلك الأيام التي يشعرون فيها بتهديد وجودي لهم ولعيشهم، على عكس أيام الهدوء والاستقرار عندما تنفضّ الغالبية عن زعامتها التقليدية وتنزل بهذه المرجعيات إلى مراتب الناس الاعتياديين البعيدين عن التقديس المعرضين للأخطاء والهفوات شأنهم شأن بقية الناس، بينما تحّول الأيام العصيبة الدروز إلى كتلة متماسكة قادرة على تجاوز خلافاتها البينية، وهنا تبدو المرجعيات الدينية والاجتماعية والتقليدية اكثر سطوة، خاصة بين العوام. لا يمكن الادعاء بأن تعاليم الدروز الدينية كانت عابرة للمذهب، ولكنها لم تستبعد غير الدروز من مقاصدها الخيّرة ولم تتعارض مع القيم الإنسانية أبداً. وإذا كان الإنغلاق سمة المذهب شأنه شأن المذاهب الباطنية الأخرى التي لها في ذلك مبررات لسنا في صدد نقاشها هنا، إلا أن هذا الانغلاق الذي أُخذ عليها في كثير من الأحيان، يلمح فيه انعدام الشهية لاستقطاب غير الدروز إلى المذهب، بسبب غياب مبدأ التبشير للمذهب الدرزي، الأمر الذي يقلل من امكانات الاصطدام مع بقية الأديان، على شاكلة ما يحدث بين المسلمين والأقباط من حين الى آخر في مصر.
على أن انغلاق المذهب هذا لم يحل دون ان تسري روح الدولة الوطنية في ثقافة ابنائها كانعكاس للقيم العروبية التي ملأت المجال السياسي لأبناء الدروز وسارت جنبا إلى جنب مع الصيرورة الحضارية لمسيرتهم الفكرية والثقافية، بل لقد أثريت هذه القيم على يد بعض أعلام الدروز فظهر شكيب ارسلان أمير البيان العربي وكمال جنبلاط وشبلي العيسمي، ومنح سلطان باشا الأطرش ورفاقه، عبر الدور الذي لعبوه في الثورة السورية، مركزا مرموقا للدروز في صدارة العمل القومي.
اليوم بعد أن غيّب الموت المرجعيات الدينية التاريخية التي كانت تلامس عتبة القداسة عند الدروز، تبدو المرجعيات الحالية موضع انتقادات وتقوّلات عديدة، فهي اقل قدرة على قيادة المرحلة الحالية ليس لأنها تأخذ شرعيتها من سلطات دنيوية سياسية وحسب- كما هي الحال في سوريا- بل لأنها نأت بنفسها عن الصراع في هذا البلد انحازت إلى الاستبداد ضد المطالبين بحقوق إنسانية اساسية يعرفها الدروز تماماً، أو لنقل لا يعرفها الدروز اسوة بباقي السوريين. والغريب في الأمر أن كلا الطرفين لا يثق بالآخر، النظام يعتقد ان الدروز لن يقبلوا أن يبقوا على الحياد حتى النهاية وهناك آلاف المؤشرات التي تؤكد ذلك، ويعلم انهم لا يدافعون عنه بقدر ما هم متخوفون من أوهام لا يدخر جهدا في تغذيتها يوما بعد يوم عبر رسائل التهديد والوعيد المختلفة. والدروز بدورهم يعلمون أنهم لم يكونوا يوماً في حالة ائتلاف مع مكونات السلطة كما لم يكونوا خارج البيئة التاريخية والإنسانية للمجتمع السوري، بل على العكس كانوا في حالة تعايش إجباري مع النظام، ولم يمتلكوا الأسباب التي تجعلهم يتماهون معه في يوم من الأيام، وإن كان النظام ووسائل إعلامه تسعى لإثبات ذلك اليوم عبر تصويرهم كداعمين للنظام.
اليوم وبعد مرور قرابة سبعة عشر شهرا على انطلاقة الثورة لا تزال رموز المعارضة التقليدية لدى الدروز في حالة ضياع وخوف من تفويت فرصة لم يحلموا بها من قبل، لكنهم يعلمون أيضاً أن أكثر الدروز انقيادا للنظام وأكثرهم خوفا وتوجسا وسذاجة -برغم كل دفع النظام- لم يصلوا بعد إلى مرحلة استشعار الخطر الداهم الذي يفرض عليهم التكتل والظهور كمجتمع ديني متوثب، رغم وجود الكثير من الدروز المنغمسين في السلطة حتى العظم الذين يدفعون في اتجاه تهويل الخطر ودفع الدروز نحو تبني عقلية الأقلية المذعورة، رغم انتفاء الاسباب التي تؤسس لهذه الحالة جملة وتفصيلاً.
سيجد الدروز نفسهم فجأة خارج تاريخ سوريا والمنطقة للمرة الأولى في تاريخهم إن هم ظلوا على موقفهم السلبي، وستدفع المرجعيات الدينية ثمن هذه الخيارات وعدم اتخاذ القرار بالبحث عن موقع للدروز في ثورة الشعب السوري وفي وسطه الاجتماعي وبيئته الطبيعية.
ناشط سوري ورئيس تحرير مجلة “ثرى” الالكترونية
النهار
