دروس من سوريا
آن ماري سلوتر
في حين تحاول الولايات المتحدة وروسيا التوسط لعقد المؤتمر الذي قد يأتي بالأطراف المختلفة في الصراع السوري إلى طاولة المفاوضات، فيتعين على المشاركين المحتملين من الغرب على الأقل أن يفكروا في العواقب الأكبر التي قد يجلبها الصراع السوري على الطغاة والديمقراطيات في مختلف أنحاء العالم.
وإليكم الدروس المستخلصة حتى الآن:
الأشرار يسارعون إلى مساعدة أصدقائهم. فالروس والإيرانيون على استعداد للقيام بكل ما يلزم لإبقاء الرئيس بشار الأسد في السلطة. أما حزب الله، الذي تجهزه إيران بالعدة والعتاد، فقد انتقل الآن علناً إلى ساحة المعركة لدعم نظام الأسد. وتحرص روسيا وإيران على إبقاء الحكومة السورية مجهزة بالأسلحة الثقيلة وغير ذلك من المساعدات العسكرية، بما في ذلك شحنات روسية من الصواريخ المتطورة المضادة للسفن مع أنظمة رادار متقدمة. وهذا من شأنه أن يساعد الأسد في حماية جميع القادمين إلى الدويلة العلوية التي سوف تشمل مرافق الميناء التي تستأجرها روسيا في طرطوس.
الدبلوماسية في غياب تهديد حقيقي باستخدام القوة هي مجرد كلام أجوف. “تكلم بلطف واحمل عصا غليظة” هكذا كانت نصيحة تيودور روزفلت. الواقع أن الرئيس باراك أوباما يرغب عن حق في حمل لواء القيادة في الشؤون العالمية باستخدام القوة المدنية أكثر من القوة العسكرية، وهو يدرك أن الحلول العسكرية لمشاكل السياسة الخارجية باهظة التكاليف، وكثيراً ما تكون هدّامة فتأتي بنتائج عكسية فيما يتصل بتعزيز أمن الولايات المتحدة وازدهارها في الأمد البعيد.
بيد أن الإستراتيجية التي ينتهجها أوباما في التعامل مع سوريا وكأنه يسير على مبدأ “تكلم بصخب وألق عصاك بعيدا”. فقد أوضح أوباما مراراً وتكرارا (كما فعل الأمين العام لمنظمة حلف شمال الأطلسي أندرس فوغ راسموسن) أنه ليس له مصلحة في التدخل عسكرياً في سوريا. وكيف كانت استجابة الولايات المتحدة لأحدث شحنة صواريخ روسية؟ قال وزير الخارجية الأميركي جون كيري “أعتقد أننا أوضحنا تماماً أننا نفضل لو تمتنع روسيا عن تقديم المساعدة”.
لقد تخلت الولايات المتحدة عن واحدة من أكثر أدواتها أهمية في السياسة الخارجية، فخلقت بذلك الحافز لدى الحكومة السورية ومؤيديها للاستمرار في القتال إلى أن يصبحوا في أفضل موقف ممكن في التفاوض على التسوية، هذا إذا كان لديهم أي حافز للتفاوض على الإطلاق.
إذا كنت حاكماً مستبداً تواجه احتجاجات سياسية مستمرة، فكن وحشياً قدر الإمكان وحرض على القتل الطائفي. إن جزءاً من وجيعة سوريا ينبع من الطبيعة ذاتية التحقق التي يتسم بها الصراع.
فمنذ شهر مارس/آذار إلى ديسمبر/كانون الأول 2011، يخرج مئات الآلاف من السوريين كل يوم جمعة في مسيرات، للمطالبة بنفس التحرر السياسي الذي سعى إلى تحقيقه التونسيون، والمصريون، واليمنيون، والبحرينيون، والأردنيون، وغيرهم في مختلف أنحاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في إطار ما أطلق عليه تفاؤلا “الربيع العربي”. ولكن ما حدث هو أن شرطة مكافحة الشغب وقناصة الحكومة أطلقوا عليهم في الشوارع، إلى أن بدؤوا أخيراً في تشكل مليشيات محلية صغيرة للحماية الذاتية, وهي المليشيات التي تحولت تدريجياً إلى اتحاد طليق غير منضبط من القوات التي أصبحت تعرف الآن باسم الجيش السوري الحر.
وفي الوقت نفسه، كان الأسد يصف العنف باعتباره من إنتاج الإرهابيين والمتطرفين السُنّة الذي يسعون إلى فرض سيادتهم على الأقلية العلوية، والدروز، والأكراد، والمسيحيين، وغير ذلك من الجماعات. وعمل بدأب على تأجيج نيران الحرب الأهلية الطائفية، فنجح إلى الحد الذي أصبح معه الآن السبب الرئيسي لعدم التدخل لوقف القتل هو استحالة القيام بذلك بشكل فعّال في بيئة من العنف الطائفي.
لا تزال المنظمات الإقليمية عاجزة عن حل المشاكل الإقليمية بدون الانضواء تحت لواء قوة عظمى. كانت تركيا تهدد وتدعو إلى التحرك العسكري طيلة ثمانية عشر شهرا، ولكن المسؤولين في الولايات المتحدة يزعمون أن الأتراك ليسوا في واقع الأمر على استعداد للقيام بأي شيء يزيد على تقديم المساعدات للاجئين ومقاتلي المعارضة. بينما جامعة الدول العربية ودول مجلس التعاون الخليجي مصابة بالشلل.
وفي غياب قوة عظمى راغبة في تقاسم القيادة ودفع الطرف الذي تناصره من الخلف، فإن المنظمات الإقليمية عاجزة عن تولي المسؤولية في الجوار.
المعاناة الإنسانية، حتى وإن كانت على نطاق هائل وبدرجة مزعزعة للاستقرار، لا تكفي لدفع العالم إلى التحرك. في محادثة جرت مؤخراً حول سوريا مع اثنين من خبراء السياسة الخارجية البارزين، اقترح أحد المشاركين أن الحدود الحالية للشرق الأوسط، والتي رسمت في زمن الاستعمار، من غير الممكن أن تستمر ولابد من إعادة رسمها.
وقد أشرت إلى إمكانية اشتعال الشرق الأوسط على نحو أشبه بحرب الثلاثين عاماً في أوروبا، والتي حصدت من الأرواح طبقاً لبعض التقديرات ما بين نصف وثلاثة أرباع سكان بعض الدول المشاركة. واتفق معي أحد محاوري، ولكنه قال إننا لا نستطيع أن نفعل أي شيء لمنع أمر كهذا، لأن “هذه هي الفترة من التاريخ التي نعيش فيها”.
وبرغم كل الإعلانات القويمة الورعة عن “عدم تكرار ذلك أبدا” وهو الشعار الناشئ عن الهولوكوست (المحرقة) فإن القتل بالجملة يكاد لا يستحث التدخل الأجنبي على الإطلاق. وإنه لأمر مذهل أن نتصور كيف حشد العالم قواه على الفور لدفع العراق إلى الخروج من الكويت عام 1991، ولكنه ظل مرتعشاً متردداً لأكثر من عامين في حين يُقتَل عشرات الآلاف من السوريين، وتتحول بلدهم، مهد الحضارة، إلى خراب تام.
إن التدخل “الإنساني” -التحرك بدافع من قلقنا على مصير إخواننا في الإنسانية- كثيراً ما يوصف بأنه يعكس “اهتماماً أخلاقيا”. ولكن كم قد يستغرق الأمر من حروب قبل أن ندرك أن القتل يجلب دوماً المزيد من القتل؟ إن من يشاهدون ذبح أبنائهم وآبائهم، واغتصاب زوجاتهم وبناتهم وأخواتهم، والتدمير الوحشي لمساكنهم وسبل معيشتهم لا ينسون. بل إنهم يحملون بذرة الانتقام في قلوبهم من جيل إلى جيل، إلى أن يشهدوا قدراً من العدالة، فيرعون عداوتهم في صراعات مجمدة تعيق النمو الاقتصادي، وتمنع تكوين رأس المال الاجتماعي، وتصيب المؤسسات السياسية بالشلل.
وعندما لا يكون لدى أي طرف في حرب من الأسباب ما قد يدفعه إلى الكف عن القتال، فلن يكتب النجاح لأي مؤتمر سلام. وفي سوريا، تتلاقى كل الحجج الأخلاقية والإستراتيجية والسياسية لصالح اتخاذ تحرك حاسم لوقف القتل، وإن لم يكن إلى الأبد فعلى الأقل للوقت الراهن، من أجل خلق حيز للسلام. ولكن إذا كان لنا أن نسترشد بدروس العامين الماضيين، فسوف ندرك أن عجلة العنف ستستمر في الدوران.
المصدر:بروجيكت سينديكيت
الجزيرة نت