صفحات المستقبل

دروع بشرية


ودارت عجلات الميكرو[1] على طريق المزة الذي بدا امتداده في ساعة العصر الملتهبة وكأنه صراط مستقيم معلق فوق السعير وقد انتشرت على طرفيه البندقيات وعيون الذئاب لترقب أي سيارة مشكوك فيها فتهطل عليها وابل الذخائر إن لم تتوقف خاصة أن بساتين الرازي كانت مشتعلة جراء قصف المدافع والمروحيات وبساطير الشبيحة قبل أيام قليلة وذلك من أجل إخماد نبض الثوار فيها.

وما إن خرج الميكرو من المزة قاصداً المعضمية ومقترباً السومرية حتى بدأت أنفاس الناس تتغالظ ويصير الهواء لزجاً في الأنف والصدر، فالريف الغربي المجاور لدمشق مضطرب وجذور الثورة قد ضربت فيه كما بطشت به القبضة الأمنية..

وفي الميكرو، كانت وجوه الركاب شاحبة، قد ألقت عليها الأحداث وشاحاً من الخوف وزادها صيام الأيام الأولى من رمضان عطشاً ورجفة في الأصابع من عدم شرب القهوة والدخان…

وعند كراجات السومرية توقف الميكرو مرغماً بسبب حاجز عسكري، فقام جندي بتفتيش الهويات سريعاً ثم سمح لهم أن يكملوا طريقهم، ومن المقعد الأمامي للميكرو لاحظ أحد الركاب أن الأرض تقبض على السماء بيد من دخان كثيف جهة المعضمية، لدرجة أن الغريب عن أحوال البلد يعتقد أن الدخان ناجم عن نيران تأكل سوقاً أو حياً بأكمله، بينما من يراه من المقعد الأول في الميكرو يعلم أنه دخان عذاب أرواح وربما مجزرة تقع على الحجر والبشر، فتملكه هلع في النفس وبرودة في الأطراف فقام بلكز سائق الميكرو لينبهه إلى الدخان “شاهد الدخان، المعضمية تحت النار”… فارتبك السائق وقد قبض بقسوة على المقود “الله يستر” ، فاقترح عليه الراكب “برأيك نرجع؟” ، فأعاد السائق نفس العبارة “الله يستر”… وسرعان ما انتقل اضطرابهما كالحمى إلى المقاعد الخلفية ليصير الميكرو وكأنه كبسولة فيها دخان من الخوف واليأس…

ولكن من أين لسائق الميكرو أن يسلك طريقاً آخراً إلى المعضمية وعيون الذئاب ترقب أي حركة مشبوهة على الطريق؟ فواصلَ المضي حتى وصل مفرق المعضمية أو ما يسمى بمنطقة المشروع التي على يمنيها مساكن الضباط وعلى يسارها مطار مزة العسكري وفيه المقر الرئيس للمخابرات الجوية، وهناك واجه حواجز عسكرية منتشرة بكثافة على جانبي الشارع، هذه الحواجز لم تكن قوالب خرسانية أو أكياس رملية، بل شبيحة أصحاب عضلات ثخينة وصدورهم مكشوفة بالغل، ووجوههم مرعبة وكأنهم خارجون من الظلام، ونظراتهم حاقدة وكأنما تغلي في عيونهم نيران الانتقام، وأكتافهم تحمل بندقيات مهيأة وفي أيديهم سكاكين طويلة كالسيوف، وخطواتهم تدنس الأرض وتعفرها كالثيران، وبشكل حتمي تقابل الميكرو وفوهات البندقيات وجهاً لوجه الأمر الذي ألجم سائق الميكرو وأجبره على التوقف.

وبمنهجية من العنف والتغليظ اللفظي للشتائم، أجبر أولئك الرجال ركاب المكيرو على الخروج منه متهمين إياهم بتمرير السلاح إلى عصابات تحتل المعضمية وتقتل بعناصرهم، فسحب الشبيحة الهويات من الجميع بما فيهم سائق الميكرو وامرأتان نالهما نصيباً من شتائم لو قيلت بحق ساقطة لخجلت منها.

في هذه الأثناء كانت المعارك تطحن الأحياء والأبنية في القابون بين عناصر منشقين عن الجيش النظامي وبين الجيش النظامي نفسه، مما ألقت بظلالها على شتائم الشبيحة في هذا المكان “هربانين من القابون يا أخوات الـ….، الله أوقعكم وخلوا حمد يفيدكم”…

وبعد أن فتشَ الشبيحة ركاب الميكرو وقد حشروا أصابعهم في الثنايا والثقوب والجيوب، أرغموا الجميع على الجلوس أرضاً وإمالة رؤوسهم حتى تصير بين ركابهم، ثم أمروا سائق الميكرو أن يأخذ المرأتين إلى أول المعضمية بعدما تدخل أحد الشبيحة محاولاً إبراز شيء من التعقل، وأمروه أيضاً أن يرجع إليهم مهددين إياه بحرق الميكرو بعدما احتجزوا أوراق الميكرو الرسمية… ثم تقدم منه أحد الشبيحة وقد لكمه بقبضته على معدته فأرداه أرضاً ليتألم من شدة الوجع “أنت من المعضمية يا وهابي؟”، فنفى السائق ذللك وهو يفرك أرضاً من شدة الألم ، فأخذ ذلك الشبيح يركله ويصرخ فيه “كذاب… متآمر”، ثم راح يهدده “بعد ما توصل النسوان، بدك ترجع أما بدك تفل وتهرب؟”، فحلف السائق على العودة ، ثم التفت هذا الشبيح إلى شبيح آخر تبدو عليه علامات الزعامة والسيطرة على بقية الشبيحة فأخبره بصوت عالٍ أن بإمكانهم إجبار السائق على أن يحضر إليهم ثلاث جثث لزملاء لهم.

الأمر الذي فسر سبب هذه الوحشية من قبل أولئك الشبيحة الذين فرغت قاماتهم من الجرأة على دخول المعضمية وتمركزهم عند أول مفرق المعضمية حيث مساكن قادتهم ويشكلون الأكثرية هنا، فقد جرت معركة بينهم وبين أفراد من الجيش الحر خسروا فيها ثلاثة من زملائهم، ثم فروا إلى هذه المنطقة من الموت وهم والآن يحتاجون إلى سائق الميكرو كي يدخل إلى المعضمية ليجلب لهم جثث قتلاهم خاصة أن الميكرو مدني وسائقه معروف في المنطقة ويستطيع الدخول دونما اعتراض من الجيش الحر.

ثم بدأ الشبيحة بركل الرجال الموقوفين حتى وصلوا بهم إلى الطرف الآخر من الشارع حيث محلات تصليح السيارات منتشرة على طول الطريق، وكان أشد ما آلم وجدان الرجال الموقوفين أكثر مما أوجع لهم أجسامهم هو صفع الخدين وتحقير النفس بشتائم تعتدي على أعراضهم والذات الإلهية والاستهتار بصيامهم بنفث دخان السجائر على وجوههم، كل ذلك تم أمام عيون أهالي الضباط المطلة بيوتهم على الشارع وقد نظروا إلى المعتقلين بعين الشماتة… وبعد أن قام شبيح بصفع أحد الموقوفين فكسر له أرنبة أنفه وأسال الدماء منه بغزارة لا تنقطع ، ضحك في وجهه وقال له مستهزئاً “يا حرام ، أفطرت وراح صيامك بالدم، الله بدو يحطك بالنار لأنك أفطرت”….

“كل واحد يوقف على غلق المحل، بدي شوفكم عاملين صف يا حيوانات وعيونكم بالأرض”…

وبدء التحقيق بسؤال متبوع صفعة وركلة وما تيسر للسائل من حقد وطغينة…

– من وين أنت يا واطي؟

– من الشام…

– شو جاية تعمل بالمعضمية؟

– هون بيتي…

– تارك الشام يا حمار وجاية تسكن مع الإسرائيليين؟ لو مالك صهيوني متلهم لما كنت ساكن هون..

فرفع هذا الرجل رأسه ليحدق بعين من يحقق معه بحقد فيخاطبه بنظراته دونما أن يحرك شفتيه “لولاكم لما تركنا الشام يا أولاد الحرام”… فدبّ الخوف في نفس الشبيح من نظرات هذا الرجل فقام بصفعه فوراً… وبعد أن طير الشبيح وجه الرجل بصفعة قوية وأسقطه بها أرضاً، توجه بنفس الأسئلة إلى موقوف غيره…

لقد كانت معظم أسئلته تدور حول أثنية كل موقوف والسبب الذي حمله على دخول المعضمية، فقد كان همه أن يعثر على أي أحد من المعضمية لغرض يضمره، وفي هذه الأثناء علق في شباك الشبيحة ميكرو آخر عومل ركابه بنفس الأسلوب المهين وتم ضمهم إلى صف التحقيق “وقفه وقفه ، نزلوهم للعراعير وجيبوهم شحط لهون وخدوا هوياتهم”…

ومن شدة الضغط النفسي الذي يعاني منه الشبيحة وكذلك الارتباك والغضب المسيطران على انفعالاتهم وشتائمهم القذرة، أخذوا يلوحون بسكاكينهم الطويلة “أنتم داخلين على المعضمية يا ولاد الـ… لتتعاملوا مع الجيش الكر؟ إذا ما بتعترفوا وين أوكارهم وأسماءهم لنقتلكم واحد واحد، بسببكم يا مندسين يا خونة انقتلوا رفقاتنا وأنتوا لازم تدفعوا ثمن دمهم”..

“قوم ولاك حيوان أنت وياه وقفوا بشكل صف ورا بعض على هداك الشارع، وأنتو كمان اعملوا صف على الشارع التاني، ويلي بدو يتنفس لحط السكين بنص قلبه” هكذا صرخ بهم أحد الشبيحة وقد أشار لزملائه أن يجعلوا من أجسام الموقوفين ساتراً يقيهم من نيران الجيش الحر، ثم تقدم شبيح آخر أراد التهكم بهم “اقتربوا من بعض أكتر، إيه أكتر… كل واحد يدق بمؤخرة يلي قبله وطالعوا صوت آه من صدركم وكأنكم بحالة شبق… إيه هيك بدي ياكم متل سيدكم اللوطي العرعور” فعمت الضحكة أرجاء المكان ليتردد صداها من شبابيك الأهالي، بينما الذل أثقل كاهله على وجوه الرجال… بعد ذلك أجبروهم على يمشوا والبندقيات في ظهورهم حتى وصلوا بهم إلى جسر قبل المعضمية البلد وهناك فرقوا صفوف الموقوفين بعد أن أبقوا معهم رجلين منهم فجعلوهما واقفين أمامهم، كدرعين بينهم وبين المعضمية وقد أبرزوا بندقياتهم من فوق كتفيهما…

ثم أشاروا إلى سائق الميكرو أن يدخل فيجلب جثث زملائهم بينما هم سوف يتمركزون هنا عند الجسر وراء الرجلين لينتظرونه، وبالطبع فإن الرجلين الواقفين كساتر بشري لن يحجبا الموت عن الشبيحة، فجسميهما لن يحتملا رصاصتين، فرصاصة واحدة كافية لتودي بحياة كل منهما فينكشف من ورائهما الشبيحة أمام الجيش الحر، هذا الأسلوب يتبعه الشبيحة كلما أرادوا اقتحام حيٍّ مستعصٍ أمامهم، ويمارسون هذا الأسلوب رغم غباء فكرته وانحطاط الأخلاق فيه، ذلك لأنهم على دراية بأن أن أخلاق جنود الجيش الحر سوف تمنعهم عن إطلاق النيران إن رأوا المدنيين وقد فصلوا بينهم وبين الشبيحة…

” شبك عم ترجف يا كر؟ وقف باستعداد مالك شايف البارودة على كتفك؟ لا تخاف نحنا منحميك من هالكلاب يلي خربوا البلد”… فرد عليه الرجل وهو مرتبك “كيف بدك تحميني وأنا قبلك؟”… فضحك الشبيح وقد أجابه بعد أن غيّر صوته فجعله صوتاً ناعماً “حبيبي أنت بتاكل الرصاصة وأنا بعيش، هيك أنا بضل موجود مشان أحمي الشعب من أمثالكم”…

وتمر الدقائق ليتسلى فيها الشبيح بالرجل الذي يحتمي هو خلفه وفجأة يصفعه على قفا رقبته ويصرخ فيه بعصبية “قلت لك توقف باستعداد يا جبان” ، ثم يعود ليقول له وقد صدق نفسه “شايف كيف العصابات المسلحة بتخاف مني؟ لم يضربوني بالرصاص وأنا واقف هون متل البطل، حتماً بيخافوا مني”… فيكتم الرجل أنفاسه وليحتبس جوابه في داخله “لأن عندهم شرف يا خسيس”…

في ذات اللحظة ومن الطرف الثاني، يلاحظ رجال الجيش الحر الشبيح والرجل الذي نصبه أمامه كدرع ليحتمي به، فرفعوا البندقيات وانسحبوا إلى داخل الحارات معتزلين القتال كي لا يكون وجودهم ذريعة لقتل الأبرياء…

أما بقية الرجال الموقوفين فقد استلموا هوياتهم قبل أن يجبرهم الشبيحة على أن يدخلوا المعضمية مرتجلين “قلتوا بيوتكم بالمعضمية؟ ادخلوا المعضمية مشي، بسرعة لشوف” فولوا هاربين من قبضة الشبيحة وقد وصل إلى مسمعهم أصوات سيارات إسعاف تقترب من المكان، فعلى ما يبدو أن الشبيحة قد علموا أن صاحب الميكرو قد وجد الجثث…

http://syrian-stories.blogspot.com/2012/08/blog-post_9.html

قصص سوريّة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى