مراجعات كتب

“دفتر الفسبكة” و”الفسبكات” لأحمد بيضون: المايسترو/ عقل العويط

 

 

قرأتُ كتابَي أحمد بيضون، “دفتر الفسبكة”، و”الفسبكات”، الصادرين عن “شرق الكتاب”، الأول في أيلول من العام 2013، والثاني قبل وقت قصير، في أيلول 2015، وهما يتكاملان في الشكل وفي العمق، بحيث يكوّنان جزءين متلازمَين يتمم أحدهما الآخر، ويقدمّان إلى القارئ، وخصوصاً إلى مَن آثر أن لا ينتظم، شأني، في عالم “الفسبكة”، أفقاً كتابياً، ومادة جدالية دسمة ومتنوعة للقراءة والتأمل والتفكير وإبداء الرأي.

ليس التعليق العابر والنافل هو سمة الكتابَين. فأحمد بيضون، الباحث والمؤرخ والمفكر وعالِم الاجتماع والأستاذ والشاعر، يعي تماماً أنه مؤتَمَن – إذ يكتب “اليومي” – على تحرير هذا “اليومي” من أفوليته وزمنيته، وإعطائه صفات وخصائص تتخطاه، وتجعله يندرج في سياقات جدالية، هي من مسؤوليات العقل النقدي. في هذا المعنى، لا ينأى الكتابان عن إرث الكاتب في الكتابة، ولا عن طريقته، ولا أيضاً عن لغته وأسلوبه، بل يفتحان أمام هذا الإرث أفقاً نوعياً وشكلياً جديداً، يمكّنه من أن يصنع جمهوراً ثقافياً “ثانياً”، ربما لا يصله الكتاب الفكري، أو لا يرى نفسه معنياً به مباشرةً، إضافة إلى الجمهور الأصلي.

الوقائع “اليومية” التي ينهض عليها الكتابان، تنتمي، موضوعياً، إلى نوع من أدب السيرة. لكن الوقائع ليست في أكثرها الأعمّ، من النوع “الحميم”، الذي يخصّ الشخص في ذاتياته، بل هي “عمومية” تقريباً، تتصدى للقضايا والمسائل السياسية والفكرية والوطنية والحياتية، وتتزامن بشكل أساسي مع مجمل ما عرفه لبنان وسوريا والعالم العربي خلال الأعوام الخمسة الأخيرة، وهي كانت حافلة بالأحلام والثورات، مثلما كانت، ولا تزال، مضرّجة بالكثير من المآسي والآلام والدماء والخيبات. ولم يكن غريباً أن يهدي أحمد بيضون الكتاب الأول “إلى ياسين الحاج صالح أسيراً مجرَّباً للحرية وكاهناً فسبوكياً جليلاً”، باعتباره سجيناً سورياً سابقاً، ومناضلاً ومثقفاً مهيباً، وفارساً من فرسان الثورة السورية على النظام الديكتاتوري الأسدي، الذي جعل سوريا مقبرةً للأحلام والأطفال والنساء والثوّار، وعمل طويلاً على تقاسم هذه المقبرة مع الظلاميين الدمويين “الإلهيين”، الذين درّبهم في سجونه الأمنية وفي دوائر مخابراته الرهيبة، وسهّل لهم سبل التمدد، عدداً وعدةً وجغرافياً، ومكّنهم من التناسل في الجسم السوري الثخين، ليجهز وإياهم على الثورة السورية البهية. كما ليس غريباً في الآن نفسه أن يرسل أحمد بيضون “التحية” في كتابه الثاني “لذكرى بشير هلال فقيدنا في ما وراء الافتراض، وأول صاحب لنا يصحّ، مع ذلك، أن ندعوه فقيد الفسبوك”، هذا الذي انتمى طوال حياته إلى فضاءات النضال من أجل الحرية والاستقلال وكرامة الانسان، أكان في زمن اليسار الشيوعي أم في زمن اليسار الديموقراطي أم في زمن الانتفاضة اللبنانية على اليد السورية أم في زمن “إعلان دمشق” فالثورة السورية.

يحضر في الكتابَين، أحمد بيضون الذي أعرفه، ويعرفه عالم الجامعة والفكر والتاريخ، ويعرفه متابعوه وأصدقاؤه، شخصاً راسخ القيم والمعايير، متمكناً من شؤون الأدب والعقل والنقد والنكتة والسخرية. الكتابان، هذان، وإنْ بَدَوَا “على الهامش” من تجربته، بسبب خصوصيتهما “اليومية”، ليسا “هامشيين” إذاً، بل يشقّان في صميم التجربة المتين، دروباً غير مطروقة سابقاً، هي دروب “الفايسبوك”، بما تقتضيه من تواصل “يومي”، أو “شبه يومي”، ومن نقاش، ومن ردود وتعليقات، ومن فعل وردّ فعل. لكن أحمد بيضون إذ يدخل هذه “المغامرة”، مركّزاً على “الخاطرة”، لا على البحث الطويل، يحضر في الآن نفسه، بكامل عدّته العقلية والفكرية والنقدية والخفيفة الظل في آن واحد، من خارج “الجسد” التقليدي، أي الكتاب، يحضر “جديداً”، “حديثاً”، “راهناً”، “مودرن”، مواكباً التقنيات ووسائط التعبير والتواصل الجديدة، محافظاً على مهابته ومكانته، متمكناً من الوسائل “الفايسبوكية”، مسيطراً عليها، مسيِّراً إياها، آخذاً منها ما يتوافق مع “بروفيله” الأكاديمي والعقلي والثقافي.

أراني أرغب في التركيز على هذه الناحية، لأن كُثُراً من الرواد “الفايسبوكيين”، شطحوا بعيداً، وغالوا في “حميمياتهم”، ونشر غسيلهم، والاستخفاف بالموضوعية، فتبسّطوا في التحدث عن “كل شيء”، وبكل اللغات المتاحة وغير المتاحة، “من الزنّار ونازل”، فمدّوا أرجلهم، وأخذوا راحتهم، بحيث أن “الفايسبوك” بات لهم على شبه “تلفزيون الواقع”، فأخذهم، بخفة غواياته ومطبّاته وفخاخه الانفعالية، إلى مطارح في الكتابة يغلب عليها السخيف والانحطاطي والفضائحي والساذج واللامستحب والمقذع. وسرعان ما نقلوا كتاباتهم “الأندرغراوندية” هذه، العابرة و”الحميمة” والمنفعلة والانشائية والخطابية، التي نشروها على “الفايسبوك”، إلى عوالم الكتاب المطبوع، فإذا بها لا تعدو كونها لغة مسطحة ساذجة، فارغة من أيّ مضمون مهيب، وزبداً آفلاً ممجوجاً سريع الزوال، وغير صالح للحياة الأدبية والفكرية.

أما هنا، في كتابَي أحمد بيضون، فليس ثمة أيّ صورة مناقضة للصور التي نعرفها للكاتب الكبير. لا نعثر على أحمد بيضون، ناشر غسيل، سطحي أو خفيف أو انفعالي، بل هناك فقط عقلٌ ديناميّ فاعلٌ ومتفاعلٌ، حديث وطليعي، ثابت الأركان، يعرف ماذا يريد من “الفايسبوك”، فيضفي عليه جانباً من “شخصياته” و”صوره”، ولا يترك له أن يجرّه إلى ما لا يريده لنفسه.

في مكتبتي، أرى إلى كتاب أحمد بيضون، “لبنان الاصلاح المردود والخراب المنشود” (دار الساقي 2012)، وأنا أكتب مقالي عن تجربته “الفايسبوكية”، فأعثر على أحمد بيضون هنا وهناك، بما يعنيه التكامل من وجود مايسترو واحد في وجوه كتاباته المتنوعة، ومن وثوق العلاقة التكاملية، القائمة على وشائج العقل واللغة. وإذا كان الكتابان “الفايسبوكيان” يركّزان على ما شهده لبنان وسوريا – ولا يزالان يشهدان – في الأعوام الأخيرة، فذلك إنما يمثّل حلقةً كتابية تندرج في مسارات مؤلفاته الفكرية والتاريخية والاجتماعية، ضمن إطار المأساة الكبرى التي تعصف بهذه المنطقة وبشعوبها.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى