دفتر الهواتف القديمة وشيء من الذاكرة المستعادة
أنور بدر
أشياء كثيرة تفقد وظيفتها الاستعمالية مع تطور الحياة، وبالتالي هي تنقرض أو تكاد، بينما تبرز حاجات جديدة باستمرار التطور، وتأتي معها بأشياء تلبي وظائف استعماليه مستحدثة، فالهاتف النقال أو ‘الموبايل’ فرض نفسه في عالم الاتصالات، وتعددت وظائفه وأشكاله، وفرض معه الكثير من الإكسسوارات والمتممات التي تبدأ بالشاحن ولا تنتهي بالحافظة الجلدية أو القماشية فيما يتعلق بهواتف السيدات أحيانا.
لكن هذا الموبايل الذي يسجل الأسماء والأرقام في ذاكرة لا تكاد تنتهي مساحتها، ألغى بالضرورة شيئا من ذاكرتنا المتعلقة بحفظ أرقام الهواتف، كما ألغى وظيفة دفتر الهواتف القديم، أو دفتر الجيب الذي لا تتعدى أبعاده السنتيمترات العشرة طولاً وأقل منها للعرض، وهناك مقاسات أصغر من ذلك أيضا، بحيث كادت تنقرض الوظيفة الاستعمالية لهذه الدفاتر.
وأنا رغم مقاومتي الشديدة لجائحة الهواتف النقالة إلا أنني استسلمت لها أخيرا بحكم الضرورة وليس الرغبة، خاصة بعدما تمّ إدخالها في قاموس العربية وأخضعت لكل الاشتقاقات والتصريفات اللغوية والفقهية وثبت نسبها العربي، فنحن نستطيع اشتقاق الفعل من الاسم فنقول عن فلان أنه تموبل أي أصبح ممن يحملون الموبايل، وكانت سعادتي بأنني تموبلت في العربية تفوق سعادتي بأنني امتلكت ذلك الجهاز اللعين. لكنني وفي نوع من النوستالجيا التي يفتخر جيلنا بها، أعلن أنني ما زلت احتفظ بدفاتر هواتفي القديمة، كما أحتفظ بكثير من الأشياء القديمة التي باتت خارج نطاق الاستخدام الحياتي والمعاشي، كبعض النشرات الحزبية التي تعود لسبعينات أو ثمانينات القرن المنصرم، بعض الصحف والمجلات القديمة، وبعض المواد التي كتبتها في تلك الحقبة ونشرتها بفخر شديد، وما زلت أحزمها بين أمتعتي وأشيائي الشخصية وأرحلها من بيت إلى بيت، إذ أنني خلقت غير ألوف للبيوت التي أمكنني السكن بها عموما.
وفي آخر انتقالاتي السكنية جلست أعيد ترتيب أشيائي فاقدة الاستخدام تلك، وهي كثيرة بالمناسبة، لأعثر بينها على أحد دفاتر هواتفي الذي يعود للنصف الأول من عقد الثمانينات، إذ أنني اعتقلت في نهاية عام 1986 ولم تكن البشرية قد عرفت شيئا عن الهواتف النقالة، وخرجت بعد اثنتي عشرة سنة من السجن أعتقد أنها كانت مفصلية في التاريخ العام بمعنى ما، وليس في تاريخي الشخصي، إذ تغيرت خلال تلك السنوات أشياء كثيرة في الجغرافيا والتاريخ والسياسة أيضا، بدءاً بالبيروسترويكا وانهيار منظومة الدول الشيوعية في حلف وارسو، وانتهاءً بمفكرة هواتف أصدقائي أو الناس الذين كنت أتعامل معهم، مع أن الكثير من أصدقائي لم يكن ينعم برفاهية امتلاك الهاتف الأرضي، ففي دولة البعث كان امتلاك الكثير من الأشياء يبدو من الصعوبة بمكان لا يتاح لغير الواصل امتلاكها، وهنا استعير هذا التعبير من حقل الصوفية لحقل السياسة لأصل ما انقطع بينهما، إذ علّمنا النظام البعثي ودربنا كشعب على الزهد في متاع الدنيا ابتغاء النعيم الاشتراكي ومقاومة الصهيونية والإمبريالية العالمية أيضا، وصولاً إلى تحرير فلسطين وعربستان وكيليكيا مروراً بالأندلس المفقود، ويا حظوة من نال ذلك النعيم!
من هنا اكتشفت أن بعض الهواتف المسجلة في دفتري الصغير كانت هواتف عمل لرفاقي من البروليتاريا العاملة في مؤسسات القطاع العام، إذ لم يكن منظّرو النظام الاشتراكي قد اكتشفوا بلسم القطاع المشترك وفضائل الاستثمارات الخاصة فيما لو قام بها الاشتراكيون تحديدا، ففي دفتري اسم الصديق أنور البني وكان يعمل في الإسكان العسكري حينها، وهو الآن محام مشهور بعدما تعرض للسجن خمس سنوات، وأتذكر أن عاملة المقسم في تلك المؤسسة كانت تمتلك صوتا آسرا، رغم أنني لم أعرفها ولم ألتق بها قط، وقرأت اسم صديقي سعيد هلال الذي كان محررا في صحيفة تشرين، لكنني استغربت حقا وجود اسم السيد خضر الشعار فهو مدير عام الإذاعة والتلفزيون في تلك الحقبة، فكيف أمكن لأسمه أن يتسرب إلى دفتري! رغم أنه أتيح لي العمل في أحد برامج الإذاعات الموجهة لعام ونيف، دون أن أنسى هواتف وزارة الثقافة ومسرحي القباني والحمراء، ودار العَلم للطباعة والنشر حيث كان يعمل صديقي حسام، واتحاد الكتاب العرب وحتى اتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين. كما استعدت اسم الصديق الفلسطيني أحمد أبو مطر الذي كان يدير دار ‘صبرا برس’ للخدمات الصحفية وتعاملت معه لبعض الوقت، لكنني افتقدته بعد خروجي من السجن إذ هاجر بعيدا عن مهد العروبة النابض، وأسجل أيضا اسم دار ‘منار برس’ أيضا والتي لا أتذكر الآن شيئا عنها.
وفي دفتري أسماء بعض المثقفين السوريين والعرب كالمخرج المسرحي وليد قوتلي والمخرج السينمائي هيثم حقي الذي تحول إلى الدراما، والشاعر نزيه أبو عفش، والملحن العراقي كوكب حمزة، الشاعر علي كنعان والإعلامي الصديق فايز سارة والقاص سحبان السواح.
المؤشر المهم في دفتر هواتفي يؤكد كثافة الحضور السياسي والإعلامي الفلسطيني في الساحة السورية لتلك الأيام، حيث تبرز أسماء قادة ومناضلين في الساحة الفلسطينية عموما، كعبد الفتاح غانم أمين عام جبهة التحرير الفلسطينية، وعطية مقداد رئيس أحد التنظيمات التي نسيت الآن اسمها، إضافة لأرقام تتعلق بالتنظيمات الفلسطينية أو تتعلق بالمكاتب الإعلامية للجبهات الشعبية والديمقراطية وجبهة التحرير أيضا، ومجلة فتح الانتفاضة، ومكاتب وكالة الأنباء الفلسطينية ‘وفا’.
ويمكن أن نقرأ في دفتري لتلك الأيام اسم أبو جهاد صالح الذي رأس تحرير مجلة فتح قبل أن يتسلمها الصديق بسام الهلسة، واسم الصديق أسامة الهندي وهو من بقايا قيادات ‘القوميين العرب’، والصديق سعيد البرغوثي الذي تحول إلى ناشر مهم لاحقا، وأعترف أن كثافة الإعلام الفلسطيني في حينها لم تكن توازيها خدمات إعلامية موازية في البلد لذلك اعتمدت أغلب تلك الصحف على مخرج مصري وحيد أسمه ‘إلهامي المليجي’ كان يعمل معنا باسم محمد المصري.
ويمكن أن نضيف أسماء بعض المثقفين الذين عاشوا في كنف الحالة الفلسطينية كالشعراء أحمد فؤاد نجم ومظفر النواب، والكاتب نزيه أبو نضال، والكاتب الإعلامي محمود شاهين الذي تحول إلى التشكيل والرسم لاحقا، إضافة لمثقفين رحلوا عن هذه الدنيا كالروائي غالب هلسا والشاعر ممدوح عدوان والناقد سامي عطفة والتشكيلي الفريد حتمل، والروائي الفلسطيني عدنان عمامة، والإعلامي يوسف مقدسي، والإعلامي المصري سيد خميس، دون أن أنسى رفيقي الذي رحل مبكرا عنا القاص جميل حتمل.
قراءة الأسماء السابقة تشي بتداخل المشهد الثقافي في سورية، حضور الإعلام والمثقفين الفلسطينيين، وحضور المثقفين العرب ضمن الإطار السابق، مثقفين من الأردن ومصر والعراق عاشوا بين ظهرانينا، وأكاد أجزم الآن لو استمرت بهم الحياة أنهم كانوا من الأصالة بحيث يقفون مع الشعب السوري وتضحياته الثرة، بعيدا عن نظام الممانعة الذي شكلت الأيديولوجيا الماركسية وانتماءات اليسار إغراءات للكثيرين من يساريي الساحتين الأردنية والفلسطينية دفعتهم إلى الخندق المضاد للثورة وللشعب، وهي لعمري مفارقة.
القدس العربي