صفحات الرأي

دمج العدو الداخلي والوطني (السوري) في قطبية المشرق الخصيب/الخليج القاحل


وضاح شرارة

يرسو رد نظام بشار الاسد على الحركات الشعبية السورية المناهضة، والتكتل الدولي والاقليمي المساند، على دمج العنف البربري، العشائري والبيروقراطي، الذي تتوسله القوات النظامية واحتياطها الاهلي، في اثنينية جغرافية سياسية واستراتيجية تنهض على دائرتين متقابلتين ومتعادلتين هما دائرة الهلال الخصيب، من جهة، ودائرة بلدان الخليج أو شبه الجزيرة العربية، من جهة ثانية. فغداة مجزرة الحولة، وبعد لقاء كوفي أنان، مبعوث الامم المتحدة (والجامعة العربية)، في 29 أيار، ابلغ بشار الاسد المبعوث الدولي أن “المجموعات الارهابية المسلحة صعدت من أعمالها الارهابية في الآونة الاخيرة في شكل ملحوظ في مختلف المناطق السورية ومارست اعمال القتل والخطف بحق المواطنين السوريين…”. وهو الشق الامني والأهلي من التشخيص. وأرفق “الرئيس” قوله أو إيضاحه، على قول “سانا”، بـ”تأكيده ضرورة التزام الدول التي تقوم بتمويل وتسليح وإيواء المجموعات الارهابية بهذه الخطة” (خطة أنان)، وهو الشق الاقليمي والدولي من التشخيص. وكرر في خطبة 3 حزيران مقالته.

وفي اليوم نفسه، وقبله بأيام وبعده بأيام، تناوب الفريق “المدني”، التقني الديبلوماسي والسني (وليد المعلم وبثنية شعبان وفيصل المقداد وجهاد مقدسي)، على تفصيل الشقين ودمجهما الواحد في الآخر معاً. فأرسل المعلم رسالة الى نظيره وصنوه اللبناني يأمره فيها بإبلاغه ما انتهت اليه التحقيقات في المركب “لطف الله -2” الذي ضبطت فيه اسلحة مهربة، وفي مصادرها في المرتبة الاولى. ودأب “عامل” الاسد في لبنان على تسمية بلدين خليجيين يحملهما المسؤولية عن التهريب المشهود (والمجهول المصدر) والمنحول والمحتمل بينما تقتل القوات السورية على الحدود الشمالية الشرقية مزارعين (لبنانيين) وصياد أرانب ومهربين من الاصناف جميعها رعتهم الاجهزة “العربية السورية” عقوداً طويلة ويسّرت أعمالهم واستخدمتهم.

أجنحة متكسرة

وأما صحافة “المقاومة” بساحة لبنان وثغره وإقليمه فلا تمل ولا تضجر من الابداء والاعادة في سرد فقرات المرحلة التي نجم عنها الانفجار السوري: إجلاء القوة العظمى الصاعدة الايرانية، المستوية قوة نووية تتمتع بحقوق القوة النووية الثابته، القوةَ العظمى السابقة الآفلة الاميركية عن العراق عنوة، نشر هذا الاجلاء الذعر والارتباك والهستيريا في صف حلفاء أو اتباع الدولة الاميركية المتهاوية، أي دول الخليج واسرائيل. فاجتهدت في اضعاف القبضة المجاهدة من طريق إخراج الحلقة السورية ثم حلقة الجماعة الخمينية المسلحة في لبنان من الطوق المقاوم والصامد، على ما ينوه باتريك سيل كل أسبوع تقريباً وبالعبارة الثابتة نفسها. وليست “حوادث” سوريا إلا ثمرة الهلع الاميركي والاسرائيلي والخليجي والتركي العثماني، وتواطؤ هذه الاجنحة المتكسرة على مربع الصمود الامبريالية الصليبية والاستيطان العنصري والنيوليبرالية المتوحشة.

ويبعث الرد الاسدي على الحركة السورية، ودمجه التشخيص الامني الارهابي في التشخيص الاقليمي والجغرافي السياسي وقسمته، يبعث شطراً عريضاً من تاريخ النزاعات والحروب والانقسامات العربية في نصف القرن الاخير. وحملُ الرد الاسدي على بعد أو عمق تاريخي ينأى به، ظاهراً، عن عماه العنيف والمدمر. والتنبيه الى “منطق” العنف يسوغه. فانشطار “جامعة” البلدان العربية، غداة الحرب الثانية في اثر قيام اسرائيل وتعاقب الانقلابات العسكرية، كتلين ومعسكرين (على التقريب) إنما كان محوره أو خط أساساته البلدان الثلاثة، العراق والاردن وسوريا (ولبنان استلحاقاً)، التي تقع على مفصل الدائرة الصحراوية، الشرقية والجنوبية، والدائرة المشرقية “المتمدنة” و”السياسية”، على قول صاحب القوم نفسه. وكان اضطلاع سوريا بدور الساحة المفصلية في النزاع الموروث من حقبة ما بين الحربين مصدره الجعرافي السياسي دخولها في الدائرتين معاً: الدائرة الصحراوية، “البدوية”، على قول انطون سعادة، والدائرة المشرقية. فهي طرف الهلال الخصيب الغربي، وقلبه السياسي الحديث، من وجه، وهي تتمة المسالك والممالك التي تضرب بجذورها ومصادرها في قلب جزيرة العرب ومصبها، من وجه آخر. واجتمعت فيها المنازع السياسية والجماعات الاهلية المترجحة بين القطبين. ولا شك في ان قيام مصر، في طرف فلسطين والاردن، قطباً راجحاً ومائلاً الى الكفة المشرقية ، قبل عبد الناصر وفي اثناء مرحلته، إنما يندرج في رسم النزاع العريض وتكتيله قواه البارزة. وأدت الحرب الباردة، وتمددها في أرجاء الشرق الاوسط (الادنى)، الى بلورة الكتلتين العربيتين، وبروز ملامحهما بروزاً حاداً. فاستجاب “الصراعُ على سوريا” بنية الجماعات الداخلية ومنازعاتها على قدر استجابته موازين المنازعات والاحلاف الاقليمية، على خلاف مزاعم صاحب العبارة الذائعة وترجيحه كفة العوامل الثانية على الاولى.

وعلى هذا استقرت كتلتان عربيتان كبيرتان ومتنازعتان دارت خلافاتهما المتجددة على عوامل داخلية وخارجية ثابتة. فبينما أقامت بلدان الداخلية العربية، وبعضها بقي ممتلكات استعمارية الى وقت متأخر من العقد السابع والجلاء عن شرق السويس، في عهدة طبقات حاكمة قديمة محافظة وعصبية، استولت على حكم المشرق “طبقات” جديدة، عامية ومدينية من المتعلمين والموظفين في أجهزة الدولة. ولم ينفض معظمُ أجزاء هذه “الطبقات” الروابط الاهلية السابقة وعصبياتها. ولكن نشأة الكيانات السياسية وإداراتها ومجتمعاتها ومدنها ومدارسها وجامعاتها، ولدت أو بلورت في وجه العصبيات الاهلية المشدودة الى ديراتها ودوائرها ومعتقداتها وشعائرها، عصبيات “عليا”، “قومية” ودينية، تولت رعايتها ونشرها عيئات وبنى جديدة مختلطة، جمعيات ونوادٍ وأحزاب وروابط مهنية وأجسام سلكية. وغالباً ما حصنت الفئات الضعيفة، والمنفكة من الاجسام العصبية والمتصدعة، ضعفها بإزاء الرئاسات العصبية الممتحنة والمراتب الاهلية التي خلخلتها علاقات اجتماعية طارئة، غالباً ما حصنت الضعف الموضعي هذا بواسطة النازع المتسامي والعَلَوي والتنظيمي. فلامست حروب أهلية وعصبية متفاوتة الحدة تبلور الجماعات الجديدة ونهوضها الى القيادة، ولازمت النزاعات “الوطنية” وصبغتها بصبغتها.

وغذت المحنة الفلسطينية وهي مشرقية في المرتبة الاولى، وأسهمت في ضم مصر الى الكتلة المشرقية أو “بلدان الطوق” وفي إبعاد الداخلية العربية عن المشرق وشدها إليه معاً- الشقاق السياسي والجغرافي والاستراتيجي. فرتب على العصبيات العامية و”الجمهورية” الحاكمة، وعلى جمهورها ودولها، “مهمة” عاجلة وقريبة هي السعي في “عودة” فلسطين والفلسطينيين من طريق الوحدة وعصبيتها الجامعة، ومن طريق مناهضة الامبريالية والاستعمار الغربيين والرأسماليين. وماشت الكتلة الداخلية والصحراوية بعض النازع المشرقي هذا. ودعاها الى مماشاته داعيا القومية العروبية، على معنى ميزته البنى الاجتماعية الاهلية من المعنى العامي المشرقي، والاسلام، وهو في إطار الداخلية غيره في اطار المشرق ومصر. وفرقت الكتلتين، على هذا، عواملُ ناجمة عن البنية الاجتماعية، وعن التاريخ القريب والبعيد، والايديولوجية، على نحو وقدر ما هي ناجمة عن القواسم المشتركة الحقيقية والمفترضة.

نقائض

ولم تكن “الحرب العربية الباردة”، على قول قتيل أحد “القادة المؤسسين” في الجماعة الخمينية المسلحة، واستقرارها في صلب العلاقات الاقليمية العربية، إلا احد وجوه حرب اهلية عربية، بعضها اجتماعي، وبعضها الثاني قومي، وبعضها الثالث إيديولوجي… وفي ختام الفصل الناصري من الحرب هذه، عشية 11 حزيران 1967، حمل رئيس جمهورية مصر العربية الضربة القاسية على تموين الاسطول السادس بنفط عربي وعلى فتح أجواء عربية للطيران الاسرائيلي الغادر. ودعا صديقه وزميله “الاميركي” الى خلافته على الرئاسة. وكان الرجل نفسه نقل الحرب المشرقية الخليجية الى اليمن قبل نصف عقد، وارسل نحو ربع قواته المسلحة الى جوار القطب الخليجي، وأباح لها استعمال السلاح الكيماوي في بلاد البرابرة. وأثقل انقسام الحرب الباردة، وهي حرب أهلية عالمية على ما جرى القول، على الانقسامات الاخرى المستعرة بين الكتلتين. ولم يعدم الكتلة الرد على الاخرى بتقديم محور على آخر، ونَقْض قطب بآخر: فنُقض قطبُ الرجعية او المحافظة بالتقدم، والاسلام بالعروبة، والملكية بالجمهورية، والتبعية بالتحرر، والبورجوازية والاقطاع بالعمال والفلاحين والشعب، والامتيازات

بالعمل، وغيرها مثلها كثير. وأدخل التوسع والريع النفطيان نقيضين بارزين على القاموس هما الثراء (الفاحش) والفقر الناجم عن تبديد الثروة تحت أقدام الشركات المتعددة الجنسيات فالأسواق المالية فالعولمة وعجلاتها. وتخلفت عن هذه النقائض وأمثالها نقائض جديدة تناسب الاحوال الطارئة: السلفية والاسلام العادل، الارهاب والامن والاستقرار، الفوضى الخلاقة والسيادة الوطنية، الاحتلال الاجنبي والامن الاقليمي الذاتي…

وسوغ تضافرُ النقائض والأضداد هذه، وشبكها بعضها ببعض، امتداد الحرب الاهلية والعصبية وانتشار عدوى مثالها ورسمها في انحاء المجتمعات الوطنية ومرافقها وعلاقاتها. وأثر هذا في انشاء السلطة أثراً بالغاً. فأهل “الدولة” الجدد، في المشرق، استولوا على مقاليد القوة والعقد والحل من خارج موازين العلاقات الاجتماعية وكتلها. وعلى خلاف مزاعمهم، أو مزاعم الأحزاب السوفياتية وكتابها ومتعلميها فيهم، لم “يمثِّل” أهل الاستيلاء مصالح كتل اجتماعية معينة، ولم يحتكموا في تسلطهم على المرافق والادارات الى المصالح المفوضة أو كتلها. فحررت التأميمات، في اعقاب مصادرة الكتل والجماعات والاقوام والاسلاك على حقوقها السياسية الاساسية (في التجمع والتعبير والتحالف والمعارضة: في تنظيم الاحزاب وإصدار الصحف والتظاهر والاضراب والتقاضي…)، الكتل والجماعات من قوامها المادي والمعنوي. فألغت التأميمات والمصادرات والاحتكارات الوسائل التي تمكن (أي كانت لتمكن) النزاعات السياسية والاجتماعية الوطنية من الحلول في اجسام وقوة وجوارح، على قول الفقهاء. وأطلقت التأميمات والمصادرات يد المستولين، وهم يلبسون لباس دولة حديثة تملك قوة تصرف وتشريع مطلقة، في المصالح كلها من غير استثناء تقريباً، ومن غير قيد أو مساومة. فالقيود التي كان ربما وسعها الحد من تصرف “الطبقة الجديدة” المطلق، على قول منشق شيوعي مبكر، هي قيود التملك (الملكيات والتصرف بها) والتبادل (التجارة) والتعاقد المدنية.

أمة الدم

وأدت مصادرة القوة الاجتماعية على مواردها ومصادر دخلها، ومصادرة الافراد والجماعات على الحقوق السياسية العامة، والامران متصلان اتصالاً وثيقاً- الى سباحة الانظمة المشرقية في فراغ أو خواء سياسي واجتماعي لا قعر له. فاستحوذت الانظمة العسكرية والحزبية المشرقية وعلى مقدرات دولها ومجتمعاتها، وعوائد مرافقها، ومقاليد القوة والادارة والتشريع والاعلام. وانتصبت حاكمة بأمرها من غير انذار أو إلغاء أو أضداد. وحملت اقتسامَ السلطة ومصادرها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية على مساومة مدمرة انتحارية. ودعتها راديكاليتها الحزبية، وثورية متعلميها وكتبتها وإيديولوجييها، الى لفظ المساومة. والانظمة التي أبقت على بعض العوامل الاقتصادية، من ملكية وسائل انتاج وتجارة أو ريع، بمنأى من حيازتها أو إدارتها ورقابتها المباشرتين، حالت بين أصحابها وبين توسلهم الى التحصن في كتلة اجتماعية سياسية. وسرعان ما نقل الاستحواذ الاداري والجهازي الموارد من جماعات خاصة سافرة ومتفرقة الى جماعة خاصة مقنعة يوحدها ولاؤها واستحواذها واستعداؤها الجماعات الاخرى كلها. وحين اضطرت بعد دورة اقتصادية وسياسية طويلة، الى التخصيص أو الخصخصة حرصت على ذهاب الاصول الى خواصها وصنائعها أو الى رهطها الاقربين من غير مواربة. وسوّى الاستيلاء العسكري والحزبي هذا السياسةَ والحياة السياسية الوطنية، على شاكلة لا سابق لها. فهو (الاستيلاء) ملأ طيف السياسة المتبقي، بعد إطراح المصالح القريبة والتكتلات والاحلاف والمنازعات والاهواء، بمثال الامة الواحدة أو الشعب الواحد وخوائه.

فعلى المثال المزعوم هذا، ليست الامةُ (أو الشعبُ) المركبَ المؤتلف من أجزاء وسياقات، ومحصلة السياسة وعلاقاتها ومنازعاتها، وترعى تحصيله الموقت والمضطرب على الدوام بواسطة حياة سياسية متجددة تقوم على المنازعة المقيدة والمعارضة. فالامة على المثال المشرقي العروبي وديعة ناجزة وتامة استُودعها الحزب القائد وقائده وحاشية القائد وأذرعته. ولا تدين القيادة المستولية بمكانتها وامتيازاتها واطلاق يدها في الشؤون كلها لدراية مشهودة، أو سوابق تاريخية، أو تحالف تمثيلي جامع، أو لعوامل أخرى تقبل الاختبار والمناقشة والزيادة. فركن الاستيلاء المشرقي الاول هو قطع دابر عوامل التفريق أو التقسيم والتفاوت المفترضة، والقضاء على الجماعات التي تحرك هذه العوامل، وتتخذها مطية. وركنه الثاني هو تمهيد النتؤ والشواذ في صورة أو مثال سلطة صماء، قاهرة وجامعة، تسد على الخلافات منافذ التعبير، وتزعم لنفسها القوة على وأد المنازعات والخلافات قبل ولادتها، وتتولى التمهيد والتشذيب بالقوة والمراقبة والخوف. فصحبت الخطابة القومية العربية (و”السورية”) الوحدوية التي نسبت النازع القومي الى الفطرة التلقائية والاصيلة والى المصالح العميقة، سياسة بوليسية وقمعية عرفية، فعلاً وقانوناً. وليس في الامر تناقض، أو هو لا يتناقض. فالامة على المثال الذي صاغه عليه المستولون المشرقيون، من حزبيين مدرسيين وعسكريين، كيان دموي نَسبّي ومعنوي لا يتجزأ، يدمج الاوقات والازمان بعضها ببعض، ويجمع الافراد والاسماء والاهواء في سلسلة متصلة لا يتميز فيها التذكر، على قول ميشال عفلق وقبله ادمون رباط، من الادراك الحسي في الحاضر، ولا ما يصنع البشر على تقطع وتوصيل وتبديل، مما صنعه الله ، على قول حافظ الاسد في “ما بين سوريا ولبنان”، ولا تبديل له: شعب “واحد” في دولتين الى يوم الدين وربما بعده. وهذه الامة المندمجة والمتجانسة والراسخة والجوهرية توكل الى دولتها، أي الى الحزب القائد والواحد أي الى القائد الزعيم الاوحد، تطهيرها من أعلاق الفروق والتجزئة والحواجز الداخلية المتخلفة عن الانانيات القبلية والمحلية والطبقية والاجنبية الكومبرادورية، والمعملة تمزيقاً في جسد الامة وروحها. ولا ريب في ان التمثيل الابلغ على امراض الامة والعصبيات المتقوقعة التي تتناهشها، وتنهض سداً في وجه قوتها الجامعة والغالبة المتجسدة في دولتها وجيشها، إنما هو القبائل والعشائر والمشيخات والسلطنات “العربية” المتناحرة. وعلى شاكلتها وصورتها نشأت أو أنشئت الكنائس “الغربية” والمتحدة المَلَكية (على غرار الروم المَلَكيين الكاثوثوليك) فجمعت الارض والاوقاف شأن “الاقطاعية” من دم الفلاحين والمزارعين، وراكمت “القرش” على قول ميخائيل نعيمة، وسرقت الرغيف من الكادحين، شأن الرأسماليين…

وعلى هذا، فالعدو الذي ينبغي للدولة المشرقية والعروبية (“السورية”) القضاء عليه وسحقه هو “المخلفات” الاقطاعية والعشائرية والطائفية المترسبة من شبه جزيرة العرب وسلطناتها و”ملحقاتها”. وإذا تصدت التأميمات والمصادرات والاحتكارات “غير الرأسمالية”، على قول سوسلوف وبونوماريف السوفياتيين والبريجنيفيين، الى تقويض الاسس المادية للجماعات الرأسمالية والبورجوازية الرجعية، الوثيقة العلاقة بالكتلة العربية الخليجية وبالامبريالية والاستعمار من ورائها، فالتصدي للعصبيات الاهلية، العائلية والمحلية والمذهبية، وكتلها ولحماتها، أصعب من اضعاف المراتب والمكانات الريعية والطبقية المحدثة بما لا يقاس.

وفي القلب من العصبيات الاهلية هذه العصبية المذهبية القومية نسبة الى القوم الاميري والنَسبي العريض والمحلية. فشن أهل الاستيلاء الحزبي والعسكري حملات محمومة على “الطائفية”، ونسبوا اليها أوزار التقسيم والاستعمار والاستشراق والتصهين والكومبرادور، الى آخر لائحة أمراض متجددة. ومثلوا بلبنان على الاوزار والامراض المميتة، وبطوائفه المسيحية وموارنته، ومآسيهم وانهياراتهم، على مفاعيلها وآثارها. والتمثيل بلبنان، و”مارونيته السياسية” المزعومة ( فيما “المارونية” اجتماعية واهلية وتاريخية وثقافية في المرتبة الاولى)، على الكوارث التي تجرها الطائفية الجوهرية على الامة ودولتها وعلى أصحاب الكفاءات والحداثة السياسية والرأسمالية نفسها، كان القناع الذي تقنع به استيلاء نخب القوم العلوي الاقلي وحزبها وجيشها العقائديان على السلطة ومرافقها، وعلى المجتمع وهيئاته. وعادت نخبُ القوم العلوي الطائفيةَ (الواحدة والمشتركة على زعمها) المارونية في لبنان، على نحو ما عادت النخب العسكرية والاسلامية المصرية وتعادي طائفيةَ الاقباط، والنخب الصدامية في العراق طائفية الشيعة.

أنقاض

والانقلاب الظاهر من عداء الطائفة المارونية والضغينة عليها الى إصلاء الطائفة والطائفية السنيتين عدواناً لا يقل عنفاً اجرائياً عن الاول قد لا يكون ظرفياً، على خلاف ما يبدو للفحص الاول. فاستيلاء نخب القوم العلوي على الدولة والمجتمع السوريين، في سياقة تقويض النظام العربي القديم ( على معنى أعرج ومثلوم مستعار من الضدين الاوروبيين: النظام القديم المرتبي الطبقي وثورة المساواة الديموقراطية) من مصر الى العراق، استتب على انقاض الكثرة السنية ونخبها الحاكمة والمتملكة وعوامها “المؤمنين”. ولما افتقرت الكثرة السنية ونخبها الى حصون المجتمع المدني وخنادقه لتتحصن بها في وجه الاغتصاب العسكري والحزبي، أي العشائري والبيروقراطي في نهاية المطاف، التجأت الى حصون “المجتمع” الأهلي الحصينة وخنادقه العميقة، والوثيقة الاتصال بخنادق الامة، على معناها المتجدد و(بعض) القديم معاً، وبلدانها القريبة والبعيدة.

وحُملت على الحصون والخنادق الاهلية الطائفية، وهي قد تضطلع بصلات وصل في دوائر عريضة قدر اضطلاعها بأعمال قطع وتفريق في وجه السلطة المركزية الطاغية، الروابط الكثيرة التي شدت أجزاء الاهل والجاليات وكتل المصالح وسياسات الجماعات. فكانت ثمرة الاغتصاب العشائري والبيروقراطي المركزي في سوريا (وعلى نحو آخر في العراق ونحو ثالث في مصر) انكفاء الاهل السني المختلط والمتفرق إما الى المنظمة الاخوانية وبنيانها الحركي والمشرَع على متعلمي المدن وأهل مهنها الجامعية وحرفها وتجاراتها وأسرها المحافظة ومشرع على مراجعاتهم، وإما الى اسلام تعليمي ومسجدي وقيمي يؤول الاطوار والاحوال الطارئة والداهمة تأويلاً سكونياً ما وسعه الامر. وبين الاثنين او القطبين النموذجيين ألوان كثيرة ترعاها الطرق الصوفية وحلقات التدريس والشعائر. وصدقت قوة العصبيات الأهلية والمذهبية والقومية العرقية والقبلية المتجددة رعب “الطبقة العشائرية والبيروقراطية المستولية من مدافعة العصبيات العصية هذه سلطانها الطاغي والضعيف الأركان. وكانت “الطبقة” احتاطت لانتقال العصبيات من المدافعة الى المهاجمة بوسائل كثيرة مثل السيطرة على الحركات الفلسطينية، والإسهام في إنشاء الجماعة الخمينية المسلحة في لبنان وصوغ لبنان صوغاً جديداً في ضوء الإنشاء هذا، وتعريب مدافعة صدام حسين وحملها على حماية أنظمة الخليج من النظام المشرقي ومطامعه في الارض والنفط والنفوذ.

ولا شك في أن الثورة الايرانية (و) الخمينية قبل حرب الخليج الأولى، ثم الحرب الثانية (إخراج صدام حسين من الكويت) ثم الثالثة، وبين هاتين هجمات 11 أيلول 2001 وبروز “القاعدة” قوة إرهابية وعالمية، وبعدهما أزمة إيران النووية وذيول تصديها لأداء دور إقليمي محوري لا شك في أن الحوادث المتصلة هذه بلورت قطبية الهلال الخصيب (المشرق) الجزيرة (الخليج) الجغرافية السياسية على نحو لا سابق له نتوءاً وحدّة وشمولاً. فصبت في القطبية القديمة والمترجحة روافد كثيرة المصادر، ومتفاقمة التفاوت. وزادها احتداداً تآكل أنظمة الاستيلاء العشائرية والبيروقراطية، وتعاظم عوائد النفط والغاز وتعولم أدوارها في عالم كثير الأقطاب، وتقلص المحل الفلسطيني وإلحاقه بالقطب الايراني وأدواته الأهلية والجزئية، وانفجار بؤر النزاع الموضعية وشيوعها غداة انهيار القطب الشيوعي، وضعف أبنية السلطة والدولة مع تردي مشروعية الدولة الامة وتمثيلها شعوبها وتقلص مواردها وأجهزة رعايتها، الخ. وطوال العقود الستة المنصرمة، على أقرب تقدير، دمجت الجماعات المشرقية المستولية مشروعيتها التاريخية المفترضة في قطبية جغرافية سياسية مضمرة أو معلنة، وناطت أركان سياساتها في الداخل الوطني، وفي الدوائر الاقليمية والدولية، بهذا الدمج. وسوغت عنفها المنفجر والمستتر، في الداخل والخارج، بالقسمة التاريخية والاستراتيجية هذه. فلا غرو إذا حملت العصبية “الأسدية”، في أعقاب نيف وأربعين سنة من القبول والتصديق المروعين، ولادة حركة وطنية وعامية، مترجحة الديموقراطية والمدنية، على أعمال مجموعات إرهابية قاعدية تمولها دول الخليج العربية وتسلحها، وتدربها شركات أمنية من المرتزقة والمحترفين. فهذا أضعف النكران بعد الحظوة الطويلة السالفة.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى