دمشق الشرقية وغوطتها: لا شيء في الشوارع سوى الريح والغبار
صبر درويش
دمشق اليوم لا تشبه إسمها، ودمشق اليوم مقطعة الأوصال، ودمشق اليوم محتلة من قبل جنود غرباء لا يعرفون من الشام سوى اسمها.
ما إن تجتاز المدن المحررة المحيطة بالعاصمة، وتطأ قدمك أرض الحلم، أرض دمشق، حتى تصاب بالذهول. تبدو اللوحة عصية على الفهم؛ مئات الحواجز المنتشرة في كل زقاق وشارع، ولا يكاد المرء يعيد هويته إلى مكانها حتى يعود ويظهرها مرة اخرى، مرفقة بابتسامة بلهاء بات سكان المدينة معتادون عليها في وجه الجنود الغرباء. فهنا يكفي الاشتباه بك، كي تكون التهمة كافية لاختفائك. بينما المسير الذي لم يكن يستغرق سيراً على الأقدام سوى بضع دقائق، فهو في دمشق اليوم يستغرق ساعات طويلة؛ أما الغريب في الأمر هو ان الحياة هنا تسير على خير ما يرام!
إحباط عام يلف المدينة، شبان في مقتبل العمر، فشلوا في إيجاد طريقة مناسبة يشاركون بها نضالات شعبهم، مرددين سؤالهم العصي على الإجابة: ما العمل؟ ورعيل سياسي بات مختص بالكامل في أعمال الإغاثة وما يشبهها، مختصراً فعل الثورة بسلة غذائية على أهميتها؛ بينما القبضة الأمنية التي لم ترتخ قط ، فهي المسؤولة بدرجة أساسية عن غياب المبادرات، حيث أن المعتقلات لم تكف لحظةً عن ابتلاع الناشطين السياسيين، الذين بات أغلبهم اليوم في عداد المفقودين. دمشق اليوم محتلة على أيدي جنود غرباء، لا يعرفون من المدينة سوى اسمها.
على مقربة من العاصمة، ينتشر طوق “دمشق الشرقية”، حيث ينتصب سور هائل بين المكانين؛ هنا حيث تنتشر المدن المحررة، التي باتت تحت قبضة الثوار، وهنا حيث ينتشر الخراب المدوي، والذي لم يبق من الغوطة ما يشير إلى اسمها.
تدك المدن بالصواريخ، ويرقص قاسيون طرباً، يرحل ما تبقى من سكان، وتخلو المدن من ساكنيها، ولا شيء يبقى في الشوارع سوى الريح والغبار المتناثر. تشبه “دمشق الشرقية” اليوم برلين في آخر الحرب العالمية الثانية، حيث يطغى الرمادي على المشهد.
حصار يختصر كل المعادلة، فقادة الجريمة من عسكريي النظام قرروا أن من لم يمت بالقصف وأشباهه عليه أن يموت جوعاً. تنتشر الحواجز على المداخل الاساسية لدمشق الشرقية (حاجز على مدخل طريق بلدة المليحة، وآخر على مدخل دوما قرب مخيم الوافدين وعشرات الحواجز الاخرى على طول طريق المطار الدولي)، تمنع مرور أي شيء مرتبط بالحياة، حتى بات إدخال رغيف خبز يعد إنجازاً يحسب لصاحبه. هل نبالغ فيما نقول؟ في الحقيقة، لا نعكس من واقع الأمر سوى الجزء اليسير، إذ لا أحد يعلم كيف صمد سكان المكان هنا سوى الله نفسه. أكثر من تسعة أشهر ومدن وبلدات الغوطة من دون كهرباء او اتصالات أو مياه صالحة للشرب، وهو شيء يدعو إلى الذهول. بينما تأمين المواد الغذائية وخصوصاً بعد ان منع جنود الأسد إدخالها، فهو أشبه بمعركة حقيقية يخوضها الأهالي ليلاً نهاراًُ؛ أما المشفى الوحيد المتبقي في الغوطة (مشفى الفاتح)، والذي مازال يتمكن من إنجاز بعض المهام الطبية، فقد تعرض لقصف الطيران عشرات المرات، حتى كاد يصبح مصيدة للموت. أما البديل فهي المشافي الميدانية التي قد تشبه أي شيء بإستثناء المشافي! فهذه تنشأ غالباً في أقبية تحت الأرض، خوفاً من القصف الذي بات من المعلوم أنه يستهدفها تحديداً؛ تنتشر الأسرة في كل مكان، وتفرغ غرفة لإجراء العمليات الجراحية، وهذه الغرفة ليست غرفة كما يمكن أن نتخيل، بل عبارة عن عدة ستائر متصلة بطريقة ما تعزل مكان لا يتجاوز بضعة امتار مربعة، ويطلق عليها غرفة العمليات. هنا يبدأ الرعب.
تفتقر أغلب هذه المشافي الميدانية لكل شيء وتحديداً الكوادر المتخصصة، التي فر أغلبها بسبب القصف على الغوطة، بينما ينجز المهمة شبان تعلموا العمليات الإسعافية ميدانياً، ويضطر المسعفون في كثير من الأحيان إلى بتر أعضاء المصابين، لأنه الطريقة الأسهل لضمان حياتهم، بينما تجري العمليات الجراحية في ظروف تثير الشفقة. إذ لا تعقيم او تحكم بدرجة الحرارة، ولا تخديراً عاماً للمصاب، فقط تخدير موضعي، يجعل المصاب أثناء إجراء العملية يشتهي الموت أكثر من أي شيء آخر؛ بينما المضادات الحيوية واكياس الدم، فهي نادرة الوجود، لذا يترك الجرحى لقدرهم، حيث الله يعمل عمله في هذه الأصقاع، وتترك له مهمة الشفاء الجرحى.
تجري هذه الأحداث على مرأى من دمشق العاصمة، وعلى مسمع من سكانها “الآمنين”.
تغص أحياء العاصمة دمشق اليوم بآلاف الأسر الهاربة من موت مؤكد، تهرب الأسر خوفاً من الموت، لتقع فريسة سهلة بين براثن العوز والذل والمهانة؛ تحشر الأسر داخل منازل استأجرت على عجل، عشرات النساء والأطفال والعجز، غالباً ما يتواجدون في أماكن ضيقة تفتقد إلى الحد الأدنى من احتياجات الحياة اليومية، أسر اقتلعت من بيئاتها الطبيعية، وأجبرت على التواجد في مكان غريب على قلوبهم المثقلة بالوجع.
لا يفصل بين العاصمة ودمشق الشرقية سوى بضعة أمتار، بيد أن الشعور بالغربة لا يفارق قلوب من نزحوا؛ هنا تضطر أغلب النساء إلى العمل سعياً إلى إعالة أسرهم، كما يضطررن إلى القبول بأي عمل وتحت أي شرط، وكل ذلك للحفاظ على أغلى ما تملكه الأسرة السورية: كرامتها. تعمل النساء في مشاغل صغيرة، وفي محال الألبسة والأحذية وغيرها، بينما دخولهن لا تتجاوز الخمس وعشرين دولاراً شهرياً! وهو رقم يثير الأسى، بيد أنه كفيل بسد ثغرة في احتياجات الأسرة النازحة، ويشعرها بأنها ما تزال تملك حق الدفاع عن وجودها بعيداً عن نظرات الشفقة الموجعة.
وفي ظل هذا الترحال الموجع تبقى قلوب النازحين معلقة إلى الشرق، بينما أجسادهم المنهكة تضمحل حتى التلاشي في رحلة ستحفر في ذاكرة من عبروا في هذه المرحلة العصيبة من تاريخ بلدنا الذي نحب.
“كوني بردأً وسلاماً..”، يردد النازحون متوجهين إلى كل قذيفة ترسلها العاصمة نحو مدن المحيط الثائر، كوني برداً وسلاماً على رجالنا الصامدين هناك على مقربة منا، تردد العجائز والنساء المغدورات.
دمشق
المستقبل