دمشق.. مدينة على حافة الظلمة
باتريك كوبيرن *
تحس دمشق بأنها مدينة تتوقع الأسوأ ولا يبدو أنه سيكون له باب منفذ. فسعار الحرب ينتشر في طول البلاد وعرضها، ومن غير المرجح أن يوفر العاصمة. ويتحدث الثوار عن تصعيد الهجمات في المدينة، ومن الممكن فعل ذلك بسهولة في الأسابيع القليلة المقبلة.
وكنت قد أمضيت الأسبوع الماضي في دمشق، ويذكرني الجو السائد فيها بذلك الذي كان يخيم على بيروت في العام 1975 في مستهل الحرب الأهلية اللبنانية التي طالت 15 عاماً. ومرة تلو الأخرى في محادثات، عرض الناس بواقعية جملة الأشياء المزعجة المرجح جداً أن تحدث، لكن القليلين كانوا غير قادرين على طرح أفكار تستحق الإطراء عليها حول كيفية تجنب وقوع الكارثة.
قالت عضوة ملتزمة في المعارضة فيما كنا نجلس في دار مقهى في دمشق (كان كل شخص تحدثت معه بلا اسم، لأسباب واضحة). وأعربت عن اعتقادها بأن التواجد المكثف للقوات الأمنية هو فقط ما يوقف الاحتجاج الجماهيري الشعبي في الأيام التي تلت مجزرة الحولة.
وربما تكون على حق، لكنه ليس هناك الكثير مما يحدث من الناحية العملية. فقد كانت ثمة حركة مرور أقل في الشوارع، فيما تلاعبت كثيراً محطات التلفاز الأجنبية في رسائل شبكة التواصل الاجتماعي “يوتيوب” وهي تظهر التجار يقفلون أبواب حوانيتهم احتجاجاً على مجزرة الحولة.
لكن، وبعد التجول في السيارة حول دمشق، كان من الصعب الحكم على نجاح الإضراب نظراً لأن العديد من الحوانيت والمطاعم أقفلت أبوابها بسبب الافتقار إلى وجود سياح، وبسبب أثر العقوبات.
وربما يكون من الممكن أن يشرع الثوار في حملة تفجيرات واغتيالات مختارة بشكل سهل في دمشق. ولا يعتبر هذا التحرك دلالة على أنهم يتمتعون بالقوة العسكرية، لكنه سيكون من الأسهل بالنسبة لحركة تفتقر إلى الأسلحة والمقاتلين الذين ينطوون على خبرة، أن ينشروا عدم الاستقرار عبر هذه الوسائل. ويستطيع الثوار استخدام هذه الوسائل كقواعد في المدينة وحولها مثل دوما التي يسيطرون عليها بشكل أو بآخر.
ولا يعد أي شيء من هذا القبيل أخباراً طيبة بالنسبة لمواطني دمشق، نظراً لأن رد الحكومة والعقاب الجمعي سيكونان وحشيين ومستديمين. ولعل من المحزن أن نرى دمشق، وهي واحدة من أكثر مدن العالم جمالاً، على شفير أن تصبح ضحية لنفس النوع من الكراهية والخوف والتدمير التي زلزلت بيروت وبغداد وبلفاست على مدار الأعوام الخمسين الماضية.
وفي الأثناء، تتعمق النزعة الطائفية في البلد. ويتملك الخوف المسيحيين الذين يدركون تمام الإدراك ما حصل لإخوانهم في الدين في العراق بعد العام 2003. وغالباً ما ينحو أعضاء المعارضة في دمشق بلطف باللائمة في ارتفاع وتيرة المخاوف الطائفية على السلطات. وقال ناشط مسيحي في حقوق الإنسان: “إن الحكومة تحاول إخافة الناس”. وأضاف: “لم يسبق للناس هنا أن وقعوا في مشاكل مع بعضهم بعضا”. وأشار في هذا الصدد إلى أن الفرنسيين كانوا قد حاولوا عبثاً تأمين حكمهم الإمبريالي عبر استغلال الاختلافات الطائفية والدينية، لكنهم فشلوا في ذلك.
ولسوء طالع سورية، فقد تلقى الناشط دروس التاريخ على نحو خاطئ. ففي العام 1860، دهم مسلمون حي المسيحيين في دمشق، وذبحوا ما بين 5000 و10000 شخص، (واستعادت السلطات العثمانية النظام-ربما في تلميح هنا إلى الكيفية التي قد تردع من خلالها الحكومات الأخرى التواطؤ الرسمي في الجريمة الطائفية- من خلال إعدام حاكمها الخاص و56 من المسؤولين عنده لتقصيرهم في واجباتهم، وقتلهم المئات من جنودهم الذين اشتركوا في المجزرة).
وقد تكون الحكومة السورية تحاول إشعال أوار النزاع الطائفي من أجل ضمان أن تبقى الأقليات -العلويون والمسيحيون والدروز والأكراد- إلى جانبها. لكنها لم تخترع هذه الخلافات الطائفية، على الرغم من أن المعارضة ما فتئت تحاول التخفيف من حدتها. وقد سألت أحد الدبلوماسيين المقيمين منذ أمد في دمشق عن اعتقاده الخاص بصورة الأزمة السورية التي تعرض على العالم الخارجي عبر صور اليوتيوب التي ترسلها المعارضة، فأجاب بجفاف: “إنها خدعة”، وأضاف: “فمثلاً، عندما يظهرون مظاهرات معادية للحكومة، يحرر الناشطون دائماً القطعة التي يهتف فيها الجمهور عبارة: الموت للعلويين!”.
وربما تتوافر الحكومة على دائرة محورية تنطوي على استعداد للقتال حتى الموت. أما مدى كبرها، فلا أحد يعلم. وقد أعرب أحد متشددي المعارضة، والذي أفرج عنه من السجن مؤخراً، عن اعتقاده بأن أغلبية السوريين مستعدون لدفع أي ثمن نظير الإطاحة بالنظام. وقال إن “الشعب يريد حريته حتى لو وقع زلزال… فالأمور ستسوء أكثر، لكن النضال لن يطول، والأسد سيذهب”. ونفى أن تكون المعارضة عاقدة العزم على الانتقام قائلاً: “لقد كنت في حماة في العام 1982 عندما قتلت الحكومة 40000 شخص (الرقم الرسمي هو 10000) خلال 27 يوماً، لكن لا أحد يتطلع للانتقام اليوم”.
ومع أن صديقي في دمشق كان مخلصاً فيما يتعلق بافتقار الحكومة للدعم – 5 % من السوريين يحاربون من أجل النظام، ويدعمهم 10 % وحسب”- فقد بدا وكأنه مستنفد بواقع المرارة والغضب حيال المعاملة التي يتلقاها وأفراد عائلته الذين أمضوا في السجون في مجموعهم 65 عاما. وكان من الصعب تصديق أن الجرائم القديمة للنظام يمكن التسامح معها بالسهولة التي ادعاها.
في قلب الأزمة السورية، ثمة ثورة ضد الدولة البوليسية التي تديرها عائلة الأسد منذ 40 عاماً ونيف. لكنْ ثمة كفاحان متوازيان مستمران بتلك الصبغة، واللذان يعقدان هذه الانتفاضة الشعبية. أحدهما هو كفاح القوى العربية السنية بقيادة العربية السعودية وقطر ضد الشيعة. والثاني هو المواجهة التي تقودها الولايات المتحدة والعربية السعودية ضد إيران التي تعد سورية أهم حليف لها في العالم العربي. ويتردد راهناً أن الأسلحة تتدفق من العربية السعودية وتصل إلى المتمردين. ويقول المسؤولون العراقيون إن مقاتلي القاعدة في محافظة ديالى التي تقع إلى الشمال الشرقي من بغداد، والتي توسم بالصيت السيئ بسبب ذبح المزارعين والمسافرين الشيعة، قد توجهوا عائدين إلى سورية.
من المفهوم أن خداع الذات الذي يمارسه الناشطون في دمشق يواكب خداع ذات أقل تبريراً خارج البلد. وتعد الاقتراحات الأخيرة، مثل تأسيس “ممر إنساني آمن” في الجانب السوري من الحدود التركية، بمثابة وصفة للحرب (من شأنها أن تدخل الرعب إلى قلوب الأرمن في حلب، والأكراد في القامشلي، وهما المجتمعان اللذان ينطويان على ذكريات مظلمة إبان الحكم التركي). لا بل إن ضخ الأسلحة التي تدفع ثمنها دول خليجية، والتي تعد نوازعها طائفية ومعادية لإيران بشكل رئيسي، سيفاقم العنف وحسب.
والخلاصة، أن الرئيس بشار الأسد لن يذهب بهدوء، وهو يعتقد بأنه لا يترتب عليه الذهاب. وهنا تكمن المشكلة في قلب الأزمة السورية، حيث تتوافر روسيا على بعض الحق، وحيث يعد منتقدو الرئيس بوتين مخطئين. ويطلب من نظام الرئيس الأسد إصلاح نفسه، وفي نفس الوقت، أن يسقط سياسياً وأن يخرج من الوجود. وهذه الأهداف متناقضة. فلماذا يترتب على الحكومة السورية تعديل سلوكها إذا كان الهدف الحقيقي للضغط الدولي هو تغيير النظام؟
كان النظامان في العراق وليبيا قد تغيرا لأنهما هزما في الحرب على يد القوى الغربية (ما كان الثوار الليبيون ليصمدوا أسبوعاً لولا دعم الناتو). وإذا كانت القوى الغربية لن تذهب للحرب في سورية، ولم تستطع حمل تركيا على تنفيذ عملها القذر نيابة عنها، فسيكون عليها عندئذ أن تدفع لغاية الإصلاح واقتسام السلطة التي تترك نسخة معدلة من نظام الأسد في المكان. وسيكون هذا صعباً لأن يعترض عليه الروس، وسيبدد مخاوف إيران. أما البديل فسيكون حرباً طويلة تمزق سورية إرباً إربا.
كاونتربنتش
ترجمة: عبد الرحمن الحسيني
*هو مؤلف كتاب “مقتدى: مقتدى الصدر، الانبعاث الشيعي والنضال من أجل العراق.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Damascus Sweats Fear from Every Pore
City on the Edge of Darkness