صفحات العالم

عن التقارب السعودي التركي ودور تركيا في الشأن السوري –مجموعة مقالات-

تركيا تستسلم بعد خسارتها «درة التاج العثماني»؟/ جورج سمعان

خطا الرئيس رجب طيب أردوغان خطوات لافتة في الأيام الأخيرة لعله يعوض ما أصاب خططه الاستراتيجية، خصوصاً سياسته في سورية. عزز وجود قواته في شمال العراق. وقرر إنشاء قاعدة عسكرية في قطر. وأقام مع المملكة العربية السعودية «مجلس تعاون استراتيجي»، بعدما رحّب بقيام التحالف الإسلامي العسكري. وعاود البحث مع إسرائيل لعله يستعيد ما كان من حرارة في العلاقات معها. وطرق أبواب أوروبا مجدداً عبر موجات اللاجئين. هذا الانتقال من موقع إلى آخر فرضه المشهد الجديد في الإقليم وتداعيات الأزمة السورية. شركاء تركيا في حلف الـ «ناتو»، والولايات المتحدة، تحديداً لا يلتقون وسياستها من سنوات. لذلك، لم يجاروها في الدعوة إلى إقامة منطقة آمنة شمال سورية تمكّنها من ممارسة نفوذ أقوى على دمشق. ولم يستجيبوا دعوتها إلى اعتبار «وحدات حماية الشعب» الكردية قوات إرهابية. لأنهم ببساطة لا يرغبون في الانزلاق إلى مواجهة مباشرة مع نظام الرئيس بشار الأسد وقواته. وهم يحتاجون إلى قوة كردية منظمة في الحرب على «داعش»، فضلاً عن اعتبارات أخرى. وحتى عندما لجأت إليهم بعد إسقاط قواتها طائرة «سوخوي» روسية، لم يظهروا حماسة كبيرة. لا يرغبون في مزيد من التوتر مع موسكو. اكتفوا بإعلان تضامنهم، بل أبدوا حرصاً على التقارب مع الرئيس فلاديمير بوتين، إثر العمليات الإرهابية في باريس وإسقاط الطائرة السياحية الروسية فوق سيناء.

غلّب شركاء أردوغان مصالحهم أولاً وأخيراً. كما فعل هو تماماً عندما تردد أو أحجم عن المشاركة في عمليات التحالف الدولي ضد تنظيم «الدولة الإسلامية». وقبل ذلك عندما تهرب من التزام العقوبات التي فرضها الأميركيون والأوروبيون على موسكو رداً على ضمها شبه جزيرة القرم وتدخلها في أوكرانيا. وعندما خرق مراراً العقوبات والحصار الاقتصادي الذي فرض على إيران قبل التوصل إلى اتفاق على تسوية برنامجها النووي. كان هاجسه مواصلة نهج حزبه في الانفتاح شرقاً، على رغم أن انفجار الأزمة في سورية أقفل بوجهه الباب نحو العالم العربي. مثلما عكّرت مواقفه من العواصف التي هبت على عدد من الدول العربية، علاقاته مع كثير من هذه الدول. لذا، لم يكن حظ «الربيع التركي» في الإقليم أفضل حالاً من مآلات «الربيع العربي» الذي ساهم في تقويض استراتيجية «حزب العدالة والتنمية» ورهانه على الأحزاب الإسلامية وعلى رأسها «الإخوان المسلمون»، لئلا نشير إلى التحديات الداخلية التي يواجهها الحزب في الداخل التركي، وأخطرها عودة الحرب مع حزب العمال الكردي بعد هدنة واعدة لم تعمر طويلاً.

حققت تركيا الكثير في السنوات السمان، قبل التحولات التي شهدها الإقليم في السنوات الخمس الماضية. وهي تسعى اليوم إلى الحد من خسائرها في السنوات العجاف. وتحاول إرساء استراتيجية جديدة فرضتها هذه التحولات. وعلى رأسها انهيار النظام الإقليمي بفعل انهيار عدد من الأنظمة العربية. وهو ما ألحق ضرراً واسعاً بعلاقات أنقرة مع معظم العواصم العربية، نظراً إلى وقوفها مع قوى الإسلام السياسي، خصوصاً في مصر. ومن التحولات أيضاً تعزيز إيران مواقعها في المنطقة، ثم تحولها شريكاً لا يمكن تجاهله بعد طي صفحة برنامجها النووي وسنوات من التوتر والتهديدات المتبادلة مع الغرب. وكذلك «هجوم» روسيا على الشرق العربي من البوابة السورية التي كانت أنقرة توسلتها مدخلاً إلى هذا الشرق قبل اندلاع أزماته. ثم قيام «دولة الخلافة» التي أسقطت حدود «سايكس – بيكو» واحتلالها البند الأول في الأجندة الدولية بعد تجاوز إرهابها ما كان لتنظيم «القاعدة» قبل سنوات… وقبل هذا وذاك الانكفاء الأميركي والتنافس على ملء الفراغ الذي سيخلفه. وعودة الحرارة إلى علاقات موسكو بالقاهرة وبدول خليجية وعربية أخرى.

قبل سنوات، كان الحديث عن نجاح حزب الرئيس أردوغان في تحقيق اختراق واسع على الجبهة الشرقية بعيداً من أوروبا. قدمت تركيا نفسها جسر عبور بين الشرق والغرب. سعت إلى أداء دور في الجهود الدولية لتسوية الملف النووي الإيراني، والقضية الفلسطينية، والمفاوضات بين سورية وإسرائيل. وتقدمت في مناطق القوقاز والبلقان على وقع انهيار الاتحاد السوفياتي. وفتحت لها علاقاتها مع دمشق الأبواب واسعة للعودة إلى بلاد الشام وصولاً إلى دول الخليج التي رأت إليها قوة يمكن الاستناد إليها في الصراع مع الجمهورية الإسلامية. وسعت تركيا أيضاً إلى طرح نفسها مركز مرور لصادرات الغاز من إيران وآسيا الوسطى إلى أوروبا. لذلك، حذرت من استخدام القوة ضد إيران، على رغم معارضتها سعي الأخيرة إلى التحول قوة نووية. ووقفت بشدة في وجه تل أبيب وعدوانها وحصارها على قطاع غزة. ووسعت شراكتها التجارية مع روسيا… والحديث طويل عن «العصر الذهبي» لسياسة «صفر مشاكل» التي وفرت لأنقرة حضوراً على امتداد خريطة واسعة من كوسوفو إلى العراق وأفغانستان، ومن الهلال الخصيب إلى اليمن والصومال والشمال الأفريقي حيث كانت نجم القمة العربية الأخيرة التي استضافها معمر القذافي في سرت قبل إطاحته.

لم تعد تركيا اليوم وحدها في المنطقة. الدب الروسي ندّ لا يستهان به وغريم تاريخي. غضت الطرف عن ضمه القرم الذي شنت السلطنة العثمانية حروباً للسيطرة عليه جسراً إلى دول البلقان وأوروبا والسيطرة على مضائق البحور الداخلية وخلجانها. لكن تدخله في سورية نزع منها كثيراً من المفاتيح. يكفي أنه يعزز بقاء الرئيس الأسد الذي طالما نادت ولا تزال بوجوب تنحيه. ولا شك في أن إسقاط طائرة «السوخوي» قدم إلى الرئيس بوتين فرصة ثمينة ليحاصر دورها وحضورها في بلاد الشام، بل ذهب بعيداً في محاصرتها ليس من الجنوب فحسب، بل من الشرق حيث عزز وجوده في أرمينيا وبحر قزوين. وأدت العقوبات الاقتصادية التي اتخذها الكرملين إلى خسارة أنقرة أهم شريك تجاري. ووجد الرئيس أردوغان بين ليلة وضحاها أنه لم يعد ينافس إيران وحدها في بلاد الشام، بل بات في صراع محموم مع روسيا أيضاً. لذلك، لم يكن أمامه بعد إقفال حدود سورية بوجهه سوى التقدم نحو العراق. لم يعر الأعراف الدولية وأدواتها أي اعتبار، كما كان يفعل في السنوات السمان. شعر بأن خصومه يتقدمون عليه ميدانياً من دون أي اهتمام بهذه الأعراف والأدوات. هكذا، فعلت إيران طوال عقود ثلاثة، خصوصاً عندما اشتد الحصار الدولي عليها في العقد الأخير. توسلت لتوكيد حضورها على مسرح الأحداث ومواجهة عزلتها، التحالف المذهبي والأيديولوجي مع قوى وجماعات، من أفغانستان إلى شاطئ المتوسط، مروراً بالعراق وسورية ولبنان، وحتى قطاع غزة واليمن. ورفعت شعار الدفاع عن الشيعة أين ما كانوا خارج حدودها. تماماً كما فعل ويفعل الرئيس بوتين لتبرير تدخله في أوكرانيا، وقبلها في أوسيتيا وأبخازيا، تارة لحماية الأمن القومي لبلاده وتارة لحماية مواطنين روس هنا وهناك!

صبرت تركيا طويلاً على ما عدّته مبالغة إيران في التمدد نحو المنطقة العربية. صبرت للحفاظ على مصالحها الاقتصادية مع الجمهورية الإسلامية. ونبهت غريمتها إلى التخلي عن العنصر المذهبي رافعة اساسية في ساحة السباق على الإقليم. وبعد إقفال روسيا الحدود السورية الشمالية، لم يكن أمام الرئيس أردوغان سوى التوجه نحو العراق، متوسلاً الرافعة السنّية والعلاقة المتينة مع رئيس كردستان. فهو لن يقبل بأي حال بأن تكون بلاده بمعزل عما يرسم للهلال الخصيب. وإذا كانت الولايات المتحدة، لم تقف الموقف المطلوب لمواجهة الطموحات الإيرانية في الإقليم كله، وتركت لموسكو «حرية التصرف» في سورية كما يحلو لها، فإن أنقرة لا يمكن أن تقبل بإقفال العالم العربي في وجهها. لا يمكن أن تسكت على تمدد قوات «وحدات حماية الشعب» الكردية التي تعدها من أذرع حزب العمال الكردستاني. لا يمكنها أن تقدم أي خطر، سواء جاء من «داعش» أو غيره، على الخطر الكردي.

في حمأة الصراع على التركة العربية، لا تجد تركيا في مواجهة روسيا وإيران، بديلاً من انضمامها إلى التحالف العسكري الإسلامي. وإقامة قاعدة عسكرية «متقدمة» في قطر على تخوم الخليج بعد حضورها في كردستان. وقيام مجلس تنسيق استراتيجي مع السعودية. وإضافة إلى ما يمكن أن تستثمر بفضل علاقاتها مع فصائل إسلامية وجماعات «الإخوان» في المشرق كله، لا يمكن تجاهل علاقاتها التاريخية والإتنية بكثير من بلدان آسيا الوسطى التي تعول عليها أيضاً كل من طهران وموسكو. يبدو من الصعب تصور أنقرة وقد استسلمت أو انسحبت من حلبة التنافس. يبقى السؤال هل تمكّنها شبكة علاقاتها الجديدة من استعادة دورها في سورية، «درة التاج العثماني» كما كان السلاطين يسمونها؟ لا شك في أن ثمة بوابات أخرى غير حلب وإدلب، وطرقاً كثيرة تؤدي إلى بلاد الشام!

الحياة

 

 

 

انعطافة مأساوية أخرى في مسار المسألة الكردية التركية/ د. بشير موسى نافع

يعتبر حزب الشعوب الديمقراطي، الذي تراجعت حظوظه بصورة ملموسة في الانتخابات البرلمانية التركية الأخيرة، وثيق الصلة بحزب العمال الكردستاني، الذي يخوض حرباً دموية ضد الدولة التركية منذ ثمانينات القرن الماضي. ولكن، وبخلاف تبني العمال الكردستاني العمل المسلح، يقدم الشعوب الديمقراطي نفسه باعتباره حزباً ديمقراطياً، يخوض نضالاً سياسياً من أجل تعزيز الحريات، ليس للأكراد وحسب، بل ولعموم المواطنين الأتراك. على أن توجهات الحزب الحقيقية، وصلاته الوثيقة بالعمال الكردستاني، تخونه من وقت إلى آخر. أحد هذه اللحظات الكاشفة كان مطالبة رئيس الحزب المشارك، «صلاح الدين تمرتاش»، مؤخراً بالحكم الذاتي لمناطق الأغلبية الكردية. وبالرغم من أن رئيسة الحزب الأخرى حاولت تلطيف ما يستبطنه تصريح تمرتاش من دعوة إلى تقسيم البلاد، بقولها إن الحزب يطالب بالحكم الذاتي لكافة المناطق التركية، لم يمر التصريح بدون ردود فعل واسعة النطاق، بما في ذلك من أوساط يسارية وليبرالية أظهرت في الشهور القليلة الماضية دعماً وتأييداً لحزب الشعوب الديمقراطي. رئيس الجمهورية التركية، «رجب طيب إردوغان»، وصف مطلب الحكم الذاتي بالخيانة العظمى. ولكن، وبالرغم من أن البعض قد يجد في قول «إردوغان» أقصى ما يمكن أن يقال، فإن دعوة تمرتاش تستدعي اهتماماً خاصاً.

جاء تصريح الحكم الذاتي في ظل تصاعد عمليات التمرد المسلحة لحزب العمال الكردستاني في بلدات وأحياء مدن تركية ذات اغلبية كردية، مما استدعى فرض حالة منع التجول في هذه البلدات والاحياء لعدة أسابيع، وتحولها إلى ساحة اشتباكات مسلحة مع أجهزة الدولة الأمنية والعسكرية. كان من المفترض أن يعلن تمرتاش وحزبه رفض مثل هذه النشاطات المسلحة في وسط المدنيين، والعمل على وضع نهاية لعودة العمال الكردستاني غير المبررة تماماً للعمل المسلح منذ صيف العام الماضي. وليس ثمة شك أن مراجعة نهج العمل المسلح أصبحت أكثر إلحاحاً بعد التراجع الملموس في التأييد الذي حازه حزب الشعوب الديمقراطي في انتخابات 1 نوفمبر/تشرين ثان عن النتائج التي حققها في انتخابات 7 حزيران/يونيو. ولكن مؤشراً ولو صغيراً على هكذا مراجعة لم يظهر بعد.

ما ظهر كان قيام السيد تمرتاش بزيارة لموسكو، واجتماعه بوزير الخارجية الروسي، ومن ثم إعلانه ما يشبه الإدانة لحادثة إسقاط الطائرة الروسية، التي انتهكت المجال الجوي التركي يوم 23 تشرين ثان/نوفمبر الماضي. وبالنظر إلى أن موقف الحكومة والجيش التركيين من الحادثة وجد تفهماً ودعماً واسع النطاق من الشعب وأحزاب المعارضة التركية، يبدو أن «صلاح الدين تمرتاش» اختار التفرد في تأييده لموسكو. تركيا، بالطبع، دولة ديمقراطية، تعددية، ومن حق الشعوب الديمقراطي تبني سياسة متفردة حتى فيما يتعلق بمسألة قومية كبيرة، مثل الأزمة التركية – الروسية. ولكن، وإن وضعت زيارة موسكو إلى جانب مواقف الحزب الأخرى، بما في ذلك التمرد المسلح في جنوب ـ شرقي البلاد والدعوة للحكم الذاتي، يبدو أن المزاج السياسي لقيادة الشعوب الديمقراطي بات مزاجاً انقسامياً.

ثمة نزعة مركزية واضحة في بنية وعقل الدولة التركية، تعود إلى لحظة ولادة الدولة الجمهورية. لم تعترف الدولة الجمهورية بالتعددية الثقافية والإثنية في البلاد، وأسست لاجتماع سياسي يقوم على تصور قومي، تركي، علماني مصمت. ولم تتردد الدولة الجمهورية في فرض هذا التصور لتركيا وشعبها بالقوة، كلما تطلب الأمر ذلك.

بعض من جوانب أيديولوجية الدولة الجمهورية يمكن فهمه، لارتباطه الوثيق بالسياق الذي أطلق حرب الاستقلال؛ وبعض آخر يتعلق بتوجهات القادة الأوائل للجمهورية، سيما رئيسها الأول «مصطفى كمال». ولدت تركيا الجمهورية، كما هو معروف، من انفجار الحرب العالمية الأولى الهائل، والهزيمة المؤلمة للسلطنة العثمانية.

بمعنى أن تركيا الحديثة لم تكن سوى اقتطاع من إمبراطورية أوسع بكثير، فقد معظمها بفعل آلة الحرب، وليس بالتراضي والتفاوض. أكثر من ذلك، فإن ما تبقى من السلطنة العثمانية، بعد توقيع هدنة «مدروس» في نهاية 1918، سرعان ما تحول هو الآخر إلى غنيمة للدول المتحالفة، التي قسمته إلى مناطق نفوذ واحتلال. وكان الغزو اليوناني لمنطقة إزمير في غرب الأناضول، الذي شجعت عليه بريطانيا وحلفاؤها الآخرون، التطور الأقسى في سياسة الغنيمة.

حققت حرب الاستقلال، التي استمرت من 1919 إلى 1923، حرية واستقلال ما تبقى من السلطنة العثمانية؛ وهي البلاد التي أصبحت تعرف باسم الجمهورية التركية. ولكن خوفاً عميقاً، استقر في الوعي الجمعي للأتراك من أن البلاد عرضة للخطر، وأن قوى ما تستهدفها بالتقسيم. ولأن مرور السنوات لم يغير كثيراً في هذا الشعور التركي الجمعي، فلا يجب أن يكون هناك شك في أن الأغلبية التركية ستقاتل ضد أية محاولة لتقسيم البلاد، ومهما بلغت التكاليف.

خلال السنوات العشر الماضية، تبنت حكومة العدالة والتنمية سياسة اعتراف تدريجي بالتعددية الثقافية والأثنية في البلاد؛ وهي السياسة التي بدأت مع «تورغوت أوزال» في الثمانينات ومطلع التسعينات، بدون أن تحقق تقدماً ملموساً بعد وفاته.

وربما يمكن القول أن هذه السياسة كانت الركيزة التي استند إليها مشروع المصالحة والتوافق مع القوميين الأكراد، داخل العمال الكردستاني وامتداداته. القوميون الأكراد ، هم أيضاً دخلوا إلى مشروع المصالحة بتخليهم عن دعوات الانقسام، والقبول بحل للمسألة الكردية في تركيا على أساس من وحدة البلاد والحصول على حقوق مدنية وثقافية واقتصادية للأكراد.

في صيف العام الماضي، نقض حزب العمال الكردستاني الهدنة القائمة منذ عامين مع القوات التركية، وعاد إلى لغة التهديد والخطاب القومي الراديكالي. والواضح أن قيادات حزب الشعوب الديمقراطي تلحق الآن ببارونات العمال الكردستاني في مرتفعات وكهوف جبال قنديل. السبب الرئيسي خلف تراجع العمال الكردستاني عن مشروع المصالحة وتبلور خطاب انقسامي جديد يتصل بالعودة المتسارعة للقوى الدولية إلى الجوار الإقليمي.

بتحالف القوميين الأكراد مع الولايات المتحدة في الحرب ضد داعش في سوريا والعراق، ومحاولة روسيا استخدام الورقة الكردية ضد أنقره، ولدت لدى قيادات العمال الكردستاني وامتداداته أوهام حول تبلور ظرف دولي وإقليمي سانح للمطالبة بتقسيم تركيا، عبر جسر أولي من الحكم الذاتي.

مشكلة قيادات العمال الكردستاني والشعوب الديمقراطي أنها لا تريد أن ترى أن هذا الوضع الدولي – الإقليمي مؤقت جداً، وأن واشنطن ليست بصدد عقد صفقة إقليمية مع القوميين الأكراد حتى وإن وجدت فيهم حليفاً مناسباً ضد داعش. وما لا تريد هذه القيادات أن تراه أيضاً أنها لا تستطيع الحديث باسم الأغلبية الكردية في تركيا، وأن حجم المعارضين لها في صفوف الأكراد لا يقل عن حجم معارضيها الأتراك. ولدت دول المشرق في أعقاب الحرب الأولى من عملية انقسام وتشظ لم يكن لها من مبرر إلا مصالح الإمبرياليات الأوروبية. والواضح أن مزيداً من الانقسام والتشظي لن ينتج إلا الحروب الأهلية والآلام. ما يحتاجه المشرق اليوم، للخروج من أزماته المستحكمة، هو كسر حدود نظام ما بعد الحرب الأولى، وإقامة كيانات تعددية، كبرى، وحاضنة، لا المزيد من الانقسام والتشظي.

القدس العربي

 

 

التقارب السعودي ـ التركي: الخلفيات التاريخية والسياق الإقليمي/ مصطفى اللباد

زار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان السعودية الأسبوع الماضي لمدة يومين التقى خلالهما الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز، في زيارة، هي الثالثة من نوعها للسعودية أثناء العام 2015. في الزيارة أعلن الطرفان عن قيام «مجلس تعاون استراتيجي» لتوسيع التعاون العسكري والاستثماري والاقتصادي بينهما، حسبما صرح وزير الخارجية السعودي عادل الجبير. وتشي زيارات أردوغان المتكررة إلى السعودية في السنة الأخيرة بتصاعد وتيرة التعاون والتنسيق بين البلدين في الملفات الإقليمية وبالأخص الأزمة السورية، بالرغم من اختلاف منظومة القيم التي يعلنها نظاما الحكم في كل من تركيا والسعودية. وكانت العلاقات الثنائية التركية – السعودية قد تدهورت في العامين 2013 و2014 بعد تنديد الملك السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز بمساعدة أردوغان لجماعة «الإخوان المسلمين» في مصر، إلا أن وصول الملك سلمان إلى العرش السعودي في مطلع العام 2015 بدَّل أولويات المملكة من «مكافحة الإرهاب» إلى تشكيل «تحالف سني كبير» يضم تركيا لمواجهة إيران وتحالفاتها الإقليمية (مصطفى اللباد: السفير جوهر التغيير المحتمل في السياسة الإقليمية السعودية 2/2/2015).

خلفية تاريخية

سيطرت الدولة العثمانية على الحجاز لمدة أربعة قرون، وأُطلق على السلطان العثماني لقب «خادم الحرمين الشريفين» كمصدر للشرعية، حتى عاد الملك السعودي الراحل فهد بن عبد العزيز واستخدمه لنفسه ومن بعده ملوك السعودية حتى اليوم. وتمرد السعوديون على الأتراك طيلة الفترة الواقعة من نهاية القرن الثامن عشر وحتى العام 1929، حيث اعترفت الجمهورية التركية بسيطرة آل سعود على نجد والحجاز. وخلال العمليات العسكرية العثمانية المتعاقبة ضد السعوديين، فقد أعدم العديد من القادة السعوديين في اسطنبول. وبالرغم من انضواء البلدين في التحالف الغربي، إلا أن العلاقات الثنائية بينهما لم تتطور بسبب اختلاف تركيبة ونظم الحكم والقيم السياسية التي يمثلها كلاهما (علمانية أتاتوركية في تركيا مقابل ملكية مطلقة في السعودية) ورواسب الماضي العالقة. وتبدل الأمر قليلاً في عصر تورغوت أوزال، حيث توجهت تركيا أكثر نحو الشرق الأوسط اقتصادياً، للإفادة من المزية الاقتصادية النسبية التي تملكها أنقره حيال الدول العربية، ولتأمين وارداتها من النفط. بعدها زار الرئيس التركي كنعان إفرين السعودية العام 1984، وفي العام 1985 زارها أيضاً رئيس الوزراء تورغوت أوزال، فاتحين الطريق أمام شركات الإعمار التركية للعمل في المملكة وسوقها الواعدة. وبعدهما، زار رئيس الوزراء سليمان ديميريل المملكة العام 1993 على خلفيات اقتصادية أيضاً. وتغيرت الديناميكيات التي تتحكم في العلاقات الثنائية التركية – السعودية بعد وصول «حزب العدالة والتنمية» إلى السلطة في تركيا العام 2002، بسبب التخفيف من الطابع العلماني – العسكري لنظام الحكم في تركيا ورغبة الحكومة الجديدة في التعاطي بفعالية أكثر مع قضايا الشرق الأوسط. من وقتها أرست السعودية سياساتها حيال تركيا على قاعدة الاستفادة من «ثقلها السني» في مواجهة غريمتها الإقليمية إيران، خصوصاً بعد احتلال العراق عام 2003. بالمقابل استمرت الرؤية التركية للسعودية باعتبارها شريكاً تجارياً مربحاً كأساس للعلاقات الثنائية، مع توسيعها سياسياً بهدف تمتين ذلك الأساس الاقتصادي المربح. على ذلك، تأسس «مجلس الأعمال التركي – السعودي» في عام احتلال العراق، و «صندوق الاستثمار التركي – السعودي» العام 2005، ثم تتوج التقارب بزيارة الملك السعودي الراحل إلى تركيا مرتين عامي 2006 و2007 بعد أربعين عاماً من زيارة الملك السعودي الراحل فيصل الخاطفة إلى تركيا العام 1966. تأرجح الأمل السعودي في اجتذاب تركيا لمعسكرها الإقليمي صعوداً وهبوطاً، بسبب التعاون الاقتصادي الكبير بين تركيا وإيران وعدم رغبة أنقره في القطع مع جارتها إيران لاعتبارات اقتصادية وسياسية واستراتيجية. لذلك لم يتحقق الرهان السعودي على تركيا في الفترة ما بين وصول «حزب العدالة والتنمية» إلى السلطة عام 2002 وحتى «الربيع العربي» عام 2011، بالرغم من التحسن المطرد في التبادل التجاري والاستثماري بين الرياض وأنقره. بمعنى آخر، استفادت تركيا اقتصادياً خلال تلك الفترة من السعودية بشكل يفوق المزايا السياسية التي حققتها الأخيرة من علاقتها مع تركيا.

تركيا والسعودية و «الربيع العربي»

استعجلت تركيا فرصتها في القيادة الإقليمية مع اندلاع «الربيع العربي»، فابتعدت قليلاً عن السعودية وانحازت إلى جماعة «الإخوان المسلمين» التي بدت حصاناً رابحاً في الموجة الأولى من ذلك الربيع في تونس ومصر وليبيا. من ناحيتها، دعمت السعودية جماعة «الإخوان المسلمين» مادياً ومعنوياً لعقود طويلة في مواجهة نظم الحكم الشمولية بغرض تعزيز شرعيتها الإسلامية؛ لكن الأمر اختلف مع وصول الجماعة إلى الحكم في تونس ومصر، لأن الشرعية ذاتها أصبحت محلاً للتنازع بين المملكة والجماعة. ومع بروز تحالف تركي ـ «إخواني» كان الأمر مقلقاً للسعودية، من بروز تحالف جديد يهمش أدوارها الإقليمية. ساعتها كان الافتراق في العلاقات بين الرياض وأنقره وتنديد الملك الراحل عبد الله بدعم أردوغان للجماعة وانحيازه الواضح للحكم المصري الجديد منذ تموز 2013. لكن الأمر عاد وتبدل بعد انتقال السلطة في السعودية إلى الملك سلمان، إذ تغيرت الأولويات السعودية من «مواجهة الإرهاب» إلى مواجهة ايران. كما أن اشتعال المواجهة الإقليمية بين السعودية وإيران على الأرض السورية جعل تركيا من جديد شريكاً مرغوباً للسعودية، بحيث تحاول المملكة ترميم العلاقات التركية – المصرية لتشكيل تحالف إقليمي كبير يضم تركيا، للاستفادة من إطلالة تركيا الجغرافية على كل من سوريا والعراق في تضييق الخناق على إيران وتحالفاتها الإقليمية.

التقارب التركي ـ السعودي وسياقه

تجبر التطورات الإقليمية كل من الرياض وأنقره على إعادة حساباتهما حيال بعضهما البعض، بحيث يخدم التقارب متسارع الوتيرة أهداف الطرفين التي تتقاطع في الملفين السوري والعراقي. من ناحيته، يأتي التقارب مع الرياض كدولة وازنة في المنطقة مواتياً لحسابات أردوغان، الذي يعاني من عزلة إقليمية متزايدة بعد فشل رهاناته على «الربيع العربي». كما أن المواجهة الروسية – التركية في سوريا وانتعاش الطموحات الكردية فيها، يثير المخاوف في أنقره من خروجها خاسرة من حلبة الصراع السورية. وبالإضافة إلى ذلك تحتاج تركيا إلى غطاء عربي لعملياتها العسكرية المحتملة في سوريا في مواجهة الأكراد على طول نهر الفرات، وهو ما يمكن للسعودية ودول الخليج العربية تأمينه. ولا تغيب عن حسابات أردوغان أن الإيداعات المالية السعودية قصيرة الآجل في المصارف التركية منذ الأزمة السعودية – التركية حول مصر وحتى الآن، تساهم إلى حد كبير في كبح التراجع في سعر العملة الوطنية التركية الليرة أمام العملات الأجنبية، وتعزز بالتالي الرصيد الشعبي لأردوغان داخل تركيا. علاوة على كل ذلك يحتاج الاقتصاد التركي إلى تأمين حصته في الأسواق السعودية والخليجية الواعدة، وهو ما يسهله التقارب مع الرياض. من جهتها، تعلم السعودية أن الوقت الحالي هو الأنسب لاستثمار ضائقة أردوغان الإقليمية ومواجهته مع روسيا عبر فرد الغطاء العربي لتدخله العسكري في سوريا ومد الدعم الاقتصادي للشركات التركية؛ بغية استقطاب تركيا إلى «تحالف سني كبير» يواجه إيران وبالأخص حليفها النظام السوري. وفي هذا الصدد تراهن السعودية على تليين موقف أنقره والقاهرة في إحداث تقارب بينهما، لأجل تسييد تناقض رئيسي في المنطقة يقوم على معادلة: إيران وتحالفاتها في مواجهة باقي دول المنطقة، وهو ما يجعل السعودية مرتاحة أكثر في مواجهتها الإيرانية. تعلم السعودية أيضاً أن تكرار سابقة الفترة بين عامي 2002-2010 والتي أخذ فيها أردوغان اقتصادياً أكثر مما أعطى السعودية سياسياً غير مرجحة الحدوث مرة أخرى، بسبب تغير الديناميكيات الإقليمية والضيق النسبي لهامش المناورة الأردوغانية على محور السعودية – إيران حالياً مقارنة بالفترة المذكورة.

الخلاصة

بالرغم من التباين بين أنماط الحكم في الرياض وأنقره، واختلاف نظرة الطرفين إلى مستقبل سوريا ما بعد بشار الأسد، والتنافس التاريخي بينهما على قيادة العالم الإسلامي السني، يبدو أن الإيقاع الإقليمي سيتحكم بصعود وهبوط العلاقات التركية – السعودية في المدى المنظور. ويعني تغليب الاعتبار الإقليمي في أساس التقارب السعودي ـ التركي الراهن على اعتبار الحوافز الاقتصادية ـ من دون أن ينحيها-، أن مواجهة إيران عبر الساحة السورية ستكون الترمومتر الذي يقيس حرارة العلاقات بين الرياض وأنقره حتى إشعار آخر.

 

السفير

 

 

 

أزمة الرياض-طهران تؤكد انحياز أوباما لإيران وحلفائها/ حسين عبد الحسين

تطورات الأسبوع الماضي أظهرت انحيازاً فاضحاً للرئيس الاميركي باراك أوباما لمصلحة إيران ضد خصومها في منطقة الشرق الاوسط.

وكانت طهران افتتحت الاسبوع باطلاقها صواريخ باليستية تجريبية، سقطت على بعد ١٥٠٠ ياردة (1,37 كيلومتراً) من السفن الحربية الاميركية في الخليج، مخالفة بذلك بنود اتفاقية فيينا النووية، المصادق عليها في مجلس الأمن والتي تحظر على الايرانيين اجراء تجارب على أي اسلحة يمكنها حمل رؤوس غير تقليدية كالصواريخ الباليستية.

وترافقت التجربة الصاروخية الايرانية مع تصعيد كلامي من المسؤولين الايرانيين ضد واشنطن، وتهديد طهران بوقف الاتفاقية النووية، خصوصا بعدما ادانت الامم المتحدة تجربة ايرانية مماثلة سابقة، وبعدما حاول اعضاء في الكونغرس الاميركي اصدار قانون يفرض عقوبات جديدة على مسؤولين ايرانيين بشكل لا يتعارض مع الاتفاقية النووية.

وفسّرت غالبية المتابعين الاميركيين الصواريخ الايرانية بمثابة رسالة تحذير من طهران الى واشنطن ضد فرض اي عقوبات اميركية جديدة من اي نوع كانت، وفي اي سياق كان، نووي او غير نووي.

وبدلا من ان يعبّر أوباما والمسؤولون في ادارته عن امتعاضهم للتجارب الباليستية الايرانية ويهددون طهران بعقوبات جديدة، وجه أوباما تهديداته الى اعضاء الكونغرس الذين كانوا يسعون لإقرار قانون عقوبات جديدة ضد المسؤولين الايرانيين المتورطين في اطلاق الصواريخ التجريبية، وهدد بتحميلهم مسؤولية انهيار الاتفاقية النووية مع ايران، وعواقب التصعيد التي قد ترافق انهياراً من هذا النوع، فتراجع المشرعون الاميركيون عن مشروع قانونهم.

بعد ايام، وعلى اثر قيام السعودية باعدام ٤٧ من مواطنيها، منهم رجل الدين الشيعي نمر النمر، سارعت الخارجية الاميركية إلى “التعبير عن قلق” واشنطن، خصوصاً أن من شأن إعدام النمر “أن يصعّد التوتر” في المنطقة.

على الفور، تحول بيان الخارجية الاميركية الى مادة للتندر في اوساط العاصمة، فردد متابعون ان المفارقة تكمن في ان ادارة أوباما لا ترى في سقوط صواريخ ايرانية على بعد ١٥٠٠ ياردة من سفنها الحربية تصعيداً من شأنه ان يفاقم الاوضاع في المنطقة، لكنها تلقي باللائمة على اعدامات سعودية تقول ان من شأنها زيادة التوتر.

ولم تكد الادارة الاميركية تقف في صف ايران في موضوع إعدام النمر، حتى سرت انباء في واشنطن مفادها ان الديبلوماسية الاميركية باشرت بالاتصال بالرياض وطهران لتبريد الاجواء بينهما.

مساعي الوساطة الاميركية لم تمر من دون أن يلاحظ المراقبون ان واشنطن لم تقم بإدانة الهجمات الايرانية ضد سفارة السعودية في طهران وقنصيلتها في مشهد، بل اكتفت بالحديث عن وساطتها، وهو موقف أميركي ذكّر كثيرين بتوجيه واشنطن اللوم الى تركيا لقيامها بإسقاط مقاتلة روسية اخترقت اجواءها قبل اسابيع، بدلاً من أن تعبّر الولايات المتحدة عن تضامنها الكامل ونيتها مساندة حليفتها في حلف شمال الاطلسي، تركيا، في حال اندلاع مواجهة عسكرية تركية-روسية.

وكما سارعت واشنطن لخطب ود الروس على حساب حلفائها الاتراك وتعهدت بوساطة، كذلك لم تبد الولايات المتحدة تضامنا يذكر مع السعوديين في وجه تصعيدات الايرانيين، بل اكتفت ادارة أوباما بإعلان نيتها لعب دور الوسيط.

مع أوباما، أميركا هي دولة تطلب الخدمات من حلفائها، مثل فتح قواعدهم الجوية للمقاتلات الاميركية والمساهمة في القضاء على اعداء أميركا، فيما تتحول الى وسيط عندما تكون مصالح حلفائها في خطر، وتسعى في الغالب لإدانة هؤلاء الحلفاء والطلب منهم التنازل لخصومهم.

سياسة أوباما هذه اظهرته منحازاً تماماً لروسيا ضد تركيا، ولإيران ضد السعودية، وهو انحياز يشبه انحياز واشنطن للرئيس السوري بشار الأسد، على الرغم من استخدام الاخير أسلحة كيماوية، ضد المعارضة السورية، التي سعت واشنطن لإبقائها من دون سلاح أو تمويل، ومارست الضغط عليها وعلى اصدقائها للقبول بشروط الأسد وحلفائه الدوليين.

بعد سوريا وتركيا والسعودية، لم تعد ولاءات أوباما خافية على احد، فهو من دون شك ينحاز انحيازاً كاملاً لروسيا وإيران والأسد.

المدن

 

 

 

تناقضات العمال الكردستاني اليوم/ رستم محمود

بعد مرور قُرابة شهر على اجتماع الرياض لقوى المعارضة السورية، لم تنجح كل الضغوط الروسية لضمّ حزب الاتحاد الديموقراطي الكُردي/ السوري للمؤتلفين/ المفاوضين المُستقبليين من المعارضين، ولم تنجح كذلك كل القوى السياسية الإقليمية والدولية الداعمة لـ «وحدات حماية الشعب» الكُردية في ضمّها الى التشكيل السياسي نفسه المُخول مناقشة النظام السوري ومفاوضته على مُستقبل سورية.

حدث ذلك فيما تمت دعوة الفصائل المسلّحة المعارضة في شكل مباشر للمرة الأولى في تاريخ مؤتمرات المعارضة، واستثناء قوى الاتحاد الديموقراطي العسكرية، وفي حضور القوى السياسية «الحليفة» للاتحاد، كهيئة التنسيق وتيار بناء الدولة وتيار قمح، وحصر شرعية طرح المطالب الكُردية بالأحزاب الكُردية المنضوية في الائتلاف الوطني المعارض، والشخصيات الوطنية الكُردية السورية.

صحيح أن الاتحاد يعيش أكثر لحظاته «العسكرية» نشوة، إن عبر علاقته التي تتعمق مع الولايات المُتحدة والدول الأوروبية، وإن بالشقاق الروسي – التُركي المتعاظم، وطبعاً بالحاجة المتزايدة الى النظام السوري لإرضائه، بعد سيطرته على المزيد من المناطق في الشمال السوري.

لكن ذلك كله لم يعن أي شيء في المحصلة. فالنظام السوري ما زال يرفض أي اعتراف ولو إعلامي بالإدارة الذاتية المؤسسة من جانب الاتحاد، وأصرّ رأس النظام في مقابلته الأخيرة مع صحيفة «صانداي تايمز» البريطانية، على أن المنتمين الى هذه المنظومة مجرد مواطنين سوريين، يتلقون دعماً عسكرياً من نظامه للتصدّي لـ «داعش»، مماثلاً بينهم وبين «عُصب» مقاتلة أخرى رديفة له، كميليشيا الدفاع الوطني، وحاصراً شكل التعاون بين نظامه وهذا الطرف بالتعاون الأمني غير المُعلن.

كذلك ففي ظل هذه الأحوال الإقليمية، لم يتلقّ العمال الكُردستاني أي اعتراف أو تغيير في تموضعه السياسي ممن دخلت علاقتهم في وضع حرج مع تُركيا. فالولايات المتحدة صرحت غير مرة بأنها تتفهم هجمات الطيران التركي على قواعد الكُردستاني خارج الحدود التُركية، ولم تُخرج أي دولة أوروبية الكُردستاني من قائمة التنظيمات الإرهابية، ولم يزد الاستعمال الإيراني – العراقي للعمال الكُردستاني إلا ورقة ضغط موضعية مضادة لنفوذ الرئيس مسعود البرزاني في المناطق المُسيطر عليها حديثاً في إقليم شنكال المحلي بكُردستان العراق. أما روسيا فأرادتهم فقط أن يكونوا مجرد أداة مناهضة للقوى العسكرية السورية المعارضة والقريبة من تُركيا في شمال شرقي البلاد، في مُحيط إقليم عفرين والمنطقة الفاصلة بينه وبين محافظة إدلب، وذلك كجزء من المناطحة التُركية – الروسية على حساب الغير.

هذا «الخلل» بين نمطي تعامل الدول الإقليمية والقوى الكُبرى مع العُمال الكُردستاني وقواه الرديفة، يجسّده الفارق بين زخم التواصل الأمني والعسكري معه وحرمانه من أية عوائد سياسية مُتممة لذلك. ويحدث هذا لأن الكردستاني ما زال يستعمل استراتيجية سياسية تقليدية غير عملية في العلاقات الإقليمية، تعتمد على ثلاثة أسس:

تذهب قراءته الأولى الى الاعتقاد أن كل جهد وحضور عسكري على الأرض سيتلوهما بالضرورة اعتراف وتعامل سياسي، بالاستناد إلى ذاكرة سياسية تتعلق بالقضية الفلسطينية والجنوب أفريقية.

يبدو ذلك غرقاً في الرومانسية، ليس فقط لأن المساحة التي سُمح للكردستاني بشغلها عسكرياً في شمال سورية أو غرب إقليم كردستان بالغة الصغر وناتجة من أوضاع إقليمية استثنائية تماماً، يعترف الجميع بضرورة تجاوزها، بمن في ذلك الخصوم السياسيون الإقليميون والدوليون المتنابذون، بل بالتحديد لأن نمط الصراع الراهن لم يتجاوز في أي شكل حدود الكيانات السياسية وهويتها في المنطقة، فيما القوى الدولية هي الأكثر حرصاً للحفاظ على خطوط هذه الدول وهوياتها وشرعياتها. هو ما بلغ درجة لا تزال معها هذه القوى ترى نظام بشار الأسد نظاماً شرعياً، على رغم كُل جرائمه، ولا تسمح في أي شكل بتجاوز شرعيات هذه الكيانات. ومنح الكردستاني بعض المسافة السياسية والعسكرية يعني تجاوز تلك الشرعيات تماماً.

على مستوى آخر، فالكردستاني يراهن على قُدرته على احتكار شرعية التمثيل السياسي للأكراد في المنطقة، أو على الأقل احتكار تمثيلهم في كُل من تُركيا وسورية.

ومع المزيد من التفكك المُجتمعي في بُلدان المنطقة، وعودة الأمور إلى نصابها الأولي الذي كان قبل مئة عام، أي أثناء الحرب العالمية الأولى، وتفاعل القوى السياسية على أساس تمثيلها الجماعات الأهلية لا على أساس نزعاتها وحواملها السياسية، اعتقد الكردستاني بقدرته على تمثيل الجماعات الكُردية، وأن الدول الإقليمية في لحظة تناقضاتها ستقبل له هذا الدور. وبنية ذلك التفكير تقوم على تجاوز كل الأبعاد الموضوعية للمجتمع الكُردي، بتفاصيل مصالحه ومكوناته الداخلية وتطلعاته المتباينة وشبكة تفاعله المُعقدة مع المحيط، ما يتجاوز اختصار التمثيل بتيار سياسي وحيد. وقد كان لفرضه على هذا النحو من الحزب السوري الرديف للعمال الكُردستاني، أن أدى إلى هجرة عشرات الآلاف من الأكراد السوريين، وخلو بيئات اجتماعية واسعة منهم تماماً.

أخيراً، فالكردستاني يسعى الى الجمع الخطير بين شكلي كسب الشرعية السياسية: من جهة يعرض نفسه قوة ذات مجهود عسكري ضخم، تسعى الى إخضاع الخصوم ونيل الشرعية الموضوعية عبر «الانتصارات» العسكرية، مطابقاً نفسه مع الأنظمة السياسية التي يدعي مقارعتها، ومن جهة يسعى الى الظهور كقوة سياسية وأيديولوجية حداثوية، مغايرة لتيار الإسلام السياسي كما لقوى القومية الكُردية التقليدية.

وهذا كلّه متناقض بما فيه الكفاية.

* كاتب سوري

الحياة

 

 

تركيا في 2016: التحديات الكبرى/ هوشنك أوسي

لا يمكن فهم إصرار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الشديد والمستميت على تحويل تركيا من نظام برلماني إلى نظام رئاسي، طالما أن وجود أحمد داوود أوغلو في رئاسة حزب «العدالة والتنمية» وفي رئاسة الوزارة هو تحصيل حاصل ومجرد واجهة. ذلك أن أردوغان يتدخّل في كل كبيرة وصغيرة، وكل شاردة وواردة، من عمل الحكومة. فهو الذي يحدد الوزراء ونوّابهم ومديري المؤسسات الرسميّة الكبرى، ويتدخّل في تحديد سياسات الحكومة الاقتصاديّة والخارجيّة، ويحدد أولويّات الحكومة داخليّاً وإقليميّاً ودوليّاً!. فعمليّاً، تركيا محكومة بنظام رئاسي غير معلن وغير مقنن.

وفي سياق تبريره سعيه «الانقلاب» على نظام الحكم في تركيا، من البرلماني إلى الرئاسي، انزلقت الحال بأردوغان إلى الإشادة بألمانيا النازية التي كان يحكمها هتلر، على اعتبار ان النظام الرئاسي في ألمانيا وقتذاك، هو الذي جعل منها دولة عظمى، مرهوبة الجانب. في حين يتغافل أردوغان وكل حاشيته الإعلاميّة التي سعت إلى التغطية على «زلّة اللسان» هذه، عن أن النظام الرئاسي الهتلري – النازي، هو نفسه الذي دمّر ألمانيا وأوروبا. وكذلك النظام الرئاسي في كل من روسيا الستالينيّة، ومصر، والعراق، وليبيا، واليمن، وكوريا الشمالية… وبلدان كثيرة من العالم.

مدائح أردوغان ورهطه في منافع وفوائد «النظام الرئاسي» المرتقب في تركيا يلغي ويبطل كل البروباغندا التي كان يعتمدها حزب «العدالة والتنمية» حول النهضة الاقتصاديّة والأمن والأمان التي حققها الحزب طيلة فترة حكمه، من دون النظام الرئاسي.

ما هو مفروغ منه أن تركيا مريضة جداً. بل مفخخة بالكثير من القنابل الموقوتة، وأقصد: القضايا القوميّة والعرقيّة والإثنيّة والطائفيّة العالقة، عدا المشاكل والاشتباكات السياسيّة مع دول الجيران. هذا الكم الهائل من الأمراض والعلل السياسيّة والدستوريّة، ليس طبيبه ودواؤه النظام الرئاسي الذي يطمح إليه ويخطط له أردوغان وصحبه الأفاضل.

المأزق الخطير وحالة التخبّط الداخلي الذي تعيشه حكومة حزب «العدالة والتنمية» الإخوانيّة – الإسلاميّة، في أحد أبرز أوجهه، يعبّر عن نفسه في إرهاب الدولة المنظّم الذي تمارسه الحكومة ضد شعبها الكردي، في كردستان الشماليّة، جنوب شرقي تركيا. صحيح أن لحزب «العمال الكردستاني» الكثير من الأخطاء والعيوب مما يمكن توجيه مئة ألف ملاحظة وانتقاد إليها، لكنْ صحيحٌ أيضاً أن النظام الأردوغاني صار يختلق الأعذار بغية الانقضاض على المدن الكرديّة التركيّة، ووضعها تحت الحصار وحظر التجوال والقصف، على المنوال نفسه الذي يقوم به نظام الأسد في المدن السوريّة. مع فارق أن أردوغان لم يصل به الحال بعد إلى قصف هذه المدن بالبراميل المتفجّرة.

الأعذار التي تقدّمها حكومة أردوغان، وتابعوها من السوريين والعرب، لإرهاب الدولة الذي تمارسه تركيا ضد أكرادها، هي أن حزب الشعوب الديموقراطي، أعلن «الحكم الذاتي» في المناطق الكرديّة (في حين أن الحكم الذاتي، لا يعني الانفصال البتّة. وهو الحد الأدنى من حقوق عشرين مليون كردي – تركي، بموجب الميثاق العالمي لحقوق الانسان) وأن زعيم الحزب صلاح الدين دميرطاش زار موسكو والتقى المسؤولين الروس، وقال إن إسقاط الطائرة الروسيّة «كان خطأ»!. والحال أن هذه الأعذار، «أوقح من ذنب» للأسباب الآتية:

1- مؤسس الجمهوريّة التركيّة، مصطفى كمال اتاتورك، وفي دستور 1921، أقرّ منح المناطق الكرديّة الحكم الذاتي. ووثيقة هذا الدستور الذي أقرّه أوّل برلمان منتخب في تركيا، ما زالت السلطات التركيّة ترفض الكشف عنها، لئلا يقول الناس: إن اتاتورك كان أكثر ديموقراطيّة من أردوغان. أبعد من ذلك، فأجداد أردوغان، السلاجقة، هم من ذكروا اسم كردستان في وثائقهم (السلطان سنجار السلجوقي نموذجاً) كما منح السلاطين العثمانيون المناطق الكردية الاستقلال الذاتي. ويشهد التاريخ على ثمار التعاون بين الكرد والسلاجقة والعثمانيين. وعليه، يبدو أن السلاجقة والعثمانيين القدامى، على بطشهم ودمويّتهم، كانوا أكثر ديموقراطيّةً من العثمانيين الجدد، وسلطانهم أردوغان!

2- لماذا لم تفتح الحكومة التركيّة، أو لم تدفع بالإدعاء العام، لفتح تحقيق مع رئيس حزب «الشعب الجمهوري» كمال كلجدار أوغلو وقيادات حزبه، حين زاروا رأس النظام السوري، علماً أن أنقرة دخلت في حالة حرب مع هذا النظام، وتطالب بإسقاطه. ويمارس هذا النظام الإبادة الجماعيّة ضدّ الشعب السوري. بينما تركيا لا تطالب باسقاط نظام بوتين! وليست في حالة عداء مع روسيا، قياساً بعدائها للنظام السوري! وإذا كانت زيارة دميرطاش خطأً، يجب معاقبته عليه، فالأجدى بالحكومة التركيّة أن تعاقب رأس المعارضة الاتاتوركيّة أولاً، على زيارة قيادات حزبه لبشّار الأسد، لئلا يقال إن الحكومة الاردوغانيّة بوجهين وتكيل بمكيالين!

حال تركيا الراهنة، والفاشيّة الدينيّة – القوميّة – العنصريّة المتصاعدة فيها، والعلل والأمراض السياسيّة الخطيرة التي تعانيها، لا يختلف كثيراً عن سلطة السلطنة العثمانيّة، قبل مئة عام خلت. وربما حالة التأزّم والاختناق هذه، وإصرار أردوغان على النظام الرئاسي، هو نفسه إصرار جماعة «الاتحاد والترقي» شبه الفاشيّة، قبل مئة عام ونيّف، على الاصلاحات التي أطاحت بالسلطنة.

في هذا العام، وبعد مرور مئة عام على اتفاقية «سايكس – بيكو» التي قسّمت جغرافيا «الرجل المريض»، يبدو ان هنالك في تركيا، من يدفع بالبلاد إلى نفس ذلك المصير. والأخطر والأكثر قلقاً أن تنزلق تركيا الأردوغانيّة الى ارتكاب إبادة جماعيّة جديدة، كالتي ارتكبتها في 1915-1917. وهذه المرّة بحق الكردّ، كما فعلتها سابقاً مع الأرمن والسريان والآشوريين، وبالحجج نفسها التي كان وما زال الأتراك يتذرّعون بها لتبرير مجازرهم بحق الأرمن، وهي أنهم «تعاونوا مع الروس. وأنهم خونة»! وربما يقول قائل: «الظروف تغيّرت»! ولكن المجتمع الدولي العاجز امام قتل 300 الف سوري، وتهجير 8 ملايين، هل سيحرّك ساكناً في حال اتجه أردوغان ورهطه إلى إبادة الكرد، كما فعل أجداده بالأرمن؟!

* كاتب كردي سوري

الحياة

 

 

دلالات التصعيد التركي الكردي/ خورشيد دلي

قواعد جديدة للصراع

الأبعاد الإقليمية والدولية

مفاوضات أم حرب شاملة؟

بعد نحو سنتين من إطلاق عملية السلام بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني عادت أخبار المواجهات بين الجانبين تتصدر عناوين وسائل الإعلام التركية والكردية، فوعد زعيم حزب العمال الكردستاني بانتهاء عهد الرصاص إلى غير رجعة لم يتحقق، مع أن فوز حزب الشعوب الديمقراطي الموالي للكرد في الانتخابات البرلمانية ودخوله مجلس الأمة (البرلمان) بشّر بعهد جديد من المشاركة الكردية في الحياة العامة التركية.

عليه، فإن التصعيد الجديد أثار أسئلة كثيرة عن التوقيت، وعن مستقبل عملية السلام بين الجانبين، على نحو هل فشلت العملية وذهبت إلى غير رجعة؟ أم أن هدف التصعيد هو وضع قواعد جديدة للصراع بعد أن أحست تركيا بخطر الصعود الكردي في الداخل وعلى حدودها الجنوبية (سوريا) وتحول حزب العمال الكردستاني إلى دولة على الأرض تمتد من جبال قنديل إلى تخوم المتوسط؟ واستطرادا، ماذا عن دور العامل الإقليمي المرتبط بالأزمة السورية في زيادة حدة التصعيد الجاري؟

قواعد جديدة للصراع

في الواقع، رغم ضراوة الحرب المندلعة حاليا، فإن ثمة قناعة دفينة لدى الجانبين التركي والكردي بأن النهج العسكري لن يؤدي إلى نتيجة أو حل، فجولات القتال السابقة بين الجانبين انتهت بالفشل بعد أن كلفت أعدادا كبيرة من الضحايا وتدميرا هائلا للبنى التحتية وهدرا للأموال، حيث تشير التقارير التركية إلى أن الحرب ضد الكردستاني منذ عام 1984 حتى الآن كلفت أكثر من خمسمئة مليار دولار، وهو مبلغ كاف لتحقيق نهضة اقتصادية واجتماعية في المناطق الكردية في جنوب شرق البلاد، وأمام هذه القناعة فإن السؤال الجوهري هنا يتعلق بخلفيات التصعيد الجديد وكيفية العودة إلى طاولة الحوار من أجل سلام منشود يحقق الاستقرار لتركيا والهوية القومية للكرد.

عقب الانتخابات البرلمانية الأخيرة وجد الرئيس رجب طيب أردوغان نفسه أمام مشهد كردي مغاير؛ إذ وجد أن حدود بلاده الجنوبية (سوريا) باتت مع إقليم كردي تحت سيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، كما وجد أن الأخير بدلا من أن يسحب ثقله العسكري من الداخل التركي يخطط لإقامة إدارة ذاتية في جنوب شرق تركيا، حيث الأغلبية الكردية، بينما تحول جناحه السياسي (حزب الشعوب الديمقراطي) -الذي دخل البرلمان بعد أن تجاوز العتبة الانتخابية- إلى قوة سياسية ودستورية، وسط شكوك عميقة بأنه على علاقة سرية بقيادة الكردستاني في جبال قنديل.

ولعل ما زاد الهواجس التركية هو ارتفاع معدل العمليات والإجراءات الأمنية التي يقوم به حزب العمال الكردستاني في الداخل من جباية للضرائب وإقامة حواجز أمنية في المناطق الريفية وحفر للخنادق.

في المقابل، فإن الكرد الذين انتظروا طويلا لتقوم الحكومة التركية بخطوات عملية لدفع عملية السلام إلى الأمام، لا سيما الإفراج عن عبد الله أوجلان والاعتراف الدستوري بالكرد وحقوقهم القومية، وجدوا أنها تمارس سياسة أقرب إلى تمرير الوقت والتهرب من الاستحقاقات وعدم الجدية.

وزادت تصريحات أردوغان بعدم وجود قضية كردية، وتنصله من بيان السلام الذي عرف ببيان قصر (دولمه باهجه) بين الحكومة التركية وحزب الشعوب الديمقراطي من قناعة الكرد بأهمية التصعيد السياسي والأمني لوضع الحكومة أمام معادلة: إما الاستجابة للمطالب الكردية أو الدفع نحو التفجير، ولعل ما رجّح الخيار الأخير هو فقدان الثقة وغياب الجدية والحالة الكردية التي نشأت عن الأزمة السورية، إذ برزت كل هذه التطورات على شكل رهانات يمكن البناء عليها لتحسين الموقع التفاوضي، وعليه كانت العمليات العسكرية التركية ضد مواقع الكردستاني في العراق وتركيا مقابل تصعيد الأخير عملياته في الداخل على شكل استهداف جنود ومقرات أمنية وحكومية، تدشينا لمرحلة جديدة من الدم والدمار والشقاق القومي.

في ذروة الغارات التركية على مواقع الكردستاني حرص المسؤولون الأتراك، لا سيما أردوغان وأحمد داود أوغلو، على القول إن عملية السلام لم تمت، وإن شرط العودة إليها هو ترك الحزب الكردستاني السلاح، بينما أكد الأخير مرارا أنه مستعد للسلام شرط أن يوقف الجانب التركي عملياته العسكرية ضده ويلتزم باتفاق عملية السلام والسماح بزيارة زعيمه أوجلان في السجن.

هذا الحرص الضمني من الجانبين على الرغم من ضراوة المواجهات يكشف عن دوافع الطرفين، ومحاولة كل طرف اتباع قواعد جديدة لإمكانية العودة إلى المفاوضات ولو بعد حين، وعليه يمكن القول إن هدف العملية العسكرية التركية هو إضعاف الكردستاني وشل قدرته على التحرك في ساحات تركيا وسوريا والعراق عبر أجنحته السياسية والعسكرية، وربما دفع إقليم كردستان إلى التحرك ضده خاصة في ظل العلاقة المميزة التي تربط تركيا برئيس إقليم كردستان العراق مسعود البرزاني.

فقد سمعنا للمرة الأولى تصريحات مقربين من البرزاني تدعو حزب العمال الكردستاني إلى الخروج من إقليم كردستان، ولعل الأهم هنا أيضا هو الحد من صعود حزب الشعوب الديمقراطي الكردي عبر إجراءات سياسية ودستورية تؤثر على نفوذه ومصداقيته في الشارع الكردي.

الأبعاد الإقليمية والدولية

لا يمكن النظر إلى التصعيد الجاري بعيدا عن جملة من العوامل الإقليمية والدولية؛ فالكرد وعلى وقع الحرب الجارية ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) باتوا يحسون بأنهم الحليف الأهم للإدارة الأميركية على الأرض في سوريا والعراق، وأن هذا التحالف لا بد أن يرافقه انفتاح سياسي يترتب عليه الاعتراف بشرعية المطالب القومية الكردية، وبدور الكرد كلاعب إقليمي مهم في منطقة الشرق الأوسط.

وعرف حزب العمال الكردستاني كيف يستغل هذا الأمر للقبول به سياسيا في الغرب بدلا من صورته كمنظمة إرهابية، وهكذا تحرك بقوة على الأرض في منطقة سنجار (شمال العراق) وفي المناطق الكردية شمال سوريا وشرقها، ويبدو أن تركيا أدركت هذا المنحى لدى الكردستاني، وعليه جاء انخراطها في الحرب ضد داعش مؤخرا للحد من الاعتماد الغربي على الكردستاني كلاعب في محاربة داعش، خاصة أن تركيا هي عضو في الحلف الأطلسي منذ عام 1952.

إقليميا، مع اشتداد حدة التوتر الإقليمي على خلفية الاصطفاف بشأن الأزمة السورية والتصعيد الروسي ضد تركيا إثر إسقاط الأخيرة مقاتلة روسية، والتصعيد العراقي ضد تركيا على غرار روسيا بعد تدخل قوة عسكرية تركية للتدريب في بعشيقة بالموصل (شمال العراق)، باتت الأنظار تتجه إلى استخدام هذه الدول الورقة الكردية في الداخل التركي كورقة موجعة لحكومة حزب العدالة والتنمية.

وكان لافتا في هذا السياق الاستقبال الحافل في موسكو لزعيم الشعوب الديمقراطي صلاح الدين ديمرطاش، ومن ثم الاجتماع الطارئ الذي عقد مؤتمر المجتمع الديمقراطي في دياربكر، والإعلان عن التوجه لإعلان الحكم الذاتي في المناطق الكردية بجنوب شرق تركيا، ولعل أنقرة التي تنظر بحساسية بالغة إلى حضور البعد الإقليمي في قضيتها الكردية الداخلية تحركت بشكل مسبق لقطع الطريق أمام إقامة حكم كردي ذاتي، خاصة أنها تعتقد بأن مثل هذا الحكم يحمل بداية التوجه الكردي نحو الانفصال.

وعليه، فإن مسار العلاقة بين الحكومة التركية وحزب الشعوب الديمقراطي ممثل الكرد في البرلمان بدأ يتجه إلى الصدام بدلا من المساهمة في إيجاد حل سياسي، وكان لافتا في هذا السياق الهجوم العنيف الذي شنّه رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو على زيارة صلاح الدين ديمرطاش لروسيا واتهامه بخيانة الدولة التركية، ومن ثم إلغاء اللقاء الذي كان مقررا معه في 25 ديسمبر/كانون الأول الماضي بدعوى أنه لم يبق شيء للتباحث معه بعد تصريحاته في موسكو، التي انتقد فيها إسقاط أنقرة مقاتلة روسية.

ولعل موقف أوغلو استدعى تصعيدا من قبل ديمرطاش، عندما أعلن أن الكرد ذاهبون إلى إقامة حكم ذاتي ولتفعل الحكومة التركية ما تشاء، وهنا تحس تركيا في العمق بأنها لم تعد في مواجهة مع مشكلتها الكردية في الداخل بقدر ما أنها باتت في مواجهة مفتوحة مع تحالف إقليمي-دولي يتألف من روسيا وإيران والعراق وسوريا وأرمينيا، وأن المطلوب من كل ذلك هو قطع الطريق أمام خيارها في العودة إلى محيطها الحضاري والقيام بدور مؤثر في قضايا الشرق الأوسط.

مفاوضات أم حرب شاملة؟

تقف العلاقة التركية-الكردية عند مفترق طرق، إذ إن المواجهة الميدانية والسياسية باتت سيدة الموقف، فالحكومة التركية تصر على عدم التفاوض مع حزب العمال الكردستاني، ويقول الرئيس أردوغان إنه سيحاربه حتى النهاية وتسليم آخر قطعة سلاح لديه، بوصفه تنظيما إرهابيا، وكثيرا ما يضعه مع داعش في مرتبة واحدة، في حين أن الحزب الكردستاني الذي اختبر السلاح والحروب جيدا لا يجد ما يجبره على تركه سلاحه إلا الاعتراف به ممثلا للكرد والتفاوض معه على الحقوق القومية الكردية وصولا إلى مشاركته في الحياة العامة التركية في إطار اتفاق سلام يجسد في دستور جيد يفسح المجال أمام القومية الكردية في التعبير عن نفسها اجتماعيا وسياسيا وثقافيا.

وعليه، في ظل تباعد مواقف الطرفين، وتمسك كل طرف بموقفه؛ تبدو المرحلة المقبلة أمام سيناريوهين: إما العودة إلى التفاوض بصيغة جديدة، وهي غير متوفرة حاليا، وهنا كل طرف يراهن على جملة من الأوراق لإجبار الطرف الآخر على تقديم تنازلات.

فالحكومة التركية تراهن على أن العمليات العسكرية ستؤدي إلى إضعاف الحزب الكردستاني وتجريده من حاضنته الشعبية، خاصة أن الحرب أثرت على مصالح الناس وأعمالهم وأرزاقهم، مع المراهنة على أن هذه الحرب ستفرز قوى كردية معتدلة في تركيا بمساعدة من رئيس إقليم كردستان العراق مسعود البرزاني الذي يعيش في خلاف سياسي يتعمق هذه الأيام مع حزب العمال الكردستاني.

بينما يرى الأخير أن الحرب ستجعله أكثر تأثيرا في الساحة الكردية، وستجبر الحكومة التركية تحت ضغوط الداخل والخارج على العودة مجددا إلى مفاوضات السلام، ويبدو أن الحزب يراهن على الضغوط الأميركية والأوروبية المطالبة بعودة الجانبين إلى مفاوضات السلام.

في جميع الأحوال، دخلت القضية الكردية في تركيا مرحلة جديدة، ويبدو أن الأفضل للجانبين التفكير مليا في عدم جدوى الخيار العسكري بعد أن أثبتت التجارب السابقة للصراع بينهما فشل هذا الخيار، وأن الخيار السلمي هو وحده الذي يحقق الاستقرار لتركيا والهوية للكرد، ولعل مثل هذا الأمر ينبغي أن يجد طريقه في الدستور الجديد الذي تأمل الحكومة التركية من خلاله وضع نهاية للدستور الذي وضعه العسكر عقب انقلاب عام 1980.

الجزيرة نت

 

 

 

دورٌ أكبر لتركيا وتحديات أكثر/ جميل مطر

يعود معظم رجال السياسة، وصانعو السياسة الخارجية خصوصاً، بخطى سريعة إلى مبادئ الواقعية السياسية، مبتعدين قدر إمكانهم من مبادئ القيم والأخلاق والحقوق. لا أوضح، دليلاً على ذلك، من عودة الاهتمام الدولي بتركيا، الدولة الممثلة بامتياز للمناطق العازلة في الصراعات الدولية والعلاقات الدولية عموماً.

فجأة عاد بعض علماء السياسة يناقشون نظرية ماكيندر ويعتمدون عليها كأساس لفهم العلاقات بين الدول، وبخاصة الكبرى منها. وأتصور أن مبرر هذه العودة، هو أن أوراسيا، هذه المساحة البرية الشاسعة، عادت هي الأخرى مسرحاً لتطورات استراتيجية ذات أهمية بالغة.

هناك في أقصى الشرق من هذه المساحة، حيث توجد مقاطعة سنكيانغ، بدأت الحكومة الصينية تمد شبكة طرق برية وسكك حديد تغطي دولاً في شمال وسط آسيا بعثاً للهدف القديم المتجدد لطريق الحرير، وهو القارة الأوروبية. وتمتد شبكة أخرى من سنكيانغ أيضاً ولكن نحو الجنوب الغربي مستهدفة ميناء غوادار في باكستان، باعتباره القاعدة البحرية الأهم للصين في الخارج على الطريق نحو أفريقيا والسويس وأوروبا.

بالدرجة ذاتها من الوضوح، نرى الهند صاعدة من الجنوب مارة بأفغانستان بغرض صنع «حلم معكوس»، وأقصد صنع حلم بعكس حلم روسيا القيصرية، حلم الوصول إلى المياه الدافئة وإلى الهند تحديداً. فالهند اليوم تسعى إلى الوصول إلى منابع الطاقة الوفيرة في أقاليم آسيا الوسطى وروسيا. وفي ظني أن كثيرين في الغرب صاروا على عِلمٍ بخطط إيرانية جاهزة للتنفيذ فور رفع العقوبات. أكثر هذه الخطط يركز على مصالح تجارية وثقافية لإيران في مناطق وسط آسيا وشمالها انتهاءً بالأقاليم الآسيوية في الاتحاد الروسي، ومن هناك إلى القسم الغربي من أوراسيا.

من ناحية أخرى، لا تزال روسيا، كالعهد بها منذ عصر القياصرة، منتبهة إلى الأهمية الإستراتيجية الفائقة لهذه المساحة الممتدة من سيبيريا في أقصى الشرق إلى سواحل الأطلسي في أقصى الغرب، ومنتبهة للأهمية القصوى لهذا النصيب الأعظم من هذه المساحة الذي تحتله روسيا والأقاليم التابعة لها.

لم يعد هناك شك في أن علاقات الدول الأطلسية ببعضها بعضاً تعاني منذ فترة ما هو أكثر من الفتور أو البرود، وبخاصة بعد أن تغيرت أولويات طرفي الأطلسي. أتصور أن الأميركيين تنبهوا أخيراً إلى أن أوروبا الغربية تنجذب مثلهم أكثر وأكثر تجاه الشرق، وإن لأسباب أخرى غير تلك التي تشد الأميركيين إلى الشرق. أسباب أوروبا تتعلق بالأمن والحدود واللاجئين ولكن أيضاً بالتجارة والنفط والغاز. بمعنى آخر، يعود قطاع مهم في الفكر الإستراتيجي الأوروبي إلى الاعتماد على أطروحة ماكيندر لفهم توجهات السياسة الدولية في القرن الحادي والعشرين. كلاهما، أميركا وأوروبا، يسعيان نحو الشرق. لكن بينما تنوي أميركا أن تمر رحلتها إلى الشرق عبر البحار والمحيطات، نرى أوروبا مستسلمة لتأثير شبكات الطرق البرية وحِزم السياسات المصنوعة في الصين وطرق الحرير المتطورة المعتمدة أساساً على الامتداد الأوراسي، أي الأوروبي – الآسيوي.

هذا التطور المهم في الفكر الإستراتيجي الأوروبي، والآسيوي أيضاً، يفرض تغييرات مهمة في أدوات السياسة الخارجية ومبادئها وأنماط التحالفات القائمة والمقبلة بين دول «الإقليم الأوراسي»، وبخاصة داخل حلف الأطلسي وبين دول الاتحاد الأوروبي. تواجه هذه الدول، كما هو معروف، تحديات مثيرة تسبَّبت بالتخلي، وإن بتدرُج، عن التزام المبادئ الأخلاقية في علاقاتها بغيرها من دول العالم. ظهر هذا واضحاً في التغيير الذي لامَس علاقاتها بتركيا تحديداً، فحين شعرت أوروبا بأن تركيا تستطيع أن تقوم بدور بوابتها في مواجهة زحف اللاجئين السوريين وغيرهم، سارعت من جانبها إلى التعبير عن تجاهلها أعمال القمع وخرق المواثيق الأخلاقية والحقوقية التي ارتكبتها حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان، أو تستعد لارتكابها بحجة قبلتها أوروبا بترحيب، وهي حجة الاستقرار السياسي في تركيا. هكذا حصلت حكومة تركيا على دعم مالي كبير لمساعدتها في إعاشة أكبر عدد ممكن من اللاجئين المقيمين على أراضيها ومنعهم من اللحاق بالأفواج الأولى التي نزلت إلى البحر متوجهة إلى اليونان. حصلت أيضاً على دعم سياسي قدمته بنفسها المستشارة أنغيلا ميركل خلال زيارتها التي كان هدفها، وبحق، تحقيق فوز انتخابي لحزب أردوغان، حين وعدت الشعب التركي بفتح أبواب أوروبا أمام دخوله إليها من دون تأشيرات وهو الحلم الطويل القديم للأتراك الذي توقف في العام 2004، وخابت معه آمال تركية أخرى تتعلق بأمل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.

اعتقد بأن مأساة اللاجئين السوريين جاءت نعمة لأردوغان على رغم المتاعب التي يمكن أن تتسبب فيها أعدادهم الهائلة. هؤلاء اللاجئون هم الآن أقوى أرصدة أردوغان في علاقته الجديدة بالاتحاد الأوروبي. هناك نِعمٌ أخرى هبطت واحدة بعد الأخرى جعلت تركيا تستعيد مكانتها الإستراتيجية السابقة بالنسبة إلى أوروبا، منها مثلاً، العودة الأوروبية إلى نمط الواقعية السياسية Realpolitik انسجاماً مع البعث الجديد لنظرية ماكيندر والحاجة الماسة إلى تعاون تركيا في مسألة اللاجئين. هناك أيضاً أزمة أوروبا، والغرب بأسره، الاقتصادية والمالية. وهي الأزمة التي جعلت أوروبا تتفاوض مع تركيا من موقع ضعف نسبي، على عكس موقعها في المفاوضات قبل 2004. أضف أيضاً الشعور السائد في أوروبا وخارجها بأن «الناتو» والاتحاد الأوروبي فشل كلاهما في المواجهة مع روسيا حول أوكرانيا، وبأن روسيا خرجت من هذه المواجهة خصماً أقوى، الأمر الذي جعل الموقع الإستراتيجي لتركيا كدولة عازلة يعود إلى سابق أهميته القصوى خلال مختلف مراحل الحرب الباردة. أخيراً، وليس آخراً، يصعب تجاهل حقيقة أن أزمات اليونان وغيرها من دول جنوب أوروبا، إضافة إلى التهديدات البريطانية المتواصلة بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي تسبّبت في تشويه سمعة الوحدة الأوروبية وتركَ بروكسيل في موقع ضعف ديبلوماسي غير مناسب لظروف تحوّلات كبيرة في النظام الدولي عموماً وأقاليم الجوار خصوصاً.

لسنا بغافلين عن نقاط الضعف المحتملة في نمط العلاقات الجديد بين تركيا ودول أوروبا، إذ تبقى أوروبا، وبخاصة ألمانيا، المخَلِّص الأكبر لأردوغان وحكومته، غير راضية عن سياسات أردوغان مع الأكراد أو عن علاقاته بتنظيمات إرهابية أو عن تغليبه الثأر الشخصي مع الأسد على العقل والاتزان، أو عن استعداده لتولي مهمات قيادة حلف عسكري إسلامي لا ترى أوروبا لنفسها فيه مصلحة أمنية تذكر، وهو بالتأكيد لا يخدم نمط التفكير الإستراتيجي الأوروبي الجديد والمعتمد على أولوية التمدد الأوراسي.

لن تكون مهمة تركيا ضمن هذا التوجه الإستراتيجي الجديد لأوروبا مهمة سهلة. لا نتحدث هنا عن التدهور الحاصل فعلاً في نواحي الأمن الداخلي والاستقرار الاجتماعي. لكن نشير إلى التطورات المتسارعة في خطط التدخّل المتعدد الأبعاد والأهداف من جانب روسيا في الشرق الأوسط، والصلة المباشرة بين هذه الخطط والأدوار التي يفترض أن تؤديها تركيا خلال السنوات المقبلة. لن يكتفي أردوغان بالدور السلبي لتركيا كمنطقة عازلة، وهو الدور الذي أدّته بامتياز على امتداد عقود، إنما يريد لتركيا دور الطرف القائد في إقليم يبحث عن قيادة.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى