دمشق نهاراً.. دمشق ليلاً/تمام علي بركات
[ 1 – دمشق نهاراً.. ميت يحمل ميتاً.
سعال وأدعية وشفاه يخرج من زرقتها كلام مبهم، وحده قلب الله المكسور يستمع لها، غريزة الحياة الباقية في أوردتهم تفتتح نهار الذاهبين إلى شقائهم، وعيونهم تبحث فوق الإسفلت عن موطئ ألم، باتوا يتمنون لو يمضي بهم إلى موت سريع، ينهي عذاباتهم مرة واحدة وإلى الأبد.
لا جديد في تعاقب الفصول على قلوبهم، ثياب الشتاء تصلح للصيف أيضاً بثني الكم، أما الربيع فما هو إلاّ خريف مراهق، يباغتهم بشيب يغزو أرواحهم المنهوبة، وحدهم الفقراء يضخون الحياة في شوارع العاصمة صباحاً، وهم يحاولون عبثاً أن يحصِّلوا كفاف يومهم.
تتناوب الأيام وضروب فداحتها على السوريين وكأنهم على موعد لا يندمل مع حزن قهري، حزن أبهظ أحلامهم وآمالهم بانتظار مرير، يكادون بسببه ينظرون إلى وجوههم المتعبة في المرآة وهم عاجزون عن التعرف إلى هوية صاحب الصورة المنعكسة، أحدهم أخبرني وهو لا ينتظر مني جواباً أو حتى تعليقاً: هل تصدق أنني أرى في زجاج المرآة عندما أقف أمامها قبل الخروج من منزلي بحكم العادة، وجه حصان ميت يحدق بي.
وجه حصان ميت! قلت له، وأنا أشاهد شبحي في بلورة عينيه المطفأتين ينوس رويداً رويداً: أتراه كابوساً جماعياً، أو لعنة مستطيرة تأبى إلاّ أن تبقينا فريسة حيرة طويلة، حيرة يروي الدم سيرتها المتفصّدة أرواحاً هائمة على وجهها في سماوات لم تعد تحتمل كل هذا الضجيج البشري المكلوم على أديم الأرض.
ضاقت بنا الأرض، ضاقت بأوجاعنا أجسامنا المنهكة من ترحال يومي صوب حياة ندنوا فتغترب، حياة صارت تمر فينا وكأننا أرصفة مشغولة ببسطات الفقر والقهر، تلك تبيع الأمل المعلب ورجل من حطام يدلل عليه بصوت ميت، وهذه تعرض فوق خشبها المهترئ أوراق يانصيب جائزتها الكبرى شقاء أقل، وبسطات أخرى من لحم ودم تمد يدها اليابسة للعابرين وفي حضنها تغفو طفلة أنهت منذ قليل كتابة وظيفة البكاء، تنام ملء جوعها وهي تحلم بأنها تحلم بحياة أخرى في عالم لا يموت فيه الصغار بحروب الكبار القذرة، لا يموت فيه الأطفال بسبب رغيف خبز حاف بللته الدموع حتى صار صالحاً للأكل بعد أن عافته العصافير لملوحته. لقمة مغمسة بشبهة ذكريات سعيدة، ربما – ربما كانت يوماً ما موجودة في حكايا الجدات، في حكايات الجدات فقط.
يمررنا النوم بأوهامه الثقيلة من أيام لم نعد معنيين باسمها، سبت، أحد، خميس، لا يهم طالما أننا ننام في سبت ونصحو في سبت وإذا ما ضبطنا المنبه على ساعة مبكرة للاستيقاظ، فهذا يعني أننا لا نريد لأي احد أن يسبقنا إلى البؤس.
في المساء تراقب العيون الثملة من الإرهاق، الخط الأحمر العاجل على التلفاز، يقرأون أسماء من غادرهم اليوم إلى الضفاف المبهمة، يراقبون بقلق أن يمرر الأحمر العاجل، اسم عزيز أو قريب، وأحياناً يستغربون كيف أن أسماءهم ليست موجودة بين الأسماء الحمر التي تمر بعجالة، يقفلون أعضاءهم الحيوية الباقية من التعب، ينامون بلا أحلام، فالواقع اليومي المرهق لا يبقي للأحلام مطرحاً في آسرة الليلة الواحدة، وحده النوم راحة متفكهة، وحده النوم موتهم المؤجل المشتهى.
[ 2 – دمشق مساءً… سيمو فوميه وفودكا وأحمر من نوع آخر.
دمشق مساء نظيفة من الفقراء، تختفي رائحة الهمّ والعرق البائس، تضيع بين رائحة البارفان الباريسي ورائحة «الكوهيبا» المنبعثة من المطاعم الفاخرة، أسياد بياقات عالية يفاضلون بين الكوكايين والأفيون، وغابة من السيقان والأرداف المهتزة على وقع «دانس ويز مي» تبدي الخيط الأحمر الحريري النائم بين الافخاذ المكتنزة، طاولات بهية ترقد فوقها أفخر أنواع الاطعمة: سيمو فوميه، وكافيار، فودكا، و»جاك دانيلز» مراق في أقنية الصرف الصحي، لأناس بلا ضمائر، وتحتها تُعقد صفقات الجنس مقابل الغذاء، سيدة ترتدي فوق مؤخرتها جلد ميت لم يدفن بعد، تتكلم عن جمعيتها الخيرية التي أنفقت ما أنفقت «من طرف الكم» على الفقراء والمحتاجين، بينما الموظفون في شركة تبييض الأموال التي أسسها زوجها كمنبر إعلامي ميت «يحتفي بالفنانات الموهوبات بغرف النوم»، لم يقبضوا رواتبهم منذ ثلاثة أشهر، عداك عمن طرد منهم بحجة عدم توفر السيولة. نعم، السيولة غير متوفرة إلاّ على طاولات القمار في لاس فيغاس.
ليل دمشق المظلم تضيئه عيون الذاهبين إلى حتفهم مسرنمين، بينما وردة من اسمنت لم ينضجها آذار بعد، سرقت أغاني فيروز من حديقة الفقراء، لتنمو مساراً مزدهراً بين الخراب.
هل أتاكم حديث «حريم السلطان»…
كاتب وصحافي سوري
المستقبل