صفحات العالم

دورة الدماء


الياس الزغبي

الجميع، من العرب الى الإقليم والعالم، يَرَون أنّ سوريّا دخلت المرحلة الأخطر في أزمتها، وباتت في منزلة بين منازل العرقنة واللبننة والبلقنة، وربّما الصوْمَلَة …

إلاّ النظام السوري. لا يرى، في كلّ ما يحصل، غيرَ معادلته العمياء الجامدة: الدولة ضدّ الإرهاب.

وفي الواقع، هو لم يصنع الدولة، بل صنع الإرهاب. ولو أقام دولة فعليّة بدلاً من مافيا العائلة والحزب، لما بلَغَ الأمر به الى الوضع الراهن، ولكانت نشأت ثنائيّة الحاكم والمُعارض على قاعدة تداول السلطة، بما يمتصّ الكثير من حالات الرفض، ويحول دون هذه الدورة الدمويّة المفتوحة على الأسوأ.

وفي استعادة بسيطة لنهج هذا النظام بعهدَيْه، الوالد والمولود، لتبيّن أنّه شكّل ماكينة لتوليد الإرهاب، وابتكار أساليب القتل الجماعي وتطويرها.

هذا ما خبرْناه في لبنان بعشرات السيّارات المفخّخة وعشرات الإغتيالات الجماعيّة والفرديّة، وصولاً الى تشكيل وتنظيم وتدريب وتسليح مجموعات إرهابيّة، كان نموذجها الأبرز “فتح الإسلام” وفروع المعسكرات الفلسطينيّة والإرهاب خارج المخيّمات وداخلها، وتسليط سلاح غير شرعي على الدولة.

وهذا ما خبرَه العراق، بتسريب المجموعات الإرهابيّة اليه، تحت شعار مقاومة الإحتلال الأميركي. وبلَغَ المخطّط السوري رأس السلطة العراقيّة، نوري المالكي نفسه، الذي يحالف اليوم جلاّده، خدمةً “للقوس” أو “الهلال”.

وعندنا في لبنان، نوري آخر، غَفَرَ لجلاّده ولم يغفر لإخوته. فكم يُثير المال والسلطة شهيّة بعض السياسيّين، الى درجة الإرتهان والخيانة!

لا يهمّ منْ يقف وراء التفجيرات في دمشق وحلب وسواهما. لأنّ النتيجة هي نفسها: المستفيد الأوّل منها هو النظام، والمتضرّرة الأولى هي المعارضة.

هناك منْ يقول: ليس من مصلحة النظام أن يفجّر في الشوارع وأمام المراكز الأمنيّة، فمن غير المعقول أن يقتل نفسه. ولكنْ، في حسابات الأنظمة الديكتاتوريّة الدمويّة المقفلة، يُمكن التضحية بالقليل من أجل الكثير. وغالباً ما كانت قيادة الجيش السوري في لبنان، وبقرار من دمشق، تزجّ  في الحروب التي خاضتها ضدّ كلّ الطوائف والأحزاب، وحدات غير مهمّة للأقليّة الحاكمة، وجنودها أرقام في لعبة السلطة الكبرى وخسارتهم غير مؤثّرة، بل ربّما تخفّف عبئاً ما عن آلة البطش.

وكانت المعادلة معروفة: جنود وضبّاط مقاتلون من السنّة، وقادة وضبّاط مخابرات من العلويّين.

ففي وسْع النظام إلغاء عناصر زائدة أو غير ذات فاعليّة، مقابل مكسب سياسي عام، عبر تظهير نفسه مكافحاً الإرهاب لمصلحة المجتمع الدولي. فماذا يُضيره إذا فجّر وخسر بعض العناصر الهامشيّين؟

وليس منطقيّاً أن تلجاّ المعارضة، وجناحها المسلّح “الجيش السوري الحرّ”، الى أسلوب التفجير، لأنّه يُؤذيها كثيراُ ويشوّش على أهدافها الوطنيّة. بل يقتل أبرياء هم في المحصّلة جمهورها.

يبقى أنْ يكون طرف ثالث متطرّف، “القاعدة” أو سواها، ينتهز حالة الفوضى ويعمد الى التفجير. والسؤال هنا: منْ أوصل  الصراع الى هذا الحدّ، وأيقظ شياطين العنف من سُباتها، وفتح الباب للإرهاب؟

إنّ مسؤوليّة النظام مزدوجة: حين كان يصدّر الإرهابيّين الى لبنان والعراق، كان يُبعد عنه أذاهم وينعَم بالهدوء. والآن يرتدّون عليه، كما فعل متطرّفو أفغانستان و”القاعدة” بالولايات المتّحدة الاميركيّة.

ثمّ إنّ سياسة القمع التي نفّذها النظام بشراسة منذ اليوم الأوّل للإحتجاجات، ومواجهته التظاهرات السلميّة بالقتل والإعتقال والإخفاء، خلقت مناخاً ملائماً للتطرّف، ودفعت المتشدّدين الى سلوك طريق التفجير الإنتحاري. فيكون النظام صانع إرهاب، من حيث يدري أو لا يدري، وليس مكافحاً له.

وفي تفسير بديهي للحالة السوريّة الراهنة، يتبيّن أنّ النظام يدري ماذا يفعل، بل يخطّط لمضاعفة التطرّف، بما يبرّر له مضاعفة القمع، وركوب المشروع القديم – الجديد في شمال سوريّا.

وليس بريئاً ما يقوم به “حلفاء” النظام في لبنان.

فهم مكلّفون بتأجيج مشاعر التطرّف الطائفي وضرب حالات الإعتدال وتسميم العلاقات بين المسيحيّين والمسلمين، وبين الشيعة والسنّة، فينشأ ضمناً تحالف موضوعي غير مباشر بين جناحيْ التطرّف، ضدّ كلّ أطياف الإعتدال، خدمةّ لإحياء مشروع حلف الأقليّات بحجّة الإحتماء من صعود المتطرّفين وفزّاعة “التكفيريّين”. وهل يفعل ميشال عون غير ذلك بسياسة حفر القبور وتعميق الجروح وإلهاب الذاكرة، وبمباركة مكشوفة من “حزب الله”؟!

ولا يخفى كم تقهقه اسرائيل في عبّها من هذه الخدمات الجليلة، تحت ستار التهديدات المنبريّة من نصرالله.

إنّ دورة الدم في سوريّا لا تخدم إلاّ هذا المشروع.

لم يعُدْ صنّاع الإرهاب وموظّفوه مجهولين. ولم تعُد النيّات الطيّبة تعبّد طريق الجحيم.

لبنان الآن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى