دور ايران في الازمة السورية -مقالات مختارة لكتاب عرب-
التنسيق الأميركي-الإيراني وحدود التحالف الموضوعي في العراق
المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
تصرّ الولايات المتحدة الأميركية وإيران على عدم وجود تنسيقٍ ميداني مباشرٍ بينهما في الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش”، على الرغم من تأكيد الولايات المتحدة قصف طائرات إيرانية مواقع التنظيم في شرق العراق، في أواخر نوفمبر/تشرين ثاني الماضي، ونفي إيران في البداية، ثم تأكيدها حصول ذلك. فما حقيقة ما حصل؟ وما خلفيات الموقف الأميركي وحساباته، تجاه أي دورٍ إيراني في الحرب ضد “داعش”، وخصوصاً بعد الرسالة السرية التي بعثها الرئيس الأميركي، باراك أوباما، أخيراً، إلى المرشد الأعلى للثورة الإسلامية، آية الله علي خامنئي، في منتصف أكتوبر/تشرين ثاني الماضي، والتي أشار فيها إلى “المصلحة المشتركة” بين البلدين في محاربة “داعش” في العراق وسورية؟
خلفيات الموقف الأميركي
تعدّ إيران اللاعب الإقليمي الأكبر في المعادلة الداخلية في العراق، منذ الغزو الأميركي عام 2003. ولا يقتصر نفوذها في العراق على تأثيرها في الأحزاب الشيعية الحاكمة فحسب، وإنما، أيضًا، في رعايتها ميليشيات شيعية مسلّحة كثيرة فيه، والتي استعادت قوتها، وعززت نفوذها بعد سقوط مدينة الموصل، ومناطق عراقية شاسعة أخرى في أيدي “داعش” في يونيو/حزيران الماضي، وذلك بعد الانهيار المفاجئ للجيش العراقي. وعلى عكس الولايات المتحدة، والتي جاء ردّ فعلها بطيئًا لنصرة حكومة نوري المالكي ضدّ تمدّد “داعش” السريع، ثم وضعها شروطًا كثيرةً لتقديم دعمٍ عسكري للعراق، انتهت بإطاحة المالكي نفسه، فإنّ إيران لم تتردّد لحظةً واحدةً في تقديم يد العون إلى الحكومة العراقية والمقاتلين الأكراد. وحسب الجنرال إسماعيل قاءاني، المسؤول في “فيلق القدس” التابع للحرس الثوري الإيراني، فإنه لولا دعم بلاده لكانت بغداد نفسها قد سقطت في أيدي “داعش”. وقد أكد هذا الأمر أميركيون، وزعماء عراقيون أيضًا، بقولهم إنّ إيران سارعت إلى تقديم السلاح للميليشيات الشيعية والكردية، للتصدي لزحف تنظيم “داعش”.
وتعدّ المفارقة في هذا الأمر أنّ الولايات المتحدة التي اعتبرت الدور الإيراني في العراق تخريبيًا على الدوام، سواء عبر تمويل طهران ميليشيات شيعية وتدريبها، حين كانت تقاتل الأميركيين في أثناء فترة الاحتلال المباشر، أو عبر إذكاء الروح الطائفية في العراق في ما بعد، تجد نفسها، اليوم، موضوعيًا في علاقة تحالفية مع إيران في عموم المشرق العربي. وبدأت هذه العلاقة تتخذ شكلًا واعيًا يتجاوز التحالف الموضوعي. فإدارة أوباما التي تحجم عن أي تورطٍ عسكري بري خارجي، وتحديدًا في العراق، تبحث عن قوةٍ إقليميةٍ قادرةٍ على الاضطلاع بالدور “على الأرض”؛ في ظل عجز القوات العراقية وقوات البشمركة الكردية عن صدّ زحف “داعش” بإمكانياتهما الذاتية. لذلك، فهي تميل، كما يبدو، إلى الاعتماد المتزايد على إيران بوصفها قوةً مؤهلةً للقيام بهذه المهمة.
تنسيق الضربات
على الرغم من أنّ الولايات المتحدة وإيران لا تزالان تصرّان على أنهما لا تقومان بأي تنسيقٍ مباشرٍ في ما بينهما، فإنّ المعطيات على الأرض في العراق تدحض ذلك؛ فالولايات المتحدة توفر عبر الجو، وعبر مستشاريها العسكريين على الأرض، كلّ الدعم للميليشيات الشيعية التي تتبع إيران. وثمة معلومات تفيد بأنّ الولايات المتحدة تتشارك مع إيران في المعلومات الاستخبارية حول مواقع مقاتلي “داعش”، سواء بشكل مباشر أم غير مباشر، عبر حلفاء طهران في النظام العراقي الحاكم. كما أنّ الطائرات الأميركية قدمت، غير مرةٍ، إسناداً جوياً للجيش العراقي وقوات البشمركة وميليشيات شيعية مدعومة ومسلحة من إيران، خلال معاركهم مع “داعش”؛ كما حصل عندما قدّمت مقاتلات أميركية الإسناد الجوي لميليشيات شيعية في سبتمبر/أيلول الماضي لطرد “داعش” من بلدة أميرلي العراقية.
ولا يدع المسؤولون الأميركيون مجالًا للشك في حصول تنسيقٍ مع إيران. ولكن، عبر طرفٍ ثالثٍ، فقد أشار الرئيس أوباما نفسه إلى مسألة التنسيق الأميركي مع إيران عبر الحكومة العراقية؛ فحسب أوباما: “لا تنسّق الولايات المتحدة مع إيران مباشرة … هناك نوع من الترتيب عبر طرفٍ ثالثٍ لضمان عدم وقوع أي خطأ، وخصوصاً أنّ لديهم بعض القوات، أو الميليشيات الواقعة تحت سيطرتهم في بغداد وحولها. ونحن أوضحنا لهم ألا تعبثوا معنا، فنحن لسنا هنا لنعبث معكم. فتركيزنا منصب على العدو المشترك”. وحسب مراقبين أميركيين، فإنّ أوباما عنى بالقوات الإيرانية الموجودة في العراق، والتي لن تعبث معها الولايات المتحدة، بعض عناصر فيلق القدس الإيراني، وتحديدًا قائده الجنرال قاسم سليماني، المصنّف على قائمة الإرهاب الأميركية ثلاث مرات. واستنادًا إلى صور سرّبتها إيران من ساحات المعارك في العراق، فإنّ سليماني هو من يقود عمليًا المعركة ضد “داعش” هناك. وقد أكد الأمر نفسه الناطق باسم وزارة الدفاع الأميركية، الأدميرال جون كيربي، حين قال إنّ الولايات المتحدة لا تنسق طلعاتها الجوية، ولا عملياتها العسكرية، مع إيران، وإنما تترك ذلك، وبخاصة مسألة تنظيم حركة الطائرات في الأجواء العراقية، للحكومة العراقية.
الحسابات الأميركية
لا تنكر إدارة أوباما حاجتها إلى الدور الإيراني في محاربة تنظيم “داعش”؛ لسببين: الأول نفوذ إيران الكبير في كلٍ من العراق وسورية. والثاني عدم رغبة إدارة أوباما في إرسال قوات عسكرية برية إلى العراق، أو أي مكانٍ آخر. فـ “مبدأ أوباما” في السياسة الخارجية قائم على أنّ الولايات المتحدة ستكتفي بمهمات التدريب والتسليح والدعم لحلفائها، لكي يقاتلوا على الأرض، إلا في حالات الضرورة القصوى المتعلقة بالمصالح الأميركية المباشرة، غير أنّ انهيار القوات العراقية المهين أمام “داعش”، وتقهقر قوات البشمركة الكردية تاليًا، دفع واشنطن إلى تعزيز عدد مستشاريها العسكريين على الأرض، لكنها بقيت بحاجة إلى الدعم الإيراني في العراق، لممارسة نفوذها على أطراف معادلته السياسية، من أجل توحيد جهدهم في مواجهة “داعش”، وهو أمر، إن حدث، سوف يكفي الولايات المتحدة مؤونة إرسال قوات أميركية برية مقاتلة، لتقوم بمهمة هزيمة تنظيم “داعش”.
وثمة سببان آخران يساعدان في فهم التوجه الأميركي نحو التنسيق، غير المباشر حتى الآن، مع إيران؛ أحدهما: أنّ إدارة أوباما تأمل في أن يساهم هذا التنسيق في دفع إيران إلى إبداء مرونة أكبر في ملف المفاوضات حول برنامجها النووي، وهو الأمر الذي يطمح أوباما في أن يكون أكبر إنجازٍ لرئاسته في السياسة الخارجية. وعلى الرغم من ذلك، بقي أوباما حريصًا على تأكيد أنّ أي تنسيقٍ غير مباشرٍ مع إيران ضد “العدو المشترك” غير مرتبطٍ بملف المفاوضات النووية معها. ويتمثل السبب الآخر في ادعاء الإدارة الأميركية قلقها على سلامة مستشاريها العسكريين في العراق، والذين يناهز عددهم اليوم ثلاثة آلاف مستشار، من جانب إيران وحلفائها؛ فأي توترٍ مع إيران قد يرتد سلبيًا على القوات الأميركية في العراق.
“قد تجد الولايات المتحدة نفسها مضطرة، في المستقبل القريب، إلى العودة مجددًا إلى المنطقة، أو مضاعفة حجم تدخلها، ومن ثمّ استنزافها؛ ذلك أنّ الصراع الطائفي سيتوسع أكثر فأكثر؛ ما يعني تقوية العدو المشترك لها ولإيران”
الخلاصة
سواء أكان التنسيق الأميركي مع إيران في العراق، وحتى في سورية، مباشرًا أم غير مباشرٍ، فإنه يؤكد أنّ واشنطن باتت تميل إلى الاعتراف بالنفوذ الإيراني في البلدين. بل إنّ علي خديري، المسؤول الأميركي السابق في العراق، لا يجد غضاضة في القول إنّ “العراق ليس بلدًا مستقلًا، إنه تحت قيادة سليماني وزعيمه خامنئي”. ومع ذلك، لن يكون القبول الأميركي بتوسّع النفوذ الإيراني في المنطقة على حساب حلفائها التقليديين من دون محاذير؛ فهناك، أولًا، إسرائيل التي لن تقبل، في الغالب، بنفوذٍ إيراني مؤثرٍ في المنطقة، حتى إن كان ضمن توافقٍ مع الولايات المتحدة. وثانيًا، هناك بعض حلفاء أميركا من العرب، وتحديدًا المملكة العربية السعودية التي لديها حساسية أصلًا من التمدّد الإيراني، ما قد ينعكس على تصعيد التوتر الطائفي في المنطقة، وخصوصاً أنّ لدى السنة العرب في العراق حساسية من إيران وأجندتها.
وبالنسبة إلى إيران، سوف يقوم الانكفاء الأميركي في منطقة الشرق الأوسط بمزيد من استنزافها، بقدر ما يضيف إلى نفوذها؛ فتوسيع مساحة نفوذ إيران سوف يترتب عليه أعباء إضافية تستنزف طاقتها.
وفي المحصلة، قد تجد الولايات المتحدة نفسها مضطرة، في المستقبل القريب، إلى العودة مجددًا إلى المنطقة، أو مضاعفة حجم تدخلها، ومن ثمّ استنزافها؛ ذلك أنّ الصراع الطائفي سيتوسع أكثر فأكثر؛ ما يعني تقوية العدو المشترك لها ولإيران؛ أي تنظيم “داعش”، أو أي تنظيم آخر سيرثه. والمفارقة، هنا، أنّ الناطق باسم وزارة الدفاع، جون كيربي، نبّه طهران إلى ضرورة أن تراعي في تدخلها في العراق عدم إثارة الحساسيات الطائفية، مع أنّ القبول بدورها الحالي في العراق، وفي المنطقة، يعني إثارة هذه الحساسيات؛ فالمسألة ليست مراعاة شكلية باللغة، أو غيرها، بقدر ما هي واقع على الأرض، يعبّر عنه أولئك المسؤولون الإيرانيون الذي يتحدثون “من دون مراعاة للحساسيات” عن سقوط رابع عاصمة عربية بيد إيران.
حماس مجدداً إلى طهران… بدلاً من رام الله/ حازم الامين
لم يطل الأمر بالإخوان المسلمين كثيراً حتى حلّت النكبة بهم. وعبارة «النكبة» هنا مستعارة من القاموس الخلدوني (نكبة البرامكة) ولا تمت بصلة إلى «نكبتنا» في فلسطين، ذاك أن الأولى تمت وفق آليات «صعود الأمم وهبوطها»، فيما النكبة الفلسطينية نجمت عن عامل من خارجها. ويبدو أن حركة حماس (الفرع الفلسطيني للإخوان) التقطت مجدداً مؤشر النكبة وباشرت مغادرة الموقع الاخواني إلى حضنها الأول، طهران. والحال أنها حين همّت قبل سنوات بمغادرة هلال الممانعة، فعلت ذلك مكرهة، فما كان ممكناً لتنظيم سنّي إخواني أن يبقى في دمشق فيما يتولى نظامــها قتل الــسوريين وعلى رأســهم السنّة منهم.
لم تجر حماس في حينه قطعاً كاملاً مع النظام، فالبيان الشهير الذي صدر عن خالد مشعل آنذاك كشف موقع الحركة من الصراع في سورية. فقد أبدى مشعل في بيانه الأول «ثقته بسورية شعباً وقيادة»، لكن كان المطلوب منه أكثر. هكذا احتسب الرجل مقداري الربح والخسارة وغادر دمشق مبقياً فيها مشاعره، وأقام في الدوحة العاصمة غير الآمنة سياسياً والمترنحة بفعل غموض موقعها بين خضوع للمنظومة الاقليمية ومشاغبة لا تبعث على الثقة.
والإقامة غير المديدة في الدوحة تمت على وقع هزائم شرعت تصيب الجسم الاخواني من المحيط إلى الخليج. من مصر إلى تونس، مروراً بسورية والأردن وأخيراً اليمن. وحماس التي لم تختر طائعة موقعها في الحضن الاخواني، كابدت الضربات الموجعة التي تلقاها الاخوان في تجاربهم السيئة في بلدانهم.
اليوم أعلنت حماس استئناف علاقاتها مع طهران. ويبدو أن درجة من مخاتلة الرأي العام كشفتها هذه العودة. فالقول إن استئناف العلاقات السياسية والمالية والعسكرية تم على قاعدة استبعاد الخلاف حول الملف السوري، ينطوي على ميل الى استئناف الموقع والوظيفة السابقين من دون الرغبة في دفع أثمانهما. الاقتراب من طهران اقتراب مما تمثله الجمهورية الاسلامية في الانقسام الذي يشطر المنطقة كلها. اقتراب من موقعها في سورية حيث تشن حرباً شعواء هناك إلى جانب النظام، واقتراب من موقعها في اليمن حيث تقف خلف الحوثيين في حربهم على حركة الاصلاح (الاخوانية). واذا كانت الاستدارة الحمساوية الجديدة غير منسجمة مع الوقائع المصرية، فهي من دون شك تمثل ابتعاداً من الموقع الاخواني في مصر، وهو ما تطمح أن يُخلف بعض الانفراج في علاقتها مع السلطة الجديدة في القاهرة.
وسريعاً ما استعادت الجماعة العبارات «الممانعاتية»، بعدما كانت ابتعدت خطوات قليلة عنها، فها هو مصدر فيها يقول رداً على سؤال عن استئناف طهران تمويل الحركة: «لسنا معنيين بالكشف عن مصادر تمويلنا»! هذا الجواب الذي لطالما أتحف فيه «حزب الله» اللبناني ناخبيه تكرره الحركة مع «ناخبيها». الأمر ببساطة على هذا النحو: لا يحق للفلسطينيين سؤال حماس عن مصادر تمويلها.
لكن أن تعاود طهران الامساك بورقة حماس في لحظة صعود لـ «ديبلوماسية» الجمهورية الاسلامية وتمدد للنفوذ الأمني والعسكري لها، فإن ذلك يعني أننا نقترب من حقيقة تحول ايران إلى امبراطورية بأذرع شديدة التفاوت. وحماس تُدرك أنها هنا ذراع مستعارة، وأنها ليست من صلب المادة التي تؤلف نواة الحلم الامبراطوري، وتدرك أيضاً أن امتحانات قريبة مقبلة تشبه الامتحان السوري ستضعها مجدداً أمام السؤال المذهبي.
سورية سؤال لم تُجب عنه الحركة في علاقتها المُستأنفة مع طهران، والعراق مقبل على استحقاقات مذهبية ستنطوي على مزيد من الدماء بين المذاهب هناك. الحوثيون في اليمن سائرون نحو تعظيم المواجهة مع الاصلاح ومع القبائل السنّية. هذا المسار الصراعي لا يشبه عودة حماس إلى طهران، ولا يُشبه «إخوانية» الجماعة الفلسطينية. وطهران من جهتها لن ترهقها الكلفة، فالاختراق الذي يبدو أنها أحدثته في الجسم السنّي عبر «استعادتها» حماس، أهم بالنسبة إليها من الكثير من انجازات قاسم سليماني الأمنية والعسكرية في سورية وفي العراق.
ثم إن العودة الميمونة إلى طهران والتي ترافقت مع كلام على حاجات حماس العسكرية والأمنية الملحّة والتي لن تلبيها إلا طهران، لن تُقلق اسرائيل كثيراً، فإيران في موقعها الجديد تحولت إلى قوة تفاوضية من وجهة نظر الإدارة الأميركية، وضم حماس إلى محورها مجدداً يُساعد على «إدارة» الصراع وعلى تثبيته في صيغته الراهنة، فيستمر قطاع غزة في وظيفته المتمثلة في تلبية الحاجة الاسرائيلية الى غياب الشريك، مع قدرة أكبر على الضبط هذه المرة بفعل قنوات التفاوض المستجدة، وتتخبط سلطة رام الله بمزيد من الوهن.
ويبقى سؤال أخير هنا، هو: كيف ستدير حماس موقعها الجديد في ظل إقامتها بين الدوحة وأنقرة؟ فالإقامة وسط هذا المقدار الكبير من التوازنات غير المستقرة يوقع الحركة في وضع مستحيل. فوفد حماس الذي زار طهران أخيراً تمهيداً لزيارة مشعل إليها، أقدم على ذلك في لحظة اقتراب الدوحة من الرياض وقبول قطري بالشروط الخليجية ومن بينها طبعاً الملف الخليجي. كما تمت الخطوة في ظل مزيد من التباعد بين طهران وأنقرة. وصحيح أن ذلك يجعل من الإقامة في الدوحة أمراً صعباً وغير مريح، إلا أنه يطرح على حماس أيضاً احتمال الإقامة في طهران.
وطهران هذه المرة ستكون غير طهران التي زارها خالد مشعل قبل اندلاع الثورة في سورية. فطهران عاصمة الامبراطورية المذهبية الأخرى، وهي قصر خليفة الآخرين، وهذا ما لن يقبله قسم أساسي من الجسم الحمساوي، وما لا ينسجم مع المضمون الاخواني لوجدان الحركة الفلسطينية. ويبدو أن ثمة مؤشرات جدية إلى ذلك بدأت تلوح، وكلام على أجنحة حقيقية داخل حماس. فماذا يبقى من خالد مشعل إذا قرر أن يدير الصراع مع فتح من طهران، وأن يتفاوض مع الاسرائيليين من هناك؟
الأكيد أن طهران ستنعم بهذا الاختراق ولن يصيبها الاحباط من حياد حماس في الملف السوري. هي أصلاً لا تحتاج إلى أكثر من حيادها هناك. لكن المؤكد أن الثمن الذي ستدفعه الجماعة الفلسطينية نتيجة إقامتها في طهران سيكون أكبر مما لو استخدمت الهزائم الاخوانية فرصةً للتوجه إلى رام الله بدل طهران.
الحياة
حرب إيران ضد داعش/ بدر الإبراهيم
تتواتر الأنباء عن ضربة إيرانية لمواقع تنظيم الدولة الإسلامية في العراق، ولا يبدو الأمر غريباً، فالعراق منتهك السيادة، وهو ساحة معركة إقليمية ودولية. لذلك، تحوم الطائرات الغربية والإيرانية في سمائه، ولا تجد استنكاراً من الساسة العراقيين الذين تعوّدوا على الحكم تحت سقف التوازنات الإقليمية والدولية، وبدون سيادة (مع التذكير أن وصولهم إلى الحكم جاء من خلال الاحتلال الأميركي)، ولا استنكاراً عربياً حقيقياً في ظل الفوضى التي يعيشها العرب على كل المستويات.
بغض النظر عن تأكيد صحة هذه الأنباء من عدمها، فإن إيران تخوض حرباً ضد تنظيم الدولة، سواءً ضربت مواقعه مباشرة أم لا، فعلى الرغم من أن إيران لم تدخل في إطار التحالف الدولي ضد التنظيم، إلا أنها تعتبر هذا التنظيم خطراً حقيقياً عليها وعلى مصالحها في الإقليم، وهي تعمل بكل قوة، وبالتعاون مع حلفائها، لضربه وإنهاء خطره، وبالذات في العراق، حيث النفوذ الإيراني والمكاسب التي تم تحصيلها منذ عام 2003، مهددة بوجود هذا التنظيم، وتحديه حلفاء إيران في العراق.
استفادت إيران من الاحتلال الأميركي للعراق، وحولت الخطر الذي مثّله عليها إلى فرصة لإيلام الأميركيين، وفي الوقت نفسه، لبسط نفوذها في العراق. عندما أسقط الأميركيون نظام صدام حسين، العدو اللدود للإيرانيين الذين شعروا بأنهم ربحوا بالخلاص من نظام صدام حسين، لكنهم ظلوا يشعرون أنهم مستهدفون من المحافظين الجدد في الولايات المتحدة، وبدأ التفكير الإيراني الجدي في استراتيجية لمواجهة الأميركيين في العراق، وتلخّصت الاستراتيجية الإيرانية في أمرين: العمل على عدم استقرار القوات الأميركية في العراق، بدعم فصائل مقاوِمة، والسيطرة على النظام السياسي الجديد في العراق، لكي لا يكون أداة بيد الأميركيين.
لعبت الأحزاب الشيعية الطائفية دوراً رئيساً في الاستراتيجية الإيرانية داخل العراق، إذ إنها كانت فرس الرهان سياسياً بالنسبة للإيرانيين، وقد كانت إيران تتمتع بعلاقات متفاوتة مع هذه الأحزاب، فعلاقتها وطيدة جداً بالمجلس الأعلى الإسلامي العراقي (المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق سابقاً)، بزعامة آل الحكيم، حيث نشأ المجلس في أحضان الإيرانيين، لكن علاقتها أقل مع حزب الدعوة والتيار الصدري. ما حصل بعد عام 2003 عزز علاقة حزب الدعوة والصدريين مع إيران، إذ إن التقسيم الطائفي الذي جاء به الأميركيون، وارتضته النخبة السياسية العراقية، مكّن الإيرانيين من نسج علاقة وطيدة مع “الكتلة الشيعية” في العملية السياسية، باعتبارها راعية إقليمية للساسة الشيعة في العراق، في مقابل الرعاة الإقليميين للقوى السنية، وعلى الرغم من التوحّد، في البداية، بين المكونات الشيعية ضمن ائتلافٍ موحد، فقد نشبت الخلافات والصراعات بين أطراف هذا الائتلاف، وبقيت إيران تضبط الإيقاع، وتحاول حل الخلافات وإيجاد توافقات بين أقطاب الكتلة الشيعية، مثلما فعلت، بإقناعها مقتدى الصدر باختيار نوري المالكي لولاية ثانية، حين حصل الصراع الإقليمي والدولي على شخصية رئيس الحكومة العراقية، بعد انتخابات عام 2010.
مع الانسحاب الأميركي من العراق عام 2011، وهيمنة حلفاء إيران على الحكم هناك، ساد الاعتقاد بأن إيران سيطرت تماماً على الوضع في العراق، لكن الإيرانيين وحلفاءهم لم يتنبّهوا إلى ضرر سياسات نوري المالكي على الوضع العراقي، وعلى نفوذهم، فالمالكي اتخذ خيارات صِدَامية مع ممثلي السنّة في العملية السياسية، وأضاف هذا مزيداً من الشعور بالغبن عند السنّة، ما جعل داعش تعزز وجودها داخل الوسط السني، ضمن صراع هوية واضح المعالم، أسهمت فيه بقوة السياسات الطائفية لحكومة نوري المالكي.
تمددت داعش، واستولت على الموصل، ومعظم المناطق التي يسكنها السنّة، وأصبح الإيرانيون أمام تحدٍ جديد يهدد حلفاءهم الرئيسيين في العراق، ونفوذهم وهيمنتهم هناك، ليس فقط لأن داعش تتمدد، بل، أيضاً، لأن الأميركيين يعودون بقوة لينافسوا الإيرانيين على النفوذ السياسي. وهكذا، فإن ما يحصل الآن يعبّر عن تنافس إيراني ـ أميركي في العراق على توجه الحكومة الجديدة، برئاسة حيدر العبادي، كما يعبّر عن استنفار إيراني في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية، بغرض منعه من تحقيق تمدّد كامل في العراق، وضرب المصالح الإيرانية.
مشكلة الإيرانيين أنهم يتصرفون بعقلية إدارة الأزمة، وهم لا يملكون استراتيجية للحل السياسي في العراق، أو تغيير السلوك الطائفي لحلفائهم الذي تسبّب بهذه الأزمة، فهم مهتمون بمواجهة داعش عسكرياً، غير أنهم لا يدركون أن مشاركتهم، بخبراتهم العسكرية، في إعادة ترتيب الميليشيات الشيعية لمقاتلة داعش، وبصور قاسم سليماني من قلب المعارك، تعزز وجود داعش، عبر تعزيز نفور السنة العراقيين من الساسة الشيعة الذين يسلّمون أنفسهم والبلاد إلى إيران. صور سليماني، التي تُظهر تحدياً وتنافساً إيرانياً مع الأميركيين والغرب، تُفهَم عند السنّة تحدياً لهم، وانعداماً لاستقلالية القوى الشيعية العراقية.
من دون عزل داعش عن حواضنها الشعبية، عبر مصالحات وتوافقات وطنية واسعة، يعززها رفض الهيمنة الإيرانية والغربية، وإيجاد حالة عراقية وطنية مستقلة، لا يمكن تصور نهاية ظاهرة “داعش”، فالتنظيم سينبعث مجدداً تحت أي مسمى، حتى لو هُزِم عسكرياً، طالما صراع الهويات في العراق قائمٌ ومستمر، والمعالجات السياسية غائبة، والثقة بين العراقيين مفقودة.
العربي الجديد
إيران و «داعش» وسياسة المكابرة/ حازم صاغية
قبل قمة الدوحة وبعدها، والكلام على «أطماع» إيرانية في الخليج من مألوف اللغة السياسية. وثمة مراقبون ذكروا مُحقين أن شاه إيران كان صاحب أطماع مبكرة حملته على توهم الحلول محل بريطانيا في الخليج، ثم دفعته إلى احتلال الجزر الثلاث. لكن علاقة الشاه بالولايات المتحدة كانت تضبط أطماعه الإمبراطورية وتحد منها، بحيث ظهر من يقول آنذاك إن التمدد الشاهنشاهي استراتيجي محض لا تخالطه أبعاد ثقافية أو اقتصادية أو أي محاولة لتحويل السكان. كما ظهر بين نقاد أميركا وكارهيها من يسمي إيران الشاهنشاهية «إمبريالية فرعية» تقوم بما تقوم به لصالح واشنطن.
وهذا كله، كائنة ما كانت درجة صحته، لا ينطبق على النظام الخميني الذي يمتد نفوذه من اليمن إلى لبنان، مروراً بسورية والعراق، مع إبقاء لسان له في غزة. وهو يتقدم مشبعاً بأيديولوجية موجهة إلى الأرض والسماء معاً، لا يساورها الشك بيقينها المعروض على طلاب الخلاص.
وخمينيو إيران اختاروا مبكراً النهج هذا، فتخلصوا من وجوه في ثورتهم كبازركان ويزدي وقطب زاده وبني صدر. هؤلاء، كلٌّ بطريقته، أدركوا أن الطموح الإمبراطوري المشوب بالملحمية لم يعد يلائم المعاصرة في عالمنا. فالإمبراطوريات، منذ انكسارها المبكر مع الحرب العالمية الأولى، صارت مطالَبة بترشيق جسدها للدخول في بوتقة العالم الحديث والانحلال فيه على هيئة دول– أمم. وإذا صح أن الروس أكثر من كابروا على تلك الحقيقة، فأعادوا إنتاج الإمبراطورية القيصرية بقالب شيوعي، صح أيضاً أنهم لا زالوا يحاولون بعد انقضاء الشيوعية، وبشروط أسوأ كثيراً، نطحَ الصخر ومعاندة الوجهة الغالبة للعالم.
والحال أن من أسباب نجاح المكابرة الإيرانية، الشيعية، وهي ناجحة بدليل الحوار الصاعد بينها وبين الولايات المتحدة، ظهورُ «داعش» بوصفه التعبير عن مكابرة أخرى، عربية وسنية. فهنا استُحضرت «الخلافة» التي سبق أن ألغاها أتاتورك قبل قرن ونيف. وهنا صادمت «داعش» معظم القوى السنية التقليدية، وترفعت عن القضايا الوطنية أو الموضعية، أكانت فلسطين التي شغلت طويلاً الرأي العام العربي، لا سيما السني، أو الثورة السورية. ولربما أمكن تعيين واحد من أصول «داعش» في الفشل الذي حصده صدام حسين حين تمدد إمبراطورياً باتجاه الكويت، ناطحاً الواقع العربي التقليدي، ومطيحاً خرائطه، فضلاً عن تهديده المصالح الغربية وتوهمه الحلول محل اتحاد سوفياتي كان يحتضر لحظتذاك، وباحتضاره تحتضر حرب باردة في انتظار أن يتوهم استئنافَها ساخنةً أسمر عربي. فكما خلفت القيصريةُ الستالينيةَ والبوتينيةَ، والشاهنشاهيةُ الخمينيةَ، خلفت الصداميةُ «داعش»، إلا أن الكثافة الهيمنية للأولى تراجعت فيما تعاظمت الكثافة ذاتها للثانية الشيعية والثالثة السنية.
واليوم، من البديهي أن إيران، ذات الدولة المركزية، تملك حظوظاً أفضل بلا قياس من حظوظ «داعش»، وتقايض العالم بأوراق فعلية مقابل الورقة السلبية التي يملكها تنظيم البغدادي (إرث 11 أيلول/ سبتمبر، قطع الرؤوس، إبادة الأقليات… إلخ)، فالأولى يحاورها العالم إياه الذي يقاتل الثانية. لكن هذا لا يغير في حقيقة اشتراك الطرفين في المكابرة على الوجهة السائدة لعالمنا منذ الحرب العالمية الأولى. وغني عن القول إن الاحتقان والشعور بالتعاسة في هذا العالم، واللذين يولدان المكابرة عند أصحابها، أكانوا إيرانيين شيعة أم عرباً سنة، لا يُعدمان الفصاحة الظافرة، فالمكابر يستطيع دائماً أن ينهل من رطانة أيديولوجية سابقة عليه، فيها ما فيها من مظلومية ومجد وحق و «أصالة». وتواريخنا، التي لم تكن قليلة المكابرة، كثيراً ما تمد من يستلهمها بالمعنى وبالاستعداد للمضي قدماً إلى العدم على شكل قاع صفصف.
الحياة
إيران وخروج المجتمع على الدولة الدينية/ بشير هلال
تبدو دعوة ايران العلنية الى اقامة تحالف يضمها والحكمين العراقي والسوري وحركات من بلدان أخرى بعد اجتماع ثلاثي في طهران، في معرض «المؤتمر الدولي لعالمٍ ضد العنف والتطرف»، بمثابة تأكيد إضافي على ان توسيع نفوذها الاقليمي لا يزال وسيبقى أولوية راسخة، اياً تكُن مصائر التفاوض حول ملفها النووي وعلاقاتها بالولايات المتحدة وبالقوى الدولية. واذا اخذنا في الاعتبار نوعية وكمية الأخطار والكلفة العسكرية والاقتصادية التي رتَّبتها وتُرتبها هذه السياسة والاحتكاكات التي تنتجها مع قسم من مكونات العراق السياسية والطائفية وغالبية السوريين وسائر القوى الاقليمية، فإن التفسير الراجح للتمسك بها يكمن في منشئها وصيرورتها كضرورة عضوية لبقاء النظام الخميني نفسه.
بالمعنى المذكور يمكن فهم انعدام ارادة حكومة الرئيس روحاني القادم من سراي «الثورة الاسلامية» بإجراء اي تغيير جدي في سياستها الاقليمية تحديداً، وفي جعل الاحتفاظ بهذه السياسة وتدعيمها عنصراً ثابتاً يبدو ان سياسة «الانفتاح» والتلميع لم تشملها في أية لحظة، وهذا على رغم اعتراض قسم من «الإصلاحيين» الذين دعموا روحاني، وأبرزهم هاشمي رفسنجاني رئيس «مجمع تشخيص مصلحة النظام» الذي أشار مؤخراً بكلمات واضحة إلى عدم الاهتمام بآثار «التنازع بين المسلمين» و «تمسكنا بالخلافات السنية الشيعية وبشتم الصحابة والاحتفال بيوم مقتل عمر، حتى باتت هذه الأعمال عادية للكثيرين واعتبر البعض أداءها جزءاً من العبادة».
يقول أمير عبد اللهيان مساعد وزير الخارجية أن «الجمهورية الاسلامية باتت اليوم الأكثر نفوذاً في المنطقة ولا شك انها تستخدم هذا النفوذ لضمان امنها القومي ومصالحها القومية وامن المنطقة»، مستفيداً في ذلك من سيادة مفهوم خاطئ ومُضَلَل في التأويل الإعلامي قوامه أن السياسات الخارجية للدول تعكس وتمثل مصالحها أياً كانت قواها الحاكمة، وذلك من دون النظر إلى أنها تتحدد بالدرجة الأولى بخيارات هذه القوى وبخاصة عندما تكون الأخيرة على درجة عالية من الإرادوية والأسطرة والخلاصية والعنف في آنٍ واحد. وليس حجم الخسائر الاقتصادية والسياسية «غير الطبيعية» التي قبلها النظام الإيراني وحمَّلها لشعبه ليغدو القوة «الأكثر نفوذاً في المنطقة»، كما صرَّح اللهيان، سوى تأكيدٍ لذلك.
وبوصفه نظاماً استثنائياً تم بنيانه تاريخياً على شرعيتين «شعبية» ودينية، فإن ما يخافه النظام أكثر من سواه هو المتصل بشرعيته الشعبية وتراجع القبول بالشرعية الدينية كمعيار في تكوينها. وهذا ما يجعل هدف سياسته الخارجية اضافة إلى استمرار شحن موجات الأسطرة والخلاصية التوسعية حماية نفسه في الداخل من تآكل هذه الشعبية بعد تجاربه المريرة مع الحركات الطالبية في نهاية التسعينات ثم مع «الموجة الخضراء» عام 2009. فقد شكلت تظاهرات استنكار تزوير الانتخابات الرئاسية حينها، على رغم القمع الدامي، تحذيراً جدياً للنظام الذي نمَّى «الربيع العربي» لديه هجساً بمستقبله لم يبدده التأويل الإعلامي الخامنئي الذي اعتبره في البداية دليلاً على صحوة اسلامية غذَّتها الثورة الإيرانية، وهذا قبل أن تمزق الثورة السورية صدقيته وتندفع طهران إلى مشاركة الأسد مجازره وحربه الكلية عليها وعلى حواضنها الشعبية.
وعلى الضد من محاولته الاحتماء بالتضليل الاعلامي، دقت أحداث سورية ثم انتقاضة العشائر والمدن العراقية ناقوس الخطر للنظام بنهاية مرحلة بسط الهيمنة التدرجية على المنطقة عبر دعم الأنظمة الممانعة والحركات الجهادية، كما بنهاية مرحلة احتواء» السنة» وتحييد وزنهم الديموغرافي والسياسي. وهذا ما عنى فعلياً زيادة مخاطر الانكفاء الخارجي وتحوله إلى عامل تسريعٍ في إبراز هشاشة نظامٍ حبس إيران في وضعٍ اقتصادي متسم بتزامن التضخم وتراجع النمو معاً وزيادة معدلات البطالة (30 في المئة وفق تقديرات صندوق النقد الدولي)، وخصوصاً بين الشباب والنساء، نتيجة العقوبات والمشاكل البنيوية وضعف الاستثمارات، وفي وضع اجتماعي متردٍ بسبب زيادة التفاوتات وتقليص التقديمات والضمانات لمُهَمَّشي الريف وضواحي المدن. ووفق تقرير «الاتحاد الدولي لرابطات حقوق الانسان» فإن نصف الايرانيين يعيشون تحت خط الفقر.
في هذا السياق يأتي مشروع الموازنة الجديدة ليكرر تلك السابقة من حيث «إعطاء الأولوية» لإنعاش الاقتصاد الذي كان عصب برنامج روحاني الانتخابي وتخفيض الاعتماد على موارد النفط والغاز، والميل الضمني إلى تطبيق اقتراحات صندوق النقد الدولي بعد بعثتيه الأخيرتين إلى طهران، واهمها إجراء اصلاحات هيكلية مهمة في القطاع المصرفي وعلى النظام الضريبي وخصوصاً شمول مداخيل المؤسسات الدينية (وأهمها التابعة لإدارة المرشد السيد خامنئي) وشبه العامة (وأهمها التي يملكها ويديرها الحرس الثوري والجيش). وإقرار البرلمان الذي يسيطر عليه المحافظون قبل ايام لتدابير في هذا الاتجاه إنما يؤشر إلى رضوخه لمنطق «هيئة تخطيط الرأسمالية العالمية» كنتيجة لعمق الأزمة وخوف النظام من استمرارها ولمراهنته على تجاوزها برفع العقوبات وعودة الاستثمارات الاجنبية. وتبقى مقترحات رفع الدعم في ميادين الغذاء والمحروقات والمساكن الاجتماعية التي قد يكون إقرارها صحيحاً اقتصادياً، وسلبياً سياسياً على الحكومة. وبهذا المعنى يمكن وضع الحملة التي افتتحتها الأخيرة ضد الفساد ليس كتصفية حسابات بين بعض مراكز النظام وحسب بل أيضاً كوسيلة لتجديد الثقة المتناقصة به وترميم شرعيته.
لكن تآكل الأخيرة يتعدى الوضعين الاقتصادي والإجتماعي إلى القضايا المجتمعية ودور الدولة الدينية. ويسرد «اخبار ايران» بالفرنسية وقائع حساب انستغرام باسم «ابناء أثرياء طهران» فيُظهر حفلاتهم الباذخة وسياراتهم الفخمة ولباسهم بحجة ابلاغ العالم كم هي جميلة العاصمة وأهلها وخطأ مماهاتهما بسلبية صورة الشرق الأوسط. والخبر هذا يشير إلى عمق التفاوتات، لكنه يؤشر ايضاً إلى تحرر الشباب في حياتهم الشخصية وفي ما وراء الجدران من نواهٍ يطبقها الباسيج في الأماكن العامة. وكان تحقيق لوزارة التربية شمل جمهوراً مختلطاً من 141000 تلميذ ثانوي أظهر ان 75 بالمائة منهم أقاموا، أو أنهم يعتبرون، العلاقات مع شركاء متعددين طبيعية وأن 80 في المئة منهم اقاموا علاقات جنسية قبل نيل الثانوية العامة.
فعلى رغم استمرار القمع يبرهن المجتمع عمق ضيقه بالنظام ونواهيه وامتيازات أجهزته، ويشبِّه محللون ذلك ببدء عملية الخروج من الدين (اقتداء بمفهومٍ لمارسيل غوشيه)، لكنه على الأرجح بدء الخروج على الدولة الدينية وإعادة النظر في شرعيتها.
* كاتب لبناني
الحياة
“همس” إيراني عن “تقسيم”/ زهير قصيباتي
«لإيران نفوذ أساسي في المنطقة، يمتد من اليمن إلى لبنان… هذا لم يتصوّره أحد».
صدق صاحب العبارة، مستشار المرشد في إيران، علي أكبر ولايتي، لكن رئيس البرلمان علي لاريجاني يريدنا أن نصدق في آن، أن ليست لـ «الجمهورية الإسلامية» أي أطماع في دول المنطقة، ولا تسعى إلى بناء امبراطورية. الفارق بين العبارتين زمنياً لا يتجاوز يومين، ومعهما يتحدث المستشار الآخر للمرشد بوصفه قائداً أعلى للقوات المسلحة الإيرانية اللواء يحيى صفوي عن «المؤامرات الكبرى بزعامة أميركا في إطلاق العصابات التكفيرية» مثل «داعش».
ويريدنا صفوي أيضاً أن نصدق أنه لم يسمع شيئاً عن اقتسام إيران وأميركا الأدوار في العراق، براً لقوات المرشد ومستشاريه العسكريين في تقوية دفاعات العراقيين، وجواً بالغارات الأميركية على مسلحي «داعش» وعتاده.
يُطمْئِن لاريجاني الدول العربية بأن بلاده التي تفاوض أميركا وأوروبا على برنامجها النووي، لا تخطط لغزو أي دولة… وليس المتاح سوى أن نصدق، ما دامت إيران لا تحتاج إلى إرسال جحافل إلى اليمن، فيما الحوثيون يتولون المهمة، ويسهّلون للمرشد موطئ قدم على البحر الأحمر. ولا تحتاج إلى احتلال العراق، فيما الحكم في بغداد مطمئن الى رعايتها له… ولا لاحتلال سورية ولو كانت واقعياً تهيمن على القرارات العسكرية للنظام في دمشق، وهو يهبها حرية القرار في ساحات القتال.
لدى اللواء صفوي أميركا شيطان يتزعم «المؤامرات الكبرى»، والشيطان ذاته هو الذي يدافع المرشد علي خامنئي عن استكمال المفاوضات «النووية» معه، وهو الذي يصر الرئيس حسن روحاني على التعامل بحسن نية معه، وعلى حوار يفتح له كل أبواب التطبيع، والأسواق والصناعات والواردات من قطع غيار الطائرات المهترئة الى السجاد الأعجمي.
أميركا منغمسة في الحرب على تنظيم «داعش» والتكفيريين، وبالمنطق الإيراني، منهمكة بالجماعات التي فرّختها لتستأصلها في الوقت المناسب! بالمنطق ذاته، فلنحاور «الشيطان» إذا تاب عن العقوبات و «استسلم»، وانحازَ إلى شهية الحوثيين «ثوار الحرب على الفساد» في اليمن، وتفهّمَ مطالب معارضين في البحرين يوالون ادعاء طهران حماية حقوق الشيعة العرب… وتركَ خيوط السياسة العراقية بين أصابع إيرانية، وتخلَّى عن عدائه لـ «حزب الله» لكون الحزب شأناً داخلياً لبنانياً، وواظبَ على «حسن سلوكه» في الفصل بين محاربة «داعش» ومسألة بقاء النظام السوري، وعدم «التحرش» به!
أصابع الشبهة إذاً تتجه إلى مَن يحيك «المؤامرات»، الدول الكبرى وعلى رأسها أميركا، أما الفعل فإيراني بامتياز، أثار مللاً لدى العرب الذين قاوموه بالدهشة والتنديد!
هل يكذب صفوي؟ هو ينذرنا بأن السنين العشر المقبلة ستشهد تقسيم دول إسلامية. كأن المستشار العسكري للمرشد يملك خرائط التقسيم، وما تحذيره هذه الدول إلا من باب فعل الخير، ولا علاقة للأمر بأي تطبيع بين «الشيطان» وحُماة «الثوار» الجدد الذين أكلوا «ربيع» اليمن السعيد.
الأدهى أن صفوي الذي يحرّض على دول الخليج، يتحدث عن احتمال تقسيم بعضها، طبعاً في سياق «المؤامرات» الخارجية، ويستقوي بتحالف «يتكوّن الآن بين إيران والعراق وسورية»… لمجابهة التكفيريين.
يحرّض صفوي فيما وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف يستغرب عدم تفعيل دول الخليج تعاونها مع طهران لوقف انتكاسات اسعار النفط. بالمرشد ومَنْ معه، تتحدث «الجمهورية الإسلامية» بألسنة «الانتصارات»، فيما معظم العرب لا يسمعونها بأُذن واحدة. وهنا يكمن «إيبولا» ما بعد «الربيع العربي» الذي قطفت طهران ثماره «نفوذاً لم يتصوّره أحد».
ولمن لا يتصور، قد تجدي قليلاً مقارنة بين الدورين الروسي والإيراني في حماية النظام السوري، رغم تهجير نصف شعبه، ومقتل ما يقترب من ربع مليون. وقد تكون المفارقة السوداء فيما رئيس الوزراء السوري يزور طهران لتبديد هواجس عن مرحلة «رفع الغطاء» عن ذاك النظام، أن بعضهم يصرّ على «صراع» روسي- إيراني مرير، سيحسم قرار مَنْ يرفع يده اولاً عن مصير بشار الأسد.
ومصير الأسد شأنٌ، ومصير سورية شأنٌ آخر، لن تحسمه سوى نهايات حرب طويلة مع التكفيريين الذين جعلوا إيران شريكاً لأميركا، بالمرتبة الممتازة.
الحياة
عن «خطاب القوة والنفوذ … من اليمن إلى لبنان!/ محمد مشموشي
لا أحد يدرك ما يهدف إليه المسؤولون الإيرانيون عندما يخرجون على العالم، بين فترة وأخرى، للحديث عن «نفوذ إيران الذي يمتد من الخليج إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط»، ولا كذلك مغزى المكابرة في تضخيم هذا النفوذ وتعظيم شأنه وكيل المدائح له، عندما يجعلونه جزءاً ليس فقط من علاقات بلادهم مع العالم (ربما لمحاولة بيعه إياه؟)، إنما أيضاً في علاقاتها مع بلدان وقوى المنطقة التي تدرجها واحدة بعد أخرى باعتبارها ساحة مشمولة بهذا النفوذ. لكن لا يمكن أن يلقى مثل هذا الكلام على عواهنه، بقدر ما لا يجوز أن ينظر إليه من هذه الزاوية.
ذلك أن من عادة الدول أن تنفي، أو تلتزم الصمت، أو أقله تتحدث بخفر وحياء، عن كل ما يتعلق بنفوذ أو دور لها خارج حدودها الجغرافية.
آخر ما قيل في هذا السياق، كان التصريح الذي أدلى به قبل أيام مستشار الشؤون الدولية لـ»الولي الفقيه» علي أكبر ولايتي، وحدد فيه نطاق نفوذ بلاده بأنه «يمتد من اليمن إلى لبنان». وكان قد سبقه زملاء كثيرون له، بمناسبة ومن دون مناسبة، فأعلنوا أن قواتهم (المقصود قوات «حزب الله») باتت على تماس مباشر مع إسرائيل، وأن العراق وسورية يشكلان مع إيران والحزب «رأس الحربة» في مواجهة ما يسمى «الاستكبار العالمي»، وصولاً في المدة الأخيرة، بعد تقدم الحوثيين في اليمن، إلى القول بصفاقة إن صنعاء كانت العاصمة العربية الرابعة التي سقطت في أيدي إيران عقب شقيقاتها دمشق وبغداد وبيروت الخ…
لكن لماذا هذه المكابرة في الحديث عن نفوذ إيران في المنطقة، على افتراض صحته، خاصة على المنابر الدينية والسياسية الإيرانية وفي الإعلام؟!.
إذا قيل إن الهدف هو اطلاع دول العالم، الكبرى تحديداً، على مدى قوة «الجمهورية الإسلامية في إيران» ونفوذها في المنطقة، وبالتالي انتزاع الاعتراف بها كقوة فاعلة ومؤثرة فيها كما في العالم، فغني عن البيان أن هذه الدول تعرف جيداً حدود القوة والنفوذ هذين ولا حاجة بها إذاً إلى تصريح أو بيان من مسؤول إيراني، لتبني على رأيه موقفها من طهران من ناحية، وموقفها من أي دور يمكن أن تلعبه في الإقليم أو في العالم من ناحية ثانية.
ولعل المفاوضات النووية التي تجري بينها وبين القوى الكبرى الست منذ أكثر من عام، كما العقوبات الاقتصادية والمالية والسياسية المفروضة عليها منذ أعوام، تعني عملياً الكثير، إن بالنسبة إلى وضع إيران الداخلي، أو بالنسبة إلى دورها الإقليمي، أو بالنسبة إلى المجتمع الدولي وإمكان اعترافه بهذا الدور.
إذاً، مكابرة القادة الايرانيين في الحديث عن نفوذ دولتهم خارج حدودها، وحتى هيمنتها المباشرة ليس على دول وأنظمة حكم وأراض فيها فقط، بل أيضاً على شرائح طائفية واجتماعية وميليشيات مسلحة، إنما تهدف على الأغلب إلى أمر مختلف. أما سبب ذلك فيعود إلى أن رجال الدين الذين يحكمون هذا البلد منذ أكثر من ثلاثة عقود لم يظهروا سابقاً كمجموعة من السذج أو المبتدئين في السياسة، لا في الداخل الإيراني ولا في الخارج، ولا خاصة في الإعلام وطريقة مخاطبة الناس.
فواقع الحال أن نظام «الولي الفقيه» في إيران، لا سيما في الفترة الراهنة، يحس بأنه في حاجة إلى إعادة تمكين فئتين من رعاياه في وقت واحد: المؤمنين به والمؤيدين لسياساته في الداخل، في ظل الضائقة الاقتصادية/ الاجتماعية الخانقة التي يعانون منها وتصاعد وتيرة التململ الشعبي من فقدان الحريات العامة، وفئة المنتمين إلى المذهب الشيعي في العالم العربي الذين محضوا ثقتهم لـ»الولي الفقيه» بوصفه ممثل «الإمام الغائب» الذي طالما حدثهم عن قرب ظهوره، وتالياً قرب الخلاص بعد هذا الظهور، والذين يشاهدون بأم العين نتائج سياساته في العراق وسورية على وجه التحديد.
وليس من المبالغة في شيء أن هذا النظام حقق، لهاتين الفئتين، ما اعتبره واعتبرتاه إنجازات في خلال الأعوام الـ35 الماضية، إن في نظر دول العالم التي تحاوره حول ملفه النووي كما في شأن شبكة صواريخه العابرة للقارات وميليشياته المنتشرة في العالم، أو في نظر دول المنطقة التي تجد نفسها في حرب يومية معه، بسبب أطماعه فيها من ناحية وتواجد مواطنين من الطائفة الشيعية في الكثير منها من ناحية ثانية.
وما يريده هذا النظام، في خطاب القوة والنفوذ والغلبة الدائمة الذي يستخدمه، هو تثبيت «المؤمنين» به وبسياساته، فضلاً عن «انتصاراته الإلهية» (كما في 2006 في لبنان)، على إيمانهم، خوفاً بالدرجة الأولى من انهيار وضعه في سورية والعراق، وتحوطاً كذلك لفشل مفاوضاته المؤجلة مع الدول الست، وبالتالي بقاء العقوبات الاقتصادية والمالية على ما هي عليه لفترة أخرى.
وإذا كان صحيحاً ما يقال عن تقلص تقديمات إيران المالية للميليشيات والحلفاء في الخارج، نتيجة الضائقة التي تعاني منها، لا سيما بعد الانخفاض الكبير في أسعار النفط، وإذا كان صحيحاً في الوقت ذاته ضيق الرئيس حسن روحاني بتشدد المحافظين حول المفاوضات مع الدول الست في شأن الملف النووي والعقوبات (تعهد أخيراً بأنه سيقف في وجههم)، فلن يكون مبالغاً به اعتبار أن خطاب القوة والنفوذ والغلبة يصب في السياق إياه.
للمناسبة: لا يتحدث إعلام «حزب الله» بدوره حالياً إلا عن «رعب» إسرائيل من احتمال أية مواجهة مع الحزب الآن أو في المستقبل.
الحياة