دور موسكو في الأزمة السورية
ألان دليتروز
يؤمل الآن، ولا سيما بعد الانتهاء من الانتخابات الروسية، أن يفسح الخطاب الانتخابي بشأن الأزمة السورية المجال أمام سياسة روسية خارجية فعالة بشأن واحدة من أخطر الأزمات حاليا.
بعد «الفيتو» الذي شهرته لحماية نظام بشار الأسد في مجلس الأمن، قاطعت موسكو الاجتماع الأول لـ«أصدقاء سوريا»، معلنة بشكل لا لبس فيه أنها لن تشارك في اجتماع غير رسمي على تلك الدرجة من العدائية للرئيس السوري. إلا أنها في الوقت نفسه لم تطلق أي مبادرة دبلوماسية لنزع فتيل الوضع الذي يزداد تفجرا يوما بعد آخر. ولتصوير نفسها على أنها الصديق الحقيقي الوحيد لسوريا، فإن أفعالها تقتصر في الوقت الراهن على دعم الأسد على الرغم من إدارة الأخير الكارثية للأزمة في البلاد. إن ترك الوضع يتطور على هواه في منطقة غاية في التعقيد، قد يفضي إلى حرب أهلية واسعة النطاق ذات عواقب وخيمة لا تعد ولا تحصى، ليس على سوريا وحدها فحسب، وإنما على المنطقة بأسرها. حان الوقت لموسكو أن تنخرط على نحو بناء واستغلال أول زيارة لكوفي أنان إلى دمشق لإرسال رسالة واضحة للنظام السوري تعبر عن دعمها المطلق لمهمة الأمين العام السابق للأمم المتحدة.
لدى روسيا من الأسباب ما يكفي لتنظر بعين الريبة إلى الغرب.. أولا، ترى موسكو أنها لعبت دورا بناء عندما مررت قرار 1973 الأممي بشأن ليبيا لتتفاجأ في ما بعد بمدى انتهاك غارات منظمة حلف شمال الأطلسي لنص وروح هذا القرار والتي استمرت حتى سقط النظام واغتيل القذافي. لا تزال موسكو مقتنعة ليس بامتلاك الأسد للوسائل الكافية للبقاء في السلطة فحسب، بل وبأنه يمثل أفضل درع ضد الجماعات الجهادية التي تهدد بتفكيك سوريا. لا تثق موسكو بالمعارضة وترى أن دعم الغرب لها ينبع من غياب الوعي السياسي الذي من شأنه إغراق سوريا في حالة من الفوضى العارمة كالتي أغرقت العراق في أعقاب الغزو الأميركي. أخيرا، كانت روسيا حتى وقت قريب في خضم حملة انتخابية تعين خلالها على «الثنائي» في السلطة مواجهة اللغط الذي أثارته الطبقة الوسطى الساخطة والتي استمرت بالتظاهر على مرمى حجر من الكرملين للمطالبة بالمزيد من الشفافية والديمقراطية الحقيقية في السلطة.. وفي هذه الأجواء المتوترة، أراد بوتين ألا يظهر بمظهر اللين على الساحة الدولية.
مثلت الأزمة السورية للسلطات الروسية فرصة لتقديم نفسها كقوة عظمى ليس من خلال تصديها للغرب فحسب، وإنما أيضا في مقدرتها على حشد تأييد الصين لمواقفها. يعرض التلفزيون الروسي الوضع في سوريا على أنه وقبل كل شيء مواجهة جديدة بين الشرق والغرب لا يمكن لموسكو فيها أن تتراجع عن موقفها. وإن كان لنا أن نصدق الأخبار المسائية على القناة الأولى، فإن المشكلة الرئيسية في سوريا تكمن في تصميم الغرب، الذي ساهم في إسقاط عدة رؤساء عرب بما فيهم الحلفاء الأكثر إخلاصا لأميركا، على دمقرطة الشرق الأوسط بشق الأنفس، وخصوصا على إزاحة زعيم البلد الوحيد في المنطقة حيث لدى موسكو مصالح اقتصادية وعسكرية وجيواستراتيجية مهمة.
وتلاقي وجهة النظر تلك صدى واسعا في أوساط الفئات المجتمعية البارزة في موسكو التي تحلل وتنشر عن السياسة الخارجية الروسية.. حيث ينظر إلى الثورات العربية في المقام الأول من منظور لعبة جيواستراتيجية للكبار، تشغل فيها الصحوة الاجتماعية في العالم العربي ومطالبها بالإصلاح وردود الحكومات العنيفة، المقعد الخلفي، تاركة القيادة لمخاوف القوى الخارجية الغربية.
ثمة سؤال جوهري لا يزال ينتظر إجابة: إلى أي مدى ستستمر روسيا في دعمها لنظام يقوم بمفاقمة الأزمة يوما بعد يوم؟.. نظام تزيد أساليبه من عمق الشرخ في نسيج المجتمع السوري، وتفتح الأبواب على مصراعيها أمام الجماعات الإرهابية التي تخشاها موسكو والتي يجد فيها النظام أبطالا لروايته القائلة إنه لا يشهر سلاحه في وجه المتظاهرين السلميين، وإنما في وجه إسلاميين خطيرين. تم سرد هذه الرواية بلغة أكثر دبلوماسية لوزير الخارجية الروسي مما دفع الأخير إلى تأييد النظام السوري في الدفاع عن نفسه وفي الحفاظ على وحدة تراب بلاده.
بالطبع يمكن لموسكو بكل سهولة أن تشير إلى الأخطاء التي ارتكبها الغرب وإلى المخاطر التي ينطوي عليها نهج سيستند من جديد على الانخراط المباشر في حرب أهلية. يزيد افتتان الغرب الحالي بصحوة الشعوب العربية، بعدما ساندوا وقاموا بتسليح حكام المنطقة الأكثر استبدادا وتعطشا للدماء لعقود، يزيد من سخرية موسكو. إلا أنها حتى اللحظة لا تبدو قادرة على تقديم بديل حقيقي لمقترحات الجامعة العربية والغرب. ويظهر قصف مدينة حمص في أعقاب «الفيتو» الصيني – الروسي في مجلس الأمن كيف تفسر دمشق هذا الدعم على أنه تفويض مطلق للقمع الوحشي. يزيد هذا الدعم غير المشروط – وخاصة أنه لا يأتي مصحوبا لا بمبادرة سياسية ولا دبلوماسية من شأنها أن تجبر الرئيس الأسد على تقديم التنازلات بشأن السماح للجنة الدولية للصليب الأحمر بالوصول الفوري إلى جميع مناطق مدينة حمص مبدئيا، ومن ثم على التفاوض على رحيله – المخاطر ليس على سوريا التي يزداد عمق أزمتها فحسب، وإنما أيضا على الوجود الروسي في العالم العربي. وتستمر التكاليف السياسية والاقتصادية الناجمة عن إدارة الأسد الخرقاء للأزمة الراهنة، وتجعل من سقوطه أمرا يكاد يكون محتما.
الملايين من السوريين الذين قادهم القتل والتعذيب إلى التطرف مستعدون اليوم لفعل أي شيء لإسقاط النظام سواء كانوا يمثلون الأغلبية أو لا. ما سيحل بمصالح روسيا في سوريا التي ستنبثق من تحت الأنقاض إذا اقتصر دور موسكو على الدعم المطلق لنظام يغرق؟.. بالطبع ثمة شريحة مهمة من السوريين، وخصوصا ممن يعمل في الأجهزة الأمنية، قرروا الاستمرار في دعم الأسد مهما كان الثمن. سيمثل أخذ تطلعات كلا الطرفين في الاعتبار، واستغلال نفوذ روسيا على الأسد لعقد مفاوضات مكثفة لتأسيس مرحلة انتقالية سلمية قابلة للحياة تحديا كبيرا للدبلوماسيين الروس المخضرمين الذين يعرفون البلد جيدا مما يمكنهم من المساهمة في إيجاد مخرج للأزمة يفرضه الكبار.
ولكن قبل الدخول في عملية بهذا الحجم، يتعين على روسيا أن تستأنف لغة الحوار مع تركيا وجامعة الدول العربية والغرب. دعت موسكو علنا لوقف الأعمال العدائية، وقد أعرب بوتين عن شكه في قدرة النظام على البقاء في السلطة. يجب أن ترمي موسكو بثقلها الآن وراء الجهود التي يبذلها كوفي أنان من خلال إيفاد دبلوماسي روسي رفيع المستوى على سبيل المثال. يتعين أن تنبع قوة دفع سياسية واضحة من قمة هرم السلطة في روسيا. وهنا يكمن التساؤل المهم: هل ستتولد قوة الدفع تلك في الأيام المقبلة، لا سيما بعد زوال حمى الانتخابات في موسكو؟.. ليس ثمة ما هو أقل تأكيدا من ذلك، ولكن ليس ثمة ما نتمناه أكثر من ذلك.
* نائب رئيس «مجموعة الأزمات الدولية» في بروكسل
الشرق الأوسط