دولة البربرية
زياد ماجد
في العام 1986، لقِي ميشال سورا حتفه في الضاحية الجنوبية لبيروت، العاصمة اللبنانية التي عصفت بها الحرب الأهلية وقبضة المخابرات السورية، بعد عام على اختطافه وعلى معاينته للبربرية التي ناقشها وحلّلها في كتاباته عن سوريا.
اليوم، تذكّرنا نصوصه المجموعة في الطبعة الثانية من كتابه “دولة البربرية” بألمعيّتها وراهنيّتها رغم مضيّ ثلاثة عقود على أوّل نشر لها. ويمكن لنا التوقّف في السياق السوري الثوري عند قضيّتين عالجهما سورا في نصوصه: “العصبية” و “صراع المجتمع والدولة”.
العنصر المحرّك للنظام: العصبية
لفهم طبيعة النظام الذي أسّسه حافظ الأسد، اعتمد ميشال سورا مفهوم “العصبية” الخلدونية (أو ما أسماه دوركهايم “التكافل الآلي”). وقد أتاح له اعتماد هذا المفهوم شرح الدور الذي لعبته دوائر السلطة والجمعيات الأهلية التي أنشأها آل الأسد في عملية تحويل “الجماعة العلوية” الى طائفة سياسية، وليس فقط دينية (على نحو يعدّه سورا شبيهاً بحال بعض الطوائف اللبنانية وقتها). وقد حصلت عملية التحويل هذه بواسطة خطاب ومصطلحات، وبواسطة إحياء في الذاكرة الجمعية للنقمة على المدينة بوصفها تاريخاً من الاستغلال لأبناء الريف. وحصلت أيضاً من خلال التركيز على تنسيب الألوف من شباب الطائفة الى الجيش وأجهزة المخابرات. ثم جرى تدعيم كل ذلك عبر فرض سيطرة حزب البعث على الحياة العامة وتوظيف هيئاته من أجل إخضاع مؤسسات الدولة ومنظّمات المجتمع، وبخاصة المدينية، والتحكّم بها.
بذلك، تمكّن الأسد من إقامة عصبية مهيمنة في البلاد، تبع ترسّخها توسيعٌ تدريجي للقاعدة الاجتماعية للنظام وللشبكات الاقتصادية والنفعية (المتنوّعة الانتماءات الطائفية) المرتبطة به.
واليوم، نرى أن المسألة الطائفية كما المسائل المتعلّقة بأدوار الأجهزة العسكرية والمخابراتية وحزب البعث تبدو قويّة الحضور وأساسية لفهم ما يجري في سوريا، تلك التي ورثها إبن حافظ، بشار الأسد.
فالعصبية حاضرة كعنصر تماسك للمحافظة على النظام. وهي على الأرجح، عنصر القوّة الأساسي الذي بقي له بعد تراجع سلطته وتفكّك سطوته الرمزية وخطابه، وتقلّص قاعدته الاجتماعية وتحوّله الى مجرّد آلة قمعية منذ آذار 2011.
في المقابل، عدّلت التطوّرات الديموغرافية والاجتماعية المعطى المديني – الريفي. فلم تعد حركة الثورة مدينية كما كان سورا يصفها في مطلع الثمانينيات (من القرن الماضي). هي أيضاً ريفية، وثنائية الريف – المدينة لم تعد قادرة على اختزالها أو رسم خطوط فصل داخلها. فالخطوط المذكورة تخطّاها الجيل الجديد الذي يعيد إنتاج الفعل السياسي، إن في المناطق الطرفية الريفية، أو في المساحات التي توسّعت المدن لتضمّها، أو في قلب المدن السورية نفسها.
“المجتمع السوري ضد دولته”
إستخدم ميشال سورا “الجدلية الهيغيلة الماركسية” حول المجتمع والدولة لعنونة أحد نصوصه حول الصراع الذي نشب بين الأخوان المسلمين (والعديد من التشكيلات السياسية والنقابية الإسلامية واليسارية) وسلطة حافظ الأسد بين العامين 1979 و1982. وهو صراع انتهى الى مجازر رهيبة في مدينة حماة المتمرّدة، والى حملات اعتقال وتوقيف طالت الآلاف من المعارضين السياسيين. ونجح الأسد في نهاية الأمر، مستنداً الى العصبية في الداخل، والى غضّ الطرف أو التواطؤ في الخارج، والى الخطاب والشعارات الايديولوجية المعلنة قومية عربية وكفاحاً ضد الامبريالية والصهيونية، في تحويل الحقل السياسي السوري الى رماد والقضاء على الأخوان المسلمين داخل البلاد. لكن نجاحه كان أيضاً نتيجة عجز الأخوان عن توسيع شعبيّتهم أفقياً، وتمنّع دمشق وبرجوازيّتها عن مناصرتهم، وارتفاع جدران الخوف والصمت التي ابتناها البطش والرعب. وبذلك، صارت سوريا حيّزاً مفتّتاً، بسكّان متوحّدين، وبناس “مسحوقين بعضهم على بعض” كما يقول توصيف هنّا أرندت لماهية الطغيان وأثره في المجتمع.
وإن كانت هزيمة المجتمع السوري في بداية الثمانينات قد منعت كل محاولة فعل سياسي مواطني على مدى عقود (باستثناء ربيع دمشق القصير أواخر العام 2000 ومطلع العام 2001)، فإن الثورة السورية المستمرة منذ أكثر من عام تشكّل الانعتاق النهائي من التوحّد والموات. فمن درعا الى حمص، ومن دير الزور الى حماة، ومن دمشق الى إدلب، ومن حلب الى السلمية، ومن كفرنبل الى القامشلي، يُعيد السوريون – في مظاهراتهم اليومية وفي مقاومتهم لآلة الموت – بناء الحقل السياسي على أنقاض الخوف. يستعيدون تضامنهم المواطني وصِلاتهم الترابية ويُعيدون تملّك جغرافيتهم، حيّزهم العام، من أجل تخطّي التمزّق والتفتّت وإعادة نسج علاقاتهم الاجتماعية.
هكذا، يتحرّر المجتمع السوري يوماً بعد يوم من بقايا أثقال الطغيان. يولد من جديد، يكتشف ذاته ويكوّن ذاكرة جديدة للمستقبل. وحده الحكم الآفل بقي ما كان عليه قبل ثلاثة عقود، تماماً كما أسماه ميشال سورا: دولة البربرية.