مراجعات كتب

دولة البربرية/ ميشال سورا

 

دولة البربرية/ زيـاد مـاجد

في العام 1986، لقِي ميشال سورا حتفه في الضاحية الجنوبية لبيروت، العاصمة اللبنانية التي عصفت بها الحرب الأهلية وقبضة المخابرات السورية، بعد عام على اختطافه وعلى معاينته للبربرية التي ناقشها وحلّلها في كتاباته عن سوريا.

اليوم، تذكّرنا نصوصه المجموعة في الطبعة الثانية من كتابه “دولة البربرية” بألمعيّتها وراهنيّتها رغم مضيّ ثلاثة عقود على أوّل نشر لها. ويمكن لنا التوقّف في السياق السوري الثوري عند قضيّتين عالجهما سورا في نصوصه: “العصبية” و “صراع المجتمع والدولة”.

العنصر المحرّك للنظام: العصبية

لفهم طبيعة النظام الذي أسّسه حافظ الأسد، اعتمد ميشال سورا مفهوم “العصبية” الخلدونية (أو ما أسماه دوركهايم “التكافل الآلي”). وقد أتاح له اعتماد هذا المفهوم شرح الدور الذي لعبته دوائر السلطة والجمعيات الأهلية التي أنشأها آل الأسد في عملية تحويل “الجماعة العلوية” الى طائفة سياسية، وليس فقط دينية (على نحو يعدّه سورا شبيهاً بحال بعض الطوائف اللبنانية وقتها). وقد حصلت عملية التحويل هذه بواسطة خطاب ومصطلحات، وبواسطة إحياء في الذاكرة الجمعية للنقمة على المدينة بوصفها تاريخاً من الاستغلال لأبناء الريف. وحصلت أيضاً من خلال التركيز على تنسيب الألوف من شباب الطائفة الى الجيش وأجهزة المخابرات. ثم جرى تدعيم كل ذلك عبر فرض سيطرة حزب البعث على الحياة العامة وتوظيف هيئاته من أجل إخضاع مؤسسات الدولة ومنظّمات المجتمع، وبخاصة المدينية، والتحكّم بها.

بذلك، تمكّن الأسد من إقامة عصبية مهيمنة في البلاد، تبع ترسّخها توسيعٌ تدريجي للقاعدة الاجتماعية للنظام وللشبكات الاقتصادية والنفعية (المتنوّعة الانتماءات الطائفية) المرتبطة به.

واليوم، نرى أن المسألة الطائفية كما المسائل المتعلّقة بأدوار الأجهزة العسكرية والمخابراتية وحزب البعث تبدو قويّة الحضور وأساسية لفهم ما يجري في سوريا، تلك التي ورثها إبن حافظ، بشار الأسد.

فالعصبية حاضرة كعنصر تماسك للمحافظة على النظام. وهي على الأرجح، عنصر القوّة الأساسي الذي بقي له بعد تراجع سلطته وتفكّك سطوته الرمزية وخطابه، وتقلّص قاعدته الاجتماعية وتحوّله الى مجرّد آلة قمعية منذ آذار 2011.

في المقابل، عدّلت التطوّرات الديموغرافية والاجتماعية المعطى المديني – الريفي. فلم تعد حركة الثورة مدينية كما كان سورا يصفها في مطلع الثمانينيات (من القرن الماضي). هي أيضاً ريفية، وثنائية الريف – المدينة لم تعد قادرة على اختزالها أو رسم خطوط فصل داخلها. فالخطوط المذكورة تخطّاها الجيل الجديد الذي يعيد إنتاج الفعل السياسي، إن في المناطق الطرفية الريفية، أو في المساحات التي توسّعت المدن لتضمّها، أو في قلب المدن السورية نفسها.

“المجتمع السوري ضد دولته”

إستخدم ميشال سورا “الجدلية الهيغيلة الماركسية” حول المجتمع والدولة لعنونة أحد نصوصه حول الصراع الذي نشب بين الأخوان المسلمين (والعديد من التشكيلات السياسية والنقابية الإسلامية واليسارية) وسلطة حافظ الأسد بين العامين 1979 و1982. وهو صراع انتهى الى مجازر رهيبة في مدينة حماة المتمرّدة، والى حملات اعتقال وتوقيف طالت الآلاف من المعارضين السياسيين. ونجح الأسد في نهاية الأمر، مستنداً الى العصبية في الداخل، والى غضّ الطرف أو التواطؤ في الخارج، والى الخطاب والشعارات الايديولوجية المعلنة قومية عربية وكفاحاً ضد الامبريالية والصهيونية، في تحويل الحقل السياسي السوري الى رماد والقضاء على الأخوان المسلمين داخل البلاد. لكن نجاحه كان أيضاً نتيجة عجز الأخوان عن توسيع شعبيّتهم أفقياً، وتمنّع دمشق وبرجوازيّتها عن مناصرتهم، وارتفاع جدران الخوف والصمت التي ابتناها البطش والرعب. وبذلك، صارت سوريا حيّزاً مفتّتاً، بسكّان متوحّدين، وبناس “مسحوقين بعضهم على بعض” كما يقول توصيف هنّا أرندت لماهية الطغيان وأثره في المجتمع.

وإن كانت هزيمة المجتمع السوري في بداية الثمانينات قد منعت كل محاولة فعل سياسي مواطني على مدى عقود (باستثناء ربيع دمشق القصير أواخر العام 2000 ومطلع العام 2001)، فإن الثورة السورية المستمرة منذ أكثر من عام تشكّل الانعتاق النهائي من التوحّد والموات. فمن درعا الى حمص، ومن دير الزور الى حماة، ومن دمشق الى إدلب، ومن حلب الى السلمية، ومن كفرنبل الى القامشلي، يُعيد السوريون – في مظاهراتهم اليومية وفي مقاومتهم لآلة الموت – بناء الحقل السياسي على أنقاض الخوف. يستعيدون تضامنهم المواطني وصِلاتهم الترابية ويُعيدون تملّك جغرافيتهم، حيّزهم العام، من أجل تخطّي التمزّق والتفتّت وإعادة نسج علاقاتهم الاجتماعية.

هكذا، يتحرّر المجتمع السوري يوماً بعد يوم من بقايا أثقال الطغيان. يولد من جديد، يكتشف ذاته ويكوّن ذاكرة جديدة للمستقبل. وحده الحكم الآفل بقي ما كان عليه قبل ثلاثة عقود، تماماً كما أسماه ميشال سورا: دولة البربرية.

 

كشفها ميشال سورا في “دولة البربرية” … أساليب الأسد لحفظ النظام والطائفة/ أرليت خوري

قبل حوالى ثلاثين عاماً شكلت المجزرة المروعة التي نفذها الجيش السوري في مدينة حماه السورية محطة توقف عندها الباحث الفرنسي المستعرب ميشال سورا، وحلّل انطلاقاً منها بنية النظام السوري وركائزه الذي كان في عهدة الرئيس الراحل حافظ الأسد.

والملفت في ما كتب سورا الذي عمل وأقام في دمشق ثم بيروت حتى وفاته، هو أن هذا النظام الذي كان يعاني تأزماً منذ تلك الفترة تمكن بأساليبه وأدائه أن يحكم قبضته على سورية ويضمن استمراريته وأن هذا الأداء لا يزال مستخدماً اليوم وبعد أن تحولت مجمل الأراضي السورية إلى مسرح لمجازر يومية تفوق بوحشيتها ما شهدته حماه عام 1982.

الوقائع الدامية الدائرة في سورية اليوم تظهر كم كان سورا الذي اعتبر احد اهم المختصين في شؤون الشرق الأوسط محقاً في اختيار عنوان «دولة البربرية» لتحليله وهو العنوان الذي اعتمد للكتاب الذي صدر عن «برس اونيفرسيتر دو فرانس» ويتضمن مجموعة من كتاباته حول حكم آل الأسد.

وبانتقال الحكم من الأب إلى الابن الرئيس الحالي بشار الأسد، لم ير الأخير أي داع لتغيير نهج اثبت جدواه على مدى عقود، من دون الاكتراث للتحولات التي شهدها العالم العربي، بل العكس، فقد تستر وراء ذريعة الحداثة والتحديث إضافة إلى المفاعيل الأخرى التي اعتمدها والده أملاً بتأمين استمرارية نظامه.

يبدأ سورا تحليله بالصيغة التي اعتمدت لتبرير مجزرة حماه وتبناها الغرب عموماً ومفادها أنها «مجرد عملية جراحية لا بد منها» ضد معقل أصولي في سورية، ما جعل الدولة السورية تبدو في حينه «دولة علمانية تعمل للحداثة في مواجهة معارضة دينية ظلامية» تمثلت في ذلك الوقت بالإخوان المسلمين.

ويستعرض الباحث مدى قدرة النظام على «استغلال الانقسامات الاجتماعية بمهارة مذهلة» وعلى «اللعب على كل الازدواجيات من دون السماح لأي منها بالسيطرة»، فاستغل المشاكل الطائفية وصراع الطبقات والنظام العسكري وحكم البعث والإسلام التقدمي والإسلام الرجعي، وأيضاً اليمين واليسار والشرق والغرب وفلسطين وإسرائيل، مستخدماً كل ذلك لأحكام قبضته على البلاد.

وفي مواجهة الحركة الشعبية التي بلغت أوجها في تلك الفترة استنفر النظام الأجهزة البيروقراطية للمجتمع من نقابات واتحادات وقوى سياسية منضوية في إطار «الجبهة الوطنية التقدمية»، وأيضاً الحركات الحليفة في العالم العربي مثل الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية.

ومن منطلق تزويد نفسه بعمق دولي وقع معاهدة صداقة مع الاتحاد السوفياتي ودعمها بتحالف استراتيجي مع الثورة الإيرانية من منطلق الرابط التاريخي بين الطائفتين العلوية والشيعية.

واعتبر سورا أن التجزئة على طريقة «فرّق تسدْ» شكلت مصدر القوة الرئيسي للنظام الذي أوكل دوراً محورياً على هذا الصعيد إلى احد أشقاء الرئيس الراحل، جميل الأسد، الذي عمل على تطبيق هذا التوجه عبر جمعية «علي المرتضى» التي استمالت القبائل المختلفة والمتناحرة وعملت في الوقت ذاته على تقليب سكان الريف على سكان المدن.

لعب النظام السوري وفقاً لسورا على التناقضات بين القوى والطبقات الاجتماعية وعلى كل المستويات ومن كل الزوايا، ليحصر الجميع ضمن صيغة مفادها أن المشكلة ليست مشكلة صراع بين أكثرية وأقلية لأنه في سورية «ما من طرف إلا ويمثل أقلية بالنسبة إلى الآخر» بحيث أن الأقليات تتمحور جميعها حول النظام «وفقاً لمبدأ العصبية الجماعية»، وهو ما يبرز وجود «دولة قوية ومستقرة».

ويلفت سورا إلى التباين بين العلويين (10 في المئة من الشعب السوري) والغالبية المؤلفة من حوالى 70 في المئة من السنّة، الذي يشكل تناقضاً جوهرياً جعل الإخوان المسلمين يعتبرون أن سورية عرضة لمؤامرة تهدف إلى الإبقاء على العلويين في موقع السيطرة فيما حزب «البعث» والجيش هما مجرد أدوات في أيديهم.

وهو يشارك الإخوان في موقفهم هذا، إذ يقول انه بدافع تحصين الطائفة العلوية وتحصين صفوفها انصب نشاط جمعية «علي المرتضى» على تحويل الطائفة العلوية إلى «طائفة سياسية متمحورة حول «شخصية علوية» وذلك بحجة الحداثة. ويرى أن الجيش شكل مجالاً للتجنيد لمصلحة «العصبية» ما اقتضى التحقق من انه «لا يوجد في داخله أي قوة كفيلة بتهديد النظام». واستخلص من هذا المنطلق أن النظام سيعرف «وجوداً مديداً» ما لم يحصل ما هو مفاجئ مثل «الاعتداء على شخص الرئيس».

أما «البعث» فهو في رأي سورا «الواجهة المدنية للنظام» إذ إن المؤتمر الذي عقده الحزب في كانون الثاني (يناير) 1979 أطاح «أي أوهام» حول «إمكانية انفتاحه سياسياً على الكتلة السنّية» بداخله، وضمت شخصيات من أمثال رئيس الأركان السابق حكمت الشهابي ووزير الدفاع السابق مصطفى طلاس وغيرهما، وهؤلاء تحولوا عبر المؤتمرات المتتالية إلى «رهائن سنّة لدى الأقلية الحاكمة». ولفت سورا إلى أن المشرف على تنظيم مؤتمر العام 1979 كان الشقيق الآخر للرئيس، رفعت الأسد، الذي استبدل ببساطة مبدأ «المركزية الديموقراطية» التي تقضي بانتخاب المندوبين الحزبيين من القاعدة بمبدأ آخر يقضي بساطة بتعيينهم من القيادة.

بهذه الطريقة «ضبط البعث صفوفه» لكنه لم يتجاوز وفق سورا «الإفلاس السياسي للنظام» الذي برز عبر الانتخابات الاشتراعية في عام 1981 إذ اقتصرت نسبة المشاركة فيها على 4 في المئة من السكان، ففي سورية كما في المشرق إجمالاً «تعمل الأحزاب على طريقة العصابات وتعمل الدول على طريقة المنظمات السياسية» متسترة بشعارات مطلقة.

هكذا فإن النظام السوري صنف نفسه «الوريث الكوني للحركة الوطنية العربية» و»التجسيد الملموس للدولة الحديثة اللاطائفية» بهدف صيانة الطائفة العلوية «عصبيتها» بما يفقد الطوائف الأخرى «عصبياتها من منطلق «ايديولوجيا البناء الوطني»، ودائماً «التحديث» بما يقتضي تخلي الكل عن تمايزه «كشرط للوحدة والمساواة في المجتمع المدني».

ويؤكد سورا أن الطائفة بالتالي تحل فعلياً محل الحزب ما يؤدي إلى تردٍ على صعيد النظام السياسي وتأزم الحزب، في حين أن ما تحتاج سورية هو «نظام سياسي حقيقي» و«ديموقراطي» ينقذ النظام والمجتمع المهددين بالانفجار.

هذا التحليل المفصّل لبنية النظام السوري لم يعد ربما يكشف عن خفايا في أيامنا هذه، في ضوء ما خبره العالم من دهاء ودموية أثبتهما النظام السوري، لكن ما تجرأ على كتابته سورا كسر محظوراً كان سائداً في العالم اجمع قبل ثلاثين عاماً وهو ما دفع حياته ثمناً له في احد أقبية الضاحية الجنوبية لبيروت حيث توفي في 1985 بعد حوالى عام على اختطافه من «منظمة الجهاد الإسلامي اللبنانية».

 

الدولة البربرية في سوريا – نظام حكم يقوم على طائفة واحدة/ سفيان الحمامي

كان أفضل وصف لنظام الحكم في سوريا منذ عقد 1980 ما كتبه الباحث الفرنسي المتميز ( ميشيل سورا ) بعنوان ( الدولة البربرية ) وذلك عندما درس بمنهجية تحليلية رائعة (نظام الحكم في سوريا وأصدر آرائه في نصوص- سوريا اليوم ) التي نشرت في كتاب (الدولة البربرية ) ، حينذاك تمّ خطفه من قبل المخابرات السورية في لبنان ،ومن ثم قتله كونه إنتقد النظام السوري المجرم .

لقد أعاد ( سورا ) تفسير نظرية العالم العربي ( إبن خلدون ) في فهم نظام حكم حافظ الأسد القائم على (العصبية ) والتي أسماها عالم الاجتماع الفرنسي ( اميل دوركهايم – التعاضد الميكانيكي )، وهذا يعني أن السلطة في نظام الحكم السوري قامت على إستثمار عصبية الطائفة العلوية لتعزيز أركان النظام ،وحوّل العصبية الطائفية الدينية إلى طائفة سياسية عبر خطاب سياسي خفي مخصّص لأبناء الطائفة وإعادة تفعيل الذاكرة الجماعية الحبلى بالعداء للغالبية السنّية ومكونات الشعب الأخرىفي سوريا ، وعبر تجنيد الشباب من أبناء الطائفة في أجهزة الجيش والأمن والحزب وإدارات القطاع العام ، ثم صهر الطائفة في مجموعات وشبكات المصالح الإقتصادية لتعزيز سلطة الطائفة ماليا إلى جانب السلطات السياسية والعسكرية والأمنية .

لقد بنى حافظ الأسد نظاما طائفيا كريها كما كتب (ميشيل سورا )، واكمل إبنه بشار بناء ذلك النظام إستنادا إلى عصبية الطائفة ليضمن قاعدة الولاء لنظامه من أبنائها ، وظهر ذلك جليا في فرص الوظائف الحكومية التي كانت تعطى ( وفق إحصاءات صحيحة سرية )بنسبة لا تقل عن 70 % لأبناء الطائفة العلوية على مستوى سوريا وحتى في المحافظات والمدن والبلدان والقرى التي لا يتواجد فيها شخص واحد من أبناء الطائفة العلوية إضافة إلى منح فرص الإنتساب للجيش السوري وأجهزة الأمن العديدة بشكل شبه حصري لأبناء تلك الطائفة ، وكذلك الأمر في الأعمال التجارية والإقتصادية التي كانت محصورة بأبناء عائلته ومن ثم طائفته بمشاركة بعض المرتزقة من أبناء مكونات الشعب السوري الأخرى ، مما سبّب مواقف عدائية جراء الحرمان والإحباط من بقية مكونات الشعب السوري وخاصة الأغلبية السنية بأنها غريبة في وطنها ومهمّشة ومقهورة وتعاقب على أية كلمة تعبّر عنها حين المطالبة بحقوقها من أجهزة القمع ذات اللون الطائفي الواحد التي تخص أركان نظام الحكم.

لكن مسار الثورة السورية وضع المجتمع ضد الدولة في حالة فريدة في تاريخ الثورات البشرية ، عبر خروج هذا الشعب من قمقم التسلّط والقمع والترهيب إلى المطالبة بالحقوق الإنسانية أولا ثم السياسية ثانيا ثم تغيير نظام الحكم العائلي والطائفي لاحقا ، وتجلّى ذلك بالتضامن والتنسيق المجتمعي بين تنسيقيات الثورة في كافة المحافظات السورية قاطبة ( درعا ، حمص ، حماه ، ادلب ، حلب وريفها ، دمشق وريفها ، دير الزور ، الحسكة ، بانياس ، جبلة والحفة واللاذقية ،السويداء ،الرقة، الخ ) .

لقد أعلن السوريون عبر مظاهراتهم المتزامنة في أيام الجمعة وفي أيام التضامن الأخرى أن المجتمع السوري رفض سلطة الدولة القائمة على نظام الحكم العائلي والطائفي ، وأنهم يسعون لبناء نظام حكم وطني يقوم على المواطنة والعدالة والحقوق والواجبات المتساوية .

وبالعودة إلى طبيعة نظام الحكم البربري،فقد قدمت الدكتورة( أرليت القاضي) عرضا متميزا لما قام به ( ميشيل سورا ) وذلك في مقال في صحيفة الحياة اللندنية في 5 اكتوبر 2013 بقولها :

قبل حوالى ثلاثين عاماً شكلت المجزرة المروعة التي نفذتها وحدات طائفية من الجيش السوري في مدينة حماه السورية محطة توقّف عندها الباحث الفرنسي المستعرب ميشال سورا، وحلّل انطلاقاً منها بنية النظام السوري وركائزه الذي كان في عهدة حافظ الأسد.

والملفت في ما كتب (سورا )الذي عمل وأقام في دمشق ثم بيروت حتى وفاته، هو أن هذا النظام الذي كان يعاني تأزماً منذ تلك الفترة تمكن بأساليبه وأدائه أن يحكم قبضته على سورية ويضمن استمراريته وأن هذا الأداء لا يزال مستخدماً اليوم وبعد أن تحولت مجمل الأراضي السورية إلى مسرح لمجازر يومية تفوق بوحشيتها ما شهدته حماه عام 1982.

الوقائع الدامية الدائرة في سورية اليوم تظهر كم كان (سورا) وهو أحد أهم المختصين في شؤون الشرق الأوسط محقاً في اختيار عنوان «الدولة البربرية» لتحليله وهو العنوان الذي اعتمد للكتاب الذي صدر عن «برس اونيفرسيتر دو فرانس» ويتضمن مجموعة من كتاباته حول حكم آل الأسد.

بانتقال الحكم من الأب إلى الإبن بشار ، لم ير الأخير أي داع لتغيير نهج أثبت جدواه على مدى عقود، من دون الاكتراث للتحولات التي شهدها العالم العربي، بل العكس، فقد تستر وراء ذريعة التطوير والتحديث إضافة إلى المفاعيل الأخرى التي اعتمدها والده أملاً بتأمين استمرارية نظامه.

يبدأ (سورا ) تحليله بالصيغة التي اعتمدت لتبرير مجزرة حماه وتبناها الغرب عموماً ومفادها أنها «مجرد عملية جراحية لا بد منها» ضد معقل أصولي في سورية، ما جعل الدولة السورية تبدو في حينه «دولة علمانية تعمل للحداثة في مواجهة معارضة دينية ظلامية» تمثلت في ذلك الوقت بالإخوان المسلمين.

ويستعرض الباحث مدى قدرة النظام على «استغلال الانقسامات الاجتماعية بمهارة مذهلة» وعلى «اللعب على كل الازدواجيات من دون السماح لأي منها بالسيطرة»، فاستغل المشاكل الطائفية وصراع الطبقات والنظام العسكري وحكم البعث والإسلام التقدمي والإسلام الرجعي، وأيضاً اليمين واليسار والشرق والغرب وفلسطين وإسرائيل، مستخدماً كل ذلك لأحكام قبضته على البلاد.

وفي مواجهة الحركة الشعبية التي بلغت أوجها في تلك الفترة استنفر النظام الأجهزة البيروقراطية للمجتمع من نقابات واتحادات وقوى سياسية منضوية في إطار «الجبهة الوطنية التقدمية»، وأيضاً الحركات الحليفة في العالم العربي مثل الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية التابعة له .

ومن منطلق تزويد نفسه بعمق دولي وقع معاهدة صداقة مع الاتحاد السوفياتي ودعمها بتحالف استراتيجي مع الثورة الإيرانية من منطلق الرابط التاريخي بين الطائفتين العلوية والشيعية.

واعتبر (سورا )أن التجزئة على طريقة «فرّق تسدْ» شكلت مصدر القوة الرئيسي للنظام الذي أوكل دوراً محورياً على هذا الصعيد إلى أحد أشقاء الرئيس ، جميل الأسد، الذي عمل على تطبيق هذا التوجه عبر جمعية «علي المرتضى» التي استمالت القبائل والعشائر السورية البدوية المختلفة والمتناحرة وعملت في الوقت ذاته على تأليب سكان الريف على سكان المدن.

لعب النظام السوري وفقاً (لسورا )على التناقضات بين القوى والطبقات الاجتماعية وعلى كل المستويات ومن كل الزوايا، ليحصر الجميع ضمن صيغة مفادها أن المشكلة ليست مشكلة صراع بين أكثرية وأقلية لأنه في سورية «ما من طرف إلا ويمثل أقلية بالنسبة إلى الآخر» بحيث أن الأقليات تتمحور جميعها حول النظام «وفقاً لمبدأ العصبية الجماعية»، وهو ما يبرز وجود «دولة قوية ومستقرة».

ويلفت (سورا )إلى التباين بين العلويين (10 في المئة من الشعب السوري) والغالبية المؤلفة من حوالى 70 في المئة من السنّة، الذي يشكل تناقضاً جوهرياً جعل الإخوان المسلمين يعتبرون أن سورية عرضة لمؤامرة تهدف إلى الإبقاء على العلويين في موقع السيطرة فيما حزب «البعث» والجيش هما مجرد أدوات في أيديهم.

وهو يشارك الإخوان في موقفهم هذا، إذ يقول انه بدافع تحصين الطائفة العلوية وتحصين صفوفها انصب نشاط جمعية «علي المرتضى» على تحويل الطائفة العلوية إلى «طائفة سياسية متمحورة حول «شخصية علوية» وذلك بحجة الحداثة. ويرى أن الجيش شكّل مجالاً للتجنيد لمصلحة «العصبية» ما اقتضى التحقق من أنه «لا يوجد في داخله أي قوة كفيلة بتهديد النظام».

واستخلص (سورا )من هذا المنطلق أن النظام سيعرف «وجوداً مديداً» ما لم يحصل ما هو مفاجئ مثل «الاعتداء على شخص الرئيس وقتله ».

أما حزب «البعث» فهو في رأي (سورا ) مجرد «الواجهة المدنية للنظام» إذ إن المؤتمر الذي عقده الحزب في كانون الثاني (يناير) 1979 أطاح «أي أوهام» حول «إمكانية انفتاحه سياسياً على الكتلة السنّية» بداخله، وضمت شخصيات من أمثال رئيس الأركان السابق حكمت الشهابي ووزير الدفاع السابق مصطفى طلاس وعبد الحليم خدام وغيرهم، وهؤلاء تحولوا عبر المؤتمرات المتتالية إلى «رهائن سنّة لدى الأقلية الحاكمة». ولفت (سورا ) إلى أن المشرف على تنظيم مؤتمر العام 1979 كان الشقيق الآخر للرئيس، رفعت الأسد، الذي استبدل ببساطة مبدأ «المركزية الديموقراطية» التي تقضي بانتخاب المندوبين الحزبيين من القاعدة بمبدأ آخر يقضي ببساطة بتعيينهم من القيادة.

بهذه الطريقة «ضبط البعث صفوفه» لكنه لم يتجاوز وفق ( سورا ) حالة «الإفلاس السياسي للنظام» الذي برز عبر الانتخابات الاشتراعية في عام 1981 إذ اقتصرت نسبة المشاركة فيها على 4 في المئة من السكان، ففي سورية كما في المشرق إجمالاً «تعمل الأحزاب على طريقة العصابات وتعمل الدول على طريقة المنظمات السياسية» متسترة بشعارات مضللة مطلقة.

هكذا ، فإن النظام السوري صنّف نفسه «الوريث الكوني للحركة الوطنية العربية» و«التجسيد الملموس للدولة الحديثة اللاطائفية» بهدف صيانة الطائفة العلوية «عصبيتها» بما يفقد الطوائف الأخرى «عصبياتها من منطلق «ايديولوجيا البناء الوطني»، ودائماً «التحديث» بما يقتضي تخلي الكل عن تمايزه «كشرط للوحدة والمساواة في المجتمع المدني».

ويؤكد (سورا )أن الطائفة بالتالي تحل فعلياً محل الحزب ما يؤدي إلى تردٍ على صعيد النظام السياسي وتأزم الحزب، في حين أن ما تحتاج سورية هو «نظام سياسي حقيقي» و«ديموقراطي» ينقذ النظام والمجتمع المهددين بالانفجار.

هذا التحليل المفصّل لبنية النظام السوري لم يعد ربما يكشف عن خفايا في أيامنا هذه، في ضوء ما خبره العالم من دهاء ودموية أثبتهما ذلك النظام ، لكن ما تجرأ على كتابته (سورا )كسر محظوراً كان سائداً في العالم أجمع قبل ثلاثين عاماً ، وهو ما دفع حياته ثمناً له في أحد أقبية الضاحية الجنوبية لبيروت حيث توفي في 1985 بعد حوالى عام على اختطافه من قبل «منظمة الجهاد الإسلامي اللبنانية» الموالية لنظام آل الأسد وإحدى فصائل المرتزقة التي يعتمد عليها .

لكن ، من المؤسف أن موقف فرنسا / الدولة العظمى كان آنذاك تهادنيا مع تلك الدولة البربرية ونظام حكم عائلة الأسد الطائفي ، خشية من امتداد أفعاله الإجرامية إلى الأراضي الفرنسية ، وعملا بحكمة أن الشخص المحترم يتجنب الصراع مع الزعران لأنه سيخسر في الحالتين ، أن ربح فهو يوصف بأنه يصارع الزعران وهذا معيب وإن خسر فإنه يفضح نفسه بأنه واجه زعران وخسر أمامهم ، وقاد ذلك الموقف الدولة الفرنسية آنذاك إلى الاكتفاء بفرض عقوبات على نظام آل الأسد البربري ، لكن هل تنفع العقوبات مع هكذا نظام متوحش ؟ بالعكس ، هو يعتبرذلك نصرا له وراحة واستقلالية في استكمال أفعال الزعرنة في أي موقع ومكان دون رادع أو محاسب .

هل اتعظت فرنسا والدول العظمى من تلك التجربة المتوحشة لنظام آل الأسد ، الحكم للقارئء ؟

 

ميشيل سورا و باتريك سيل

مشروع طاولة مستديرة حول نظام البنية المستعصية في سورية

أنس فاعور

في الخامس من آذار ١٩٨٦ أعلنت منظمة أطلقت على نفسها اسم ” الجهاد الإسلامي في لبنان “(١) إعدامها الباحث الفرنسي ميشيل سورا بعد أن اختطف مع مجموعة من الرهائن الفرنسيين منذ ٢٢ أيار ١٩٨٥ و كان هو وحده ضحية حكم الإعدام. عندما نتساءل لماذا ؟ و لماذا شطب اسم ميشيل سورا و كأنه لم يكن و لماذا كل هذا التنكر لميشيل سورا ؟ يكون الجواب في ذلك الكتاب الذي صدر بعد وفاته (٢) ” الدولة المتوحشة ” و الذي قدم فيه قراءة نقدية واقعية مبكرة للواقع السوري كلفه حياته مثبتاً للعالم أن المعركة ضد الظلم و الاستبداد و البربرية و العنصرية معركة إنسانية ليست حكر للون أو دين أو فكر أو جماعة و مقدماً نموذجاً عز تكراره لمناضل جمع بين النضال من أجل الحقوق الفلسطينية بالوسائل السلمية و النضال من أجل كشف مظالم الشعب السوري في ظل تلك الدولة المتوحشة على عكس المناضلين العرب الذين فقدوا بوصلتهم و ضحوا بالشعب السوري من أجل الحقوق الفلسطينية على هامش أكذوبة قلعة الصمود و التصدي التي لم تنطلي على سورا في الوقت الذي انخدعوا ببريقها الكاذب و فتنوا حتى كلما إستبرق لهم مشوا فيه فكادوا ينسوا أنهم جاؤوها مناضلين شرفاء فمضوا إليها و مضى ميشيل سورا في ما آمن به منذ أن ترك باريس ليحل في لبنان بعد دمشق مدافعاً عما تراءى له من أنه الحق فجند له عقله و قلبه و قلمه و أخيراً جسده و روحه و كأنه هو المقصود فيما قاله الشاعر أحمد شوقي عن الليبي عمر المختار:

خيرت فاخترت المبيت على الطو       ى لم تبن مالا أو تلم ثراء

و لكي نفهم هذه الظاهرة الفريدة التي جسدها هذا المناضل الفرنسي و الباحث الجريء و في محاولة لاستحضاره في وقت تجاهله الكثيرون حتى في الظروف الأخيرة التي يجب أن يذكر فيها و لعلي الآن أحاول في هذه المقالة المتواضعة أيضاً تلمس شخصية ” الدولة المتوحشة ” كما سماها ميشيل سورا في محاولة لتلمس أبرز ملامح الأزمة السورية الراهنة التي كان من أوائل من دقوا ناقوس الخطر فيها لأنها ليست وليدة اللحظة بل هي استمرارية تاريخية لأزمة مستعصية بدأت و تطورت منذ منتصف الستينات و لعله يكون من المفيد عقد طاولة مستديرة لفهم هذه الحقائق الإشكالية تجمع صاحبنا ميشيل سورا و نظيره الإنكليزي باتريك سيل الشهير تقارن بين ما يطرحانه و ما يبدو من تناقض ظاهر رغم التطابق الباطن الذي سننتهي إلى توضيحه و لكن يكون أيضاً من الأجدى توسيع هذه الطاولة لنستكشف خلالها ما طرحه باحثون آخرون سوريون و عرب و غربيون حول ملامح هذه الأزمة الراهنة عبر إعادة اكتشاف دقيق للصراعات و للذكريات الخاصة بها أي عبر مزاوجة بين المعارف العميقة و معارف الناس بعد إزاحة و رفع طغيان و هيمنة الخطابات الكلية و الدوغماتية مع تراتيبها و أفضلياتها كطلائع نظرية أي بشكل أوضح مزاوجة بين المعارف العميقة و الذكريات المحلية التي تشكل الترمومتر الأنجع لسبر حقيقة هذه المعارف كما تقول الحكمة الصوفية ” أقلام الحق ألسنة الخلق ” و هذه المزاوجة تسمح بتأسيس معرفة تاريخية جينيالوجية لتطور الأزمة مع توظيفها في فهم الأحداث الحالية و استشراق المستقبل.

في صباح الثامن من آذار ١٩٦٣ أذاع صابر فلحوط (٣) الأمر العسكري رقم \٢\ بإعلان حالة الطوارئ في

البلاد إلى إشعار أخر بعد تشكيل مجلس قيادة الثورة و حكومة تنفذ سياسات المجلس. (٤) و بخلاف الانقلابات العسكرية السابقة التي شهدتها سورية و التي كان فيها الجيش أداة لحسم الصراعات السياسية بين القوى المتنافسة وضع انقلاب آذار البلاد بين أيدي العسكر فتحول الجيش لا إلى قوة أساسية في الحكم بل إلى قوة الحكم الأساسية و بمقدار ما أخذ الجيش يتسيس أخذت السياسة تتعسكر ذلك أن جناح الحزب الذي كان ضعيفا و قليل العدد إذ لم يكن عدد أعضائه عند قيام الانقلاب يزيد عن ٤٠٠ عضو بل كان أقل بكثير. (٥)

و كانت النتيجة تغول الأجهزة العسكرية و الأمنية التي لم تعد آلة للحرب بل أصبحت تلتهم أكثر من ثلثي ميزانية الدولة (٦)تحت بند (الأمن القومي ) المزعوم و يشخص ذلك سورا: ” آلة الحرب ليس غرضها الحرب إن لها منشأ أخر هي تنظيم أخر غير جهاز الدولة و هي ضد الدولة بمنشئها البدوي فإذا عدنا عن فهم البداوة بمعناها الضيق المأخوذ به عموماً لنفهمها في علاقتها ب ” داخل ريفي واسع و منحدر جبلي و بور فسيح حول إحدى المدائن ” و ذلك التصدع الذي يكون مستوى أخر لقراءة الواقع السوري و الاحاطة بالأزمة و الذي ينطوي على أهمية كبيرة رغم أنه غالباً مهمل. (٧)

ربما تكون هذه الحقيقة مفتاحية لسبر أغوار النظام الشمولي في دمشق حيث ترافق تشكل هذا النظام مع انهيار البرجوازية الوطنية في نهاية الخمسينات و بداية الستينات و صعود نخبة قيادية من أصول ريفية حلت مكانها و هذا ما أدى إلى تغيير وظيفي في أسلوب بناء هذا النظام الشمولي على نحو أفدح و أجسم من أي نظام شمولي أخر كالأنظمة الشيوعية السابقة في أوروبة الشرقية حيث كان عمل هذا النظام على التركيز الشامل للسلطة من جهة و نظام العصبية من جهة أخرى بشكل ضاعف من تراكم القوة و شكل محرك انفجاري لتسريع النقل الخالص للسلطة و الثروة في زمن قياسي احتاج إلى حوالي ثلاثين عام رغم أنه يجب أن يستغرق قرن من الزمن في الحالات العادية. (٨) حاصل القول بأن ذاك المحرك الذي رافق تشكل النظام الشمولي أنتج تلك الطبقة الجديدة إنتاجا وعراً و قسرياً ترك أثاره المدمرة على الواقع السوري بما ينطوي عليه تكوينها من اغناء لها و إفقار مقابل لباقي فئات الشعب السوري و لقد أوضح ظروف تكونها باتريك سيل في كتابه المعروف: ” الأسد: الصراع على الشرق الأوسط ” فيقول: ” و على قمة الهرم الاجتماعي كانت هناك مجموعة قليلة من ذوي الثراء الفاحش تثير الغيرة و الغضب و تعيش في عالم بعيد جداً عن عالم الجماهير الكادحة و حتى عن الطبقة الوسطى ذات الرفاه المعقول من رجال المهن و صنا عيي القطاع الخاص و التجار و في معظم الحالات كان أولئك الأغنياء من أصول و خلفيات فلاحية أو برجوازية ممن بنوا مع الأسد الدولة البعثية و لكنهم تخلوا منذ زمن طويل عن أي تظاهر بالمثل الاشتراكية و كان أفراد هذه المجموعة منتسبين إلى المراتب العليا في الجيش و أجهزة الأمن و الحزب و الحكومة و بامكانهم الوصول إلى واردات و خزائن الدولة بطرق شرعية و غير شرعية فكانوا يمتازون بقدرتهم على شراء ما يريدون و التصرف كما يشاءون دون أن يحسبوا حساباً للرأي العام و لا لتعليمات الدولة و طوال سنوات قامت هذه المجموعة بحلب الميزانيات و حصلت على حصص من المشروعات الحكومية و شغّلت أبنائها في العمل الحر و عقدت صفقات فيها نسب مئوية مع كل وكلاء المجهزين الأجانب و نصبت صنائعها في شركات القطاع العام و ضاربت في سوق العقارات و الأراضي و خلقت أرباحاً و كونت مزيداً من الثروات و كانت بعض هذه الثروات ضمن القانون و بعضها الأخر خارجاً عليه و كانت فعالياتهم غير مقيداً أبداً و كانت شبكة التعامل التي أقاموها بين الرعاية و العمولات و تبادل المنافع من الامتداد الأخطبوطي بحيث تحدث بعض الناس عن ” المجمع التجاري العسكري ” و حتى عن طبقة حاكمة جديدة عدد أفرادها عدة ألاف. (٩) و ما رواه باتريك سيل عن الطبقة الحاكمة الجديدة و تشكل القطاع الخاص الجديد في سورية يتطابق روحياً مع ما رواه أيضاً الكاتب الأمريكي فلنت ليفريت بأن بشار الأسد قال له عندما إلتقاه في دمشق بأن الحرس القديم في سورية ليس اثنين أو ثلاثة أشخاص يمتلكون مناصب رفيعة في أعلى النظام بل هم حرفياً ألاف البيروقراطيين العاديين و المتحجرين على امتداد النظام و الذين تخندقوا في مواقعهم على مر السنين و العقود و ليست لديهم أية مصلحة في أن يسير أي شيء على نحو مختلف و أكثر من هذا الحرس القديم هو أيضاً القطاع الخاص الذي لا يحمل من صفة القطاع الخاص إلا الاسم و الذي يواصل الوجود في علاقة جينية مع هذه البيروقراطية المتخندقة و هذه هي العقبة الحقيقية أمام التغيير في سورية. (١٠) وقد نجد الإجابة بسرعة على شبهة بشار بذلك القطاع الخاص لأنه صنيع أولئك الذين حلبوا الميزانيات و مرروها إلى أبنائهم ليشكلوا ذلك القطاع الخاص كما بين لنا باتريك سيل و من هنا نحيط ببعض جوانب الفرق بين الحرس القديم و الجديد كمفهومين ضبابيين نجد التباس لفهما و التمييز بينهما هذه الأيام و الذي يشكلان بالمحصلة تلك الطبقة الحاكمة الجديدة التي تحدثنا عنها و قد بدء هذا الواقع ‏بالتبلور كما سبق و أشرنا منذ نهاية الخمسينات و بداية الستينات و لا سيما منذ انقلاب ٢٣ شباط ١٩٦٦ حيث قامت ‏حكومة متشددة جذرياً عملت على إعادة تركيب المجتمع من السقف إلى القاع و من المؤكد أن حافظ الأسد كان يؤيد ‏من قلبه الهدف العام العريض لقلب تركيب سورية الاجتماعي و السياسي و الاقتصادي (١١) و قد لا يستغرب ‏المراقب للأمور بأنه قنن متابعة إشرافه المباشر على هذا الانقلاب حيث قام الحقوقي إبراهيم فوزي و غيره من ‏الحقوقيين المقربين من حافظ الأسد بتفصيل الدستور انطلاقاً من فكرة مخاطر السلطة القضائية (البرجوازية ) على ‏استقرار سلطة الرئيس لذا أعدوا نصاً مغلقاً لسلطة تسلطية تستفرد بزمام الأمور (١٢) فكان له بذلك تمرير دستور ١٩٧٣ الذي ترجم تلك ‏السلطة التسلطية إلى ترأسه و من بعده وريثه ابنه بشار للسلطات الثلاث التنفيذية و التشريعية و القضائية دون منافس ‏أو رقيب و متحصناً بالعديد من القوانين و المحاكم الاستثنائية (١٣)بحيث تمكن من السير بقوة في متابعة تنفيذ ‏هذا الانقلاب الديناميكي المسير.‏‎ ‏ ‎

و هذه الحقائق الواضحة هي المدخل الأوحد لفهم أحداث الثمانينات بحكم العلاقة الحميمة التي تربط هذين الحدثين و لذلك نجد باتريك سيل يعكف على الربط بينهما و يربط ذلك الشرخ الطبقي بأحداث الثمانينات كمسبب أساسي و رئيسي لكل ما حدث و لكنه ذهب إلى أبعد من ذلك في تشخيص بذور المشكلة فوصف ذلك الانقلاب الطبقي الذي تم في سورية ب”الانتقامي ” (١٤) و ضيق الأفق لا بل أنه ذهب إلى أبعد من ذلك حيث وصف النزعة اليسارية في حزب البعث العربي الاشتراكي باليسارية ذات الأصول المحلية و التي لم تتشكل بإيحاء خارجي له علاقة بالاتحاد السوفيتي و الكتلة الشرقية السابقين (١٥)و هذه معضلة رئيسة قل من أدركها حول حقيقة تلك النزعة اليسارية و التي أدرجت في أدبيات البعث تحت اسم اليسار الطفولي ( أو كما سماه أيضاً باتريك سيل ضيق الأفق ) فقط لتبرير انقلاب ١٦ تشرين الثاني ١٩٧٠و قد سبق و وضحنا التجانس الفكري لطرفي الصراع في المرحلة التي سبقت هذا الانقلاب المسمى ” الحركة التصحيحية « و العلة الأكبر أن الكثيرين من الكتاب العرب أخذوا يعلقون كل مصائب سورية على اليسار السوري برمته و ليس على ذلك اليسار بإيحاء محلي أو ذلك اليسار المقيت الذي تماهى مع السلطة في صيغة الجبهة الوطنية التقدمية بسبب التباس بين ذلك ” الانقلاب الطبقي الانتقامي ” و الطروحات اليسارية العالمية حول الصراع الطبقي و ربما بشكل أدق ” العدالة الطبقية ” بالمفهوم الماوي و قد يكون أخر المتحدثين الكاتب غسان الإمام في مقالة نشرتها صحيفة الشرق الأوسط اللندنية بتاريخ ٣ أيار ٢٠٠٥ إذ يقول: ” بعد موجة مثقفي الأربعينات القوميين جاء مثقفو الستينات الماركسيون الذين نظروا لكوميونة صلاح جديد ” رغم أن عنوان مقالته ” إشكالية الهلال السني في سورية ” يوحي لنا بالمشكلة الطائفية في سورية بيت القصيد في فهم تلك الإشكالية الطبقية و تماشياً مع هذه الحقائق نجد أن باتريك سيل يقول في روايته لأحداث الثمانينات في الفصل التاسع عشر من كتابه” الأسد: الصراع على الشرق الأوسط ” تحت عنوان فصلي ” العدو الداخلي «: ” و مع تضخم الموازنات السورية تكاثرت مشاريع التنمية و تصاعد الاستهلاك على الأقل عند بعض الناس في عام ١٩٦٣ كان في سورية ٥٥ مليونيراً – بالليرات السورية أما في عام ١٩٧٣ فقد كان عددهم ألفاً و أصبح ٢٥٠٠ مليونيراً في سنة ١٩٧٦ و كان عشرة بالمائة منهم يملك الواحد منهم أكثر من مائة مليون ليرة سورية (أي ما يعادل ٢٥ مليون دولار أمريكي بسعر صرف آنذاك ) و شكل أصحاب الملايين السريعة لب الطبقة البرجوازية الجديدة و قد أثرى كثيرون منهم من العمولات و من إعادة الأموال المسلفة لأغراض غير مشروعة و حتى من السرقات التي أصبحت ممكنة من عشرات المشاريع ذات التمويل الحكومي. (١٦)

و هذه الحقيقة لم تكن غائبة يوماً عن أي مراقب للسياسة الداخلية السورية اقتصادياً و اجتماعياً و سياسياً فبعد عام ١٩٧٠ وخاصة في الفترة التي بدأت بالتدخل السوري في لبنان ١٩٧٦ استغلت النخبة السياسية و العسكرية سلطتها لتزداد ثراء و أخذ الفساد يتفشى داخل الجهاز الحزبي و النظام و لم يكتب للعديد من الحملات التي كانت ترمي لاقتلاع الفساد إلا نجاح محدود جداً حيث كان من الصعب النيل من العناصر الفاسدة العسكرية العلوية ( و أيضاً غير العلوية ) التي كانت تتمتع بمراكز مرموقة و التي كانت تنتمي إلى حاشية الرئيس و ما يتبعها فاتخاذ أي إجراء تأديبي ضد أهم مؤيدي الرئيس كان من شأنه تقويض وضع السلطة ككل داخل النظام بشكل مباشر و لذلك لم تتخذ مثل هذه الإجراءات و قد كانت النخبة العلوية تشكل في الأصل إحدى القوى العظمى داخل النظام التي تميل إلى التغيير الجذري و بعد أن ازدادت ثراء و حصلت على شتى أشكال المزايا الحصينة أصبحت هذه النخبة بعينها حجر عثرة كبيرة أمام عملية إصلاح التعسفات التي شملت الدولة لقد كون الضباط العلويون الأثرياء نوعاً من الائتلاف مع البرجوازية الثرية من أهل المدينة و بالذات مع الدمشقيين السنيين و أيضا مع آخرين بما فيهم مسيحيون و تولد لدى الأخيرة رغبة مباشرة في الحفاظ على نظام البعث الواقع تحت سيطرة العلويين طالما كان بإمكانهم الاستمرار في أعمالهم الناجحة. (١٧)

 

بكلمة أوضح نستطيع القول بأن الطبقة الجديدة استطالت بتحالف التهمت فيه بقايا الطبقة القديمة التقليدية من أغنياء المدينة رغم التباين الطائفي الواضح بينهما و لكن الأسباب النفعية لأثرياء المدينة كانت ثاني الأسباب لأن المسألة أولاً كانت قرار اضطراري أتخذه هؤلاء الأغنياء التقليدين و هذه الأسباب يوضحها باتريك سيل بقوله: ” ففي دولة الأسد لم تعط فكرة حرية الفرد أي محتوى مادي برغم الأجهزة و ( المؤسسات حسب سيل طبعاً ) فليس هناك قضاء مستقل استقلالاً حقيقياً و لا حرية معلومات و اتصال و تعبير و لا جامعة مستقلة بذاتها و في غياب قواعد واضحة تحكم العلاقات بين الفرد و الدولة يشعر المواطن العادي بأنه غير آمن و حتى السوريون الأغنياء يخشون أن يغضب منهم زبون أو وكيل فيجدون أنفسهم قيد الاستجواب على يد واحد أو آخر من أجهزة الآمن فالناس يتوقون إلى قوانين يحترمها الجميع لأنه في غياب مثل هذه القوانين يبدو أن الحماية الوحيدة تكمن في التقليد العربي القديم: الوساطة أي وجود علاقات في أماكن عليا تسمح بالشفاعة و التدخل نيابة عن المرء. (١٨) أي أن هذا التحالف المقيت و إن بدا نفعياً مع مرور الأيام و لكنه نشأ بدافع الفوبيا الاجتماعية لأولئك الذي نجوا من محرقة ذلك الانقلاب الطبقي الانتقامي.

في الحقيقة عندما نباشر بفهم هذا الانقلاب الطبقي ” الانتقامي ” و أن ما عنى به باتريك سيل بمقولة ” اليسار بإيحاء محلى ” و إدراك ما قاله ميشيل سورا و أيده عليه نيقولاس فان دام و ما كلف الأول حياته في لبنان نجد أن المدخل المباشر لفهم مقولة ” اليسار بإيحاء محلي ” هو مدخل الطائفية التي نمت و تغولت في أحضان الاستبداد – كما سنوضح بعد قليل – و إذا كنا نتحدث عنها بشكل علني في لبنان و العراق المجاورين تحت أسماء الطائفية السياسية و المحاصة الطائفية و الديمقراطية الطائفية كشرور لم يعد بالإمكان تجاوز حضورها المقيت و المرعب و على الرغم من حظر تناولها العلني و لكنها تبقى حقيقة فظة و مؤلمة و قد عززتها قصة إقصاء أحد أعمدة النظام عن مركزه أي اللواء علي حيدر حين فضح هذا المحظور في اجتماع ضمه مع رئيس الأركان السابق العماد حكمت الشهابي: ” نحن مؤسسي النظام لا ينبغي فقط مناقشة خطط طوارئ بل نريد أن يكون لنا رأي في عملية السلام ذاتها ” و على الرغم من ذكر الطائفية بشكل غير مباشر فقد كانت مفهومة لدى جميع أركان النظام (١٩) بشكل لا يدع مجال للشك أن حجم الطائفية خرج عن المألوف لدى الجميع.

و من بوابة ذلك ” الانقلاب الطبقي الانتقامي ” يمكن الولوج إلى فهم أحداث الثمانينات و إلى فهم فشل أي برنامج إصلاحي ‏أو أي جهد أو عمل أو محاولة في هذا الاتجاه لا يتلمس ما يسمى ب” المعارف الخاضعة ” عند ميشيل فوكو (٢٠) أي جملة ‏المضامين التاريخية المختفية و المقنعة في تماسك وظيفي أو في انتقائية شكلية التي يجب الشروع بممارسة نقد حقيقي فعال ‏بعد إعمال العزل و السجن فيها لأنه بواسطة تلك المضامين التاريخية وحدها يمكن الحصر و الكشف عن انفلاق ‏المواجهات و الصراعات حيث كان غرض الترقيعات الوظيفية و التنظيمات النسقية إخفاء المضامين التاريخية و طمسها و ‏تقنيعها تلك المضامين التاريخية هي التي أطلقت على هذا النظام اسم نظام البنية المستعصية (٢١)على الإصلاح فمع نشوء ‏هذا النظام و تطوره و أسلوب تعامله مع التحديات الداخلية سواء مع تناقضاته السابقة أو مواجهاته الدامية مع الطليعة ‏المسلحة آو قمعه الوحشي للنقابات المهنية أصبح واضحاً تهدم أي آمال وطنية تساعد على تجاوز الهوة و تحقيق الحد الأدنى ‏من التواصل الذي يحفظ مظهر الوحدة الاجتماعية و من هنا شكلت هذه الأحداث نقطة فاصلة في تطور النظام فبدأ معه ‏التدهور الاقتصادي و الاجتماعي رغم كل محاولات الإصلاح حتى اللحظة و قد انقطعت الروابط القائمة بين الدولة و ‏المجتمع بقدر ما تحولت الدولة إلى دولة الفريق المنتصر وحده و انهارت الأسس الضرورية لقيام جماعة سياسية موحدة و ‏متضامنة و متفاهمة و متفاعلة (أي بمفهوم الدولة بحد ذاته ) و تجلت أزمة عميقة في شرخ اخترق جميع هيئات المجتمع و ‏مؤسسات الدولة و المجتمع و قسمه إلى مجتمعين متنابذين و متباينين تماما هما المجتمع الغالب و المجتمع المغلوب و ‏النتيجة هي ما يميز الأوضاع السورية الحالية من ركود اقتصادي و إفقار اجتماعي و شلل للمؤسسات و الهيئات المدنية و ‏إحباط معنوي و عجز واضح من القيادة عن تحفيز الأفراد و دفعهم إلى المبادرة و العمل و بذل الجهد و على الاستثمار و ‏التثمير في الحاضر و المستقبل. (٢٢)

و الحقيقة أن هذا التقسيم للمجتمع السوري إلى فئتين أو مجتمعين مجتمع المنتصرين و مجتمع المغلوبين عنى بأن الفرد بحاجة إلى دعم عصبيته الخاصة أو طائفته لينال قسط من الأمل بحياة أفضل و الواقع أن من يستعرض تاريخ سورية يعرف أن تاريخ سورية يدرك بسهولة بأن العصبوية الطائفية و العشائرية سمة لازمت النظام الاستبدادي فلم يكن المجتمع السوري في أي حقبة سابقة عصبوياً و مراهناً على العصبيات العائلية و الطائفية و العشائرية كما هو عليه اليوم و السبب بسيط و واضح: بقدر ما تغلق على الفرد أبواب المواطنية (٢٣) من حيث التكون و من حيث الممارسة و حيث العقيدة و بقدر ما يحطم أساس الانتماء الوطني الجامع الذي هو المساواة القانونية الفعلية و يترك الفرد عارياً أمام قانون العسف و التعسف الأمني و غير الأمني تعود الو لاءات العصبوية إلى الظهور و يضطر الفرد حتى لو تملك ثقافة حديثة و قيماً لم تعد ذات علاقة كبيرة بقيم العشائرية و الطائفية القديمة إلى العودة إلى الأطر التقليدية و الاحتماء بها لضمان أمنه أو لتحقيق الحد الأدنى من الثقة و التكافل و التواصل و التفاهم مع أقرانه و كل السياسات المتبعة منذ عقود في ميادين السياسة و المجتمع و الثقافة معاً و القائمة على التمييز على أساس الولاء أو الانتماء أم الاعتقادات السياسية (٢٤) أو القرابة العائلية أم القرابة الجغرافية أم القرابة الثقافية تقود إلى قتل فكرة المواطنية و روحها التي هي المساواة القانونية الفعلية المعبر عنها بمبدأ تكافؤ الفرص أمام الجميع بالتساوي.(٢٥)

و هل هناك شاهد صارخ على ما نتج عن تلك الميكانيكية التي بني فيها هذا النظام المستعصي أعظم مما ترتب عنه من أثار كارثية أصابت و ألمت بالإنسان العادي في سورية من سياسات إفقار و بطالة و سوء توزيع الدخل ولدت في ظل أنظمة العسف و العصبيات فقدان أي إحساس أخلاقي بالمسؤولية و بالنتيجة أفضت إلى فساد مادي و معنوي نخر في جميع مفاصل الحياة السورية اليومية و لكننا لا نستطيع فهم هذا الواقع إلا بلغة الاقتصاد و معطياته الرقمية:

١ – تشير أرقام مكاتب التشغيل التابعة لوزارة الشؤون الاجتماعي و العمل إلى أن عدد طالبي العمل المسجلين لديهم بلغ في نهاية العام ٢٠٠٤ أكثر من مليون طالب عمل قبل فرار العمال السوريين من لبنان مع العلم أن قوة العمل في سورية تقدر بأكثر من خمسة ملايين شخص أي بحسبة بسيطة نستطيع القول بسهولة بأن معدل البطالة يصل إلى ٢٠ بالمئة بخلاف الإحصاءات الرسمية التي تتحدث عن ١١ بالمئة فقط !!! .

٢ – في دراسة لمكتب الإحصاء فإن حاجة الفرد في الأسرة للغذاء تبلغ ١٤٢٠ ليرة سورية شهرياً أي أن العائلة السورية (خمسة أفراد وسطياً) تحتاج إلى نحو ٧٠٠٠ ليرة سورية لطعامها فقط و الطعام يشكل عادة نحو ثلث نفقات الأسرة و إذا أخذنا معيار ٢ دولار في اليوم للفرد لتكاليف المعيشة فإن العائلة السورية المؤلفة من خمسة أفراد وسطياً تحتاج إلى نحو ٣٠٠ دولار شهرياً أي أكثر من ١٥٠٠٠ ليرة سورية و من المعروف أن رواتب معظم العاملين بأجر لدى الدولة و لدى القطاع الخاص لا تصل إلى هذا المستوى بالتالي فإن معظم العاملين بأجرهم دون خط الفقر فإذا أضفنا لهم الذين يعملون بدون أجر و أيضاً نسبة من العاملين لحسابهم من حرفيين صغار و مزارعين صغار ممن لا يصل وسطي دخولهم الشهرية إلى ١٥٠٠٠ ليرة سورية يتضح أن أكثر من نصف المجتمع السوري ما يزال يعيش تحت خط الفقر في عام ٢٠٠٤ . (٢٦)

٣-   تشير بعض المعطيات الدولية عن سوء توزيع الدخل في سورية حيث أن ٥ بالمئة من السكان يتمتعون ب ٥٠ بالمئة من الدخل الوطني. (٢٧)

بذلك كله نخلص إلى حقائق انهيار خطط التنمية الاقتصادية و الاجتماعية و تعاظم البطالة هنا و هناك مع تعاظم سوء توزيع الدخل في الإطار التاريخي الذي وضحناه و فوق كل ذلك الاستئثار بالقرار الاقتصادي و السياسي و الاجتماعي مما يقود إلى إفقار سياسي و تفرد سياسي و تفكك اجتماعي على نحو بدء يهدد النظام السياسي برمته و ما يزيد الأمور تعقيداً ما يمارسه حراس النظام بمختلف إحجامهم و مواقعهم و أعمارهم و دورهم الوظيفي من دور يعمل على حصار ذلك الوضع القائم و على الحيلولة دون اختراقه بقدر أو بآخر ذلك أن هؤلاء يعلمون بحكم خبرتهم السوداء في نهب الفقراء و إنهاء المؤسسات و تلويث البيئة و استفراد المثقفين و المناضلين و تدمير الكرامة الوطنية و القيم الأخلاقية…….الخ أن أي اختراق لتلك الحال قد يمثل حالة من التدفق الوطني الشعبي لا يمكن الوقوف في وجهها بل ربما وضعنا يدنا على ظاهرة مثيرة هي أن هؤلاء المتمرسين بخطابهم الغوغائي المضلل لم يتركوا مجالاً يفوتهم في سبيل الإيحاء بأنهم هم من يبشر بآفاق الديموقراطية و العدالة و الشرف الوطني و الولاء للشعب و الأمة فيحدثون الاعتقاد بل الاقتناع الجازم بأنهم طراز جديد من حصان طروادة: إنها لعبة تاريخية عريقة و قابلة للتكرار ضمن شروط و مقتضيات جديدة و بهذا فإن لحظات الانفراج التي تظهر في حياة المواطن بين حين و آخر يجري الانتقاض عليها و إنهاؤها و لسان حال أولئك يقول كما يعمل أن يقول الناس: عفا الله عما مضى ! و لكن التاريخ يسير ضمن آلياته و قانونياته الخاصة التي يشغل الوعي الإنساني التاريخي و الإرادة السياسية فيها دوراً كبيراً فإذا جرى القفز على مرحلة تاريخية ما بمشكلاتها الكبرى و الصغرى بحجة « عدم الرغبة في المس بالاستقرار الاجتماعي فيها ” فإن التاريخ بمكره و مراوغته يضع ذلك في حسابه بأن يحدث ” تكربج ٌ ” في المرحلة المذكورة كلها بحيث يظهر ذلك بصراعات و تحركات تنتمي لمؤخرة التاريخ مثل الصراع الطائفي و المذهبي و الاثني و الحزبي الضيق المهم في ذلك أنه لا يذهب هباء و لا تنتهي مشكلات إذا ما تم اللعب عليها تأخيراً أو تزويراً أو محاولة لإقصائها من حساب العمل السياسي التاريخي. (٢٨)

و ضمن هذه الحقائق نفهم بوضوح الدور السلبي لهذه الطبقة على الاقتصار و المجتمع السوري انطلاقا من تلك الحقائق و الأرقام السابقة أو التسميات المختلفة المطلقة عليها ذات المدلولات الوظيفية مثل الطبقة الجديدة أو الحرس القديم و الجديد أو حراس مصالحهم أو المجمع التجاري العسكري………الخ و هذا الدور السلبي لا يمكن فهمه بمعزل عن دورها الوظيفي في الحفاظ على استمرار النظام و حراسة وجوده أي أنها كيان متماهي مع النظام و السمة الأساسية في كينونته الذاتية و النظام لا يستطيع أن يبقى يوم واحد يدونها و لا يمكن لأحد أن يتصور خروجها القسري أو التطوعي من مسرح الأحدث دون أن يخرج معها النظام برمته لذلك نفهم بسهولة أسباب فشل أي محاولة جرت للإصلاح يعلن النظام عنه فيظهر أنه يدور في حلقة مفرغة رغم شعارات الإصلاح الاقتصادي أو الإداري أو جلب الخبراء الدوليين……الخ لسبب بسيط مفاده أن يريد البقاء في السلطة إلى ما لا نهاية و لا يتصور هذا النظام نفسه خارجها لذلك هو مستعد لتقديم التنازلات الخارجية الواحد تلو الآخر مع رفضه لأي تنازلات داخلية و بقاءه في السلطة رهن بقاء تلك الطبقة و استقرار وجوده رهن تماسكها فمجرد محاولة تغيير جدي بعيد عن عمليات التجميل و الترقيع هنا و هناك في جسم هذه الطبقة يعرضه للاهتزاز الذي يهدد وجوده فلا يستطيع أن يقوم هنا بأكثر من إصلاحات شكلية بعيد عن أي تغيير جذري و هنا تكمل العلة الكبرى هو أن التغيير يحتاج إلى طرف قوي يقوم به خارج النظام و المنطق يقول بان هذا الطرف هو الشعب و هنا نعود إلى نفس الحلقة المفرغة للدور الوظيفي لتلك الطبقة و الذي سنوضحه بعد قليل الذي أضعف الشعب و حركته و هذه هي النقطة الساخنة التي يطرحها دور الخارج و هذا ما أريد مناقشته في هذه المقالة و لكن نستطيع القول بأن التغيير يتطلب أن تقوم به جهة قوية غير النظام و يكون بيت القصيد في التغيير هو وجود هذه الطبقة الوظيفية و معالجته بين الرؤى المعتدلة و المتطرفة في هذه المعالجة مع إدراك حقيقة أساسية مفادها استحالة القيام بمعالجة تامة لها أي بكلمة أخرى يستحيل العودة إلى حدود السابع من آذار ١٩٦٣ أو الخامس عشر من تشرين الثاني ١٩٧٠ إن جاز التعبير لأن ذلك سيعنى فوضى خلاقة أخرى و انقلاب طبقي أخر لا يمكن إدراك نتائجه إلا بعد فترة طويلة لان التجربة في المجتمع ليست كالتجربة في الفيزياء تستغرق دقائق أو ساعات بل سنوات أو عقود أو أكثر من ذلك و إن اعتقد البعض بضرورة تحقيق العدالة المنشودة و لكن يجب أن تتشكل قناعة بضرورة إعادة ترتيب ما يمكن ترتيبه في البيت السوري على أساس يستند إلى تحقيق سياسي سلمي يؤدي إلى بناء ما يسمى الجمهورية السورية الثالثة على أساس عقد اجتماعي و طني ينتج بالنهاية دولة تعمل على إعادة ترميم هيكل الاقتصاد و المجتمع السوريين.

و لكن السؤال الذي يطرح نفسه هذه اللحظات الهامة في تاريخ سورية الحديث هو تحديد ملامح أكثر تفصيلية و أكبر تمثيلية للدور الوظيفي الحساس لهذه الطبقة و الذي اشرنا إليه و بكلمة أكثر راهنية النصف الأخر للحقيقة التي أخفاه بشار الأسد و اظهر نصفه الأول كونها تخندقت و تماهت عضوياً مع القطاع الخاص الجديد الذي كونته بأبنائها الذين اقتحموا قطاع العمل الحر و احتكروه لابد لذلك أن تكون دفعت ثمناً باهظاً و عملاً ضخماً كوفئت عليه و نالت هذا الأجر الباهظ و لا يمكن لنا أن ندرك هذه العلاقة المتشابكة إلا إذا قمنا بعملية تشريحية مبسطة و سريعة لمكونات النظام الشمولي الذي عادة ما يتألف من ثلاثة أركان:

١-   نخبة متسلطة (عسكرية أو مدنية ) أو حزب حاكم.

٢-   هرم بيروقراطي قائم على مبدأ الولاء الشخصي.

٣-   بنى موازية كالتضامنيات العشائرية و المذهبية و الإثنية و المهنية. (٢٩)

هذه الأركان الثلاث أحسن بنائها في سورية بتجلياتها التكوينية و الوظيفية و انعكاساتها في البناء الطبقي و السياسي و الأخلاقي في داخل المجتمع السوري و قد زاد من قوتها و تحصينها أو بكلمة بشار “خندقتها في مواقعها ” تجليات أخرى رئيسية في بناء أي نظام شمولي هي الإرهاب و الأيدلوجية و الإعلام الموجه و ثلاثة مبادئ تضمن هذه التجليات و تعززها هي:

١- مبدأ الاحتكار الفعال: احتكار السلطة و الثروة و القوة و احتكار الحقيقة و احتكار الوطنية وهذه الاحتكارات الثلاثة هي التي بنته و أخرجته إلى الوجود و مكنته من الاستمرار حتى الآن و هي التي صنعت تلك النخبة الحاكمة و ضمنت ثراءها الفاحش.

٢-مبدأ الغلبة و القهر و هو ما سنوضحه بعد قليل لأن الوظيفة الأساسية لتلك الطبقة المتخندقة مع باقي وظائفها التي نسردها هنا .

٣-مبدأ شخصنة السلطة و عبادة القوة أي تماهي الشخص و المنصب الذي يشغله و انتقال قوة المنصب المادية و المعنوية إلى الشخص الذي يغدو مثال القوة و العظمة و النفوذ و في أي حال تحل الأوامر محل القوانين و الامتيازات محل الحقوق و الولاء و المحسوبية محل الكفاءة و الجدارة و الاستحقاق.

و لكن شخصنة أكبر من تلك هي التي أحيط بها حافظ الأسد نفسه و التي وصلت إلى طقوس عبادة الشخصية بدليل تكرار الجميع لاسمه باستمرار و صوره الضخمة المعلقة في المباني البارزة و تماثيله التي أقيمت من أقصى البلد إلى أقصاه و المذهل أن هذه الطقوس ورثت مع كافة المناصب و الصلاحيات الواسعة إلى ابنه بشار و النكتة السوداء التي تجسد هذه المهزلة هو ما نقلته صحيفة النهار اللبنانية في الخامس من نيسان ٢٠٠٥ نقلا نيويورك صان الأمريكية بقلم كلوديا روزيت ترجمة نسرين ناضر في مقالة بعنوان ” لبنان يؤمن للمعارضين السوريين…. مكبراً ” قصة مثيرة عن مجند كردي سوري وشم على ظهره اسم حافظ الأسد لمنع الضابط المسؤول من ضربه بالكرباج ” رواها الشاعر ماهر شرف الدين و لكن و مع ذلك السؤال المثير المطروح هو مفاده ما الذي يجعل ولاء الضباط وكوادر الحزب والموظفين الكبار وغيرهم ممن يشكلون تلك النخبة الحاكمة و محدثة النعمة خالصاً لهذا القائد أو ذاك؟أهي العصبية ‏الحزبية العقائدية أم العصبية الطبقية أم العصبية المذهبية أم العصبية الجهوية أم هناك أسباب أكثر موضوعية من هذه ‏جميعاً، لا سيما أن الزعماء المتنافسين كانوا غالباً من الحزب نفسه ومن الطبقة نفسها ومن أتباع المذهب نفسه ومن ‏الجهة ذاتها؟ لعل سبب الولاء الرئيس لهذا القائد أو ذاك هو الامتيازات التي يمنحها لأتباعه والمكاسب الشخصية التي ‏يبيحها لهم إضافة إلى إغراء السلطة والوجاهة ومن ثم فإن السلطة قد تحولت تدريجاً إلى مصدر للثروة والقوة والجاه ‏بقدر ما كانت الحاجة تمس إلى الموالين والأتباع والأزلام وربما كان بالإمكان تسويغ ذلك أخلاقياً أن هؤلاء المنعم عليهم ‏يستحقون ما يحصلون عليه لقاء ما يقدمونه من خدمات للوطن الذي تقلصت حدوده حتى تطابقت مع حدود الحزب ‏والسلطة وفي ظل غياب القانون وغياب مبدأ المحاسبة والمساءلة وتعطيل المؤسسات وشل القوى التي يمكن أن تقوم ‏بهذه الوظيفة تحولت الامتيازات والمنح والهبات وإطلاق أيدي “الرفاق المخلصين” في دوائر عملهم إلى قاعدة في ‏الحكم ويمكن القول: إن جميع العصبيات كانت تتقاطع في بؤرة واحدة هي المصلحة الخاصة التي راحت تحل تدريجياً ‏محل المصلحة العامة فلم تعد الدلالات السياسية تنعقد إلا عليها فأعيد إنتاج المبادئ والأسس التي كانت تقوم عليها ‏الدولة السلطانية وهي مبادئ وأسس مستقرة في اللاشعور السياسي تلخصها مقولات العشيرة والعقيدة والغنيمة ‏وأعيد إنتاج الفرار من الدولة / السلطة أو الدولة السلطانية أو الدولة التسلطية والفرار من السلطة هو إما فرار منها ‏وإما فرار إليها والذين فروا إلى السلطة لاتقاء شرها أو ابتغاء “خيرها” غدوا جماهير الحاكم وهالته وأعمدة عرشه ‏وبساط نعمته ولم ينجوا مع ذلك من الحيف والقمع والإرهاب بل كانوا مضطرين دوماً إلى إثبات ولائهم بالتزلف ‏والنفاق أو بالوشاية بالرفاق والأصدقاء والأقرباء وزملاء العمل وجيران السكن وتجلى الفرار من الدولة بانضواء ‏‏”الجماهير” في الحزب الحاكم وفي “المنظمات الرديفة”: طلائع البعث واتحاد شبيبة الثورة واتحاد الطلاب والاتحاد ‏النسائي والاتحاد الرياضي واتحاد الفلاحين واتحاد الحرفيين والاتحاد العام للعمال واتحاد الكتاب واتحاد الصحفيين فضلاً ‏عن النقابات المهنية التي يسيطر عليها الحزب وأجهزة الأمن سيطرة تامة. لقد أخضع المجتمع لعملية انتقال “ثورية” ‏من الحالة الرعوية إلى الحالة الجماهيرية وأهم سمات الحالة الجماهيرية هي التأييد السلبي والاستجابة الشرطية ‏‏(كاستجابة كلب بافلوف) لأوامر السلطة الصريحة والرمزية.‏ (٣١)

و هنا يجب الربط بين بندين هامين يرتبط أحدهما بالأخر بشكل تتوافقي و نميا مع بعضهما البعض على نحو تؤمي حتى تلاشت الحدود بينهما و صعب تفريقهما عن بعضهما البعض و حتى تغولا معاً إلى نحو مرعب فاحتكار السلطة و الثروة و القوة و اختراق المجتمع المدني و تنسيق بناه و امتصاص قوته ارتبط بالجهد الذي بذله محتكرو السلطة و الثروة و القوة في توثيق نظام الحكم على أساس القوة و الغلبة و القهر من خلال ممارسة الإرهاب المنظم و القمع المقنن بالدستور و القوانين و المحاكم الاستثنائية و على رأسها قانون الطوارئ سيء الصيت و هذا ما لا يعترف به بشار مع اعترافه قليل الأهمية بالبند الأول الذي دفع ميشيل سورا إلى اختيار لقب الدولة المتوحشة دون غيره على هذا النظام القائم في دمشق و الشواهد التالية تبين لنا الدرجة التي وصل إليها هذا النظام في إمعانه في الإرهاب المنظم ضد أبناء شعبه دون سواهم:

-يقول باتريك سيل : ” و كان من بين الانتقادات الأكثر خطراً من الفساد انتقاد سجل النظام في ميدان حقوق الإنسان فالصلاحيات المطلقة لأجهزة الأمن و الظروف القاسية في المعتقلات بما في ذلك اللجوء إلى التعذيب قد لاحظتها منظمة العفو الدولية و يظل سجن قلعة المزة القديم تذكرة للجميع بمنظره الكالح المتجهم من قمته فوق دمشق بين الشيراتون و القصر الجمهوري «. (٣٢)

-تورد جمعية حقوق الانسان في سورية و صفا مثيرا للاشمئزاز لوسائل النظام السوري في التعذيب الجسدي حيث تعدد عدد من هذه الوسائل التي تسربت من السجون و المعتقلات و أقبية الأجهزة الأمنية الرهيبة فتسرد كل من الوسائل الأتي ذكرها :

١ – الكرسي الألماني: هو كرسي معدني بسيط لم يبق فيه غالباً سوى المواسير بعد نزع المساند تمرر ماسورتا مسند الظهر تحت إبطي المعتقل ثم تقيد يداه بالكلبشات الى الخلف وتنقلب وضعية الجلوس التقليدية بحيث يصبح الكرسي جالساً فوق المعتقل بينما يغدو جسد المعني تحت الكرسي أو بين رجليه السفليتين لكن إبطيه وصدره معلقان بماسورتي الظهر ثم تثنى أرجل المعتقل وتربط برجلي الكرسي العلويتين فيصبح جسده أشبه بقوس دائري تحت وحول الكرسي عندها يبدأ الضرب بالكابلات على قدمي المعتقل وساقيه ويعاد بين فينة وأخرى شد الحبل وتشديد تقوس ظهر المعتقل الذي كثيراً ما يصاب بشلل في أطرافه العلوية يدوم فترة تمتد تبعاً لدرجة تعرضه للتعذيب.

٢ – الضرب بالكابلات: على القدمين أو اليدين أومختلف أنحاء الجسد والكابل عبارة عن مجموعة من الأسلاك النحاسية المستخدمة في نقل الكهرباء تجدل بشكل جيد وغالباً ما أدى الضرب بهاإلى انتزاع قطع لحم المضروب مع سيلان دمه.

٣ – الدولاب:هو الإطار الخارجي لعجلة سيارة يوضع فيه المعتقل فينحصر كامل جسده داخله من الرأس وحتى القدمين عندها يتم ضربه بدون أن يستطيع أي حراك.

٤ – الكهرباء:تربط الأسلاك الكهربائية بمواضع حساسة من جسم المعتقل ويتم إرسال صعقات الكهرباء إليها وتستخدم من أجل ذلك مولدات يدوية للكهرباء أو محولات يتم بواسطتها التحكم في شدة التيار المستخدم.

٥ – بساط الريح:يشد المعتقل من معصميه وقدميه بحبال إلى الجهات الأربع فيصبح معلقاً كالأرجوحة ويبدأ الضرب على أنحاء جسده المختلفة مع إعادة شد الحبل بين فترات ضرب وأخرى.

٦ – الحرق: بواسطة السجائر أو المدفأة الكهربائية لمواضع مختلفة من الجسم.

٧ – الضرب والركل والصفع.

٨ – الجلد على أسفل القدمين.

٩ – الحرمان من النوم.

١٠ – الإغراق بالماء: عن طريق إغراق الرأس في وعاء أو حوض مليء بالماء.

١١ – السّلم: تربط قدما المعتقل بالحبال إلى درجات السلّم العليا ليصبح جسده العاري مقلوباً ومتدلياً إلى أسفل ويتمكن المحقق الجزّار بذلك من جلده على كامل مساحة جسده المعلق.

١٢ ـ الفسخ: يمدد المعتقل على ظهره ويوضع كرسي فوق حوضه وتدخل ساقيه بعد طيهما وتثبيتهما بين قوائم الكرسي فتغدو الساقان منثنيتين عند الركبتين ومفتوحتين إلى أعلى ويقف من يمينه ويساره واحد من الجزّارين صاعداً فوق إحدى ركبتيه وضاغطاً بشكل متواتر مع زميله ( الجزّار المقابل) كي يتمكنا من فتح ساقي المفسوخ إلى أقصى زاوية منفرجة وإذا كان المطلوب أكثر من زاوية ١٨٠ درجة فيجب رفع حوض (المعني بالفسخ) بوضع خشبة تحته مما يؤدي إلى كسر الحوض وفصل الساقين عند رأس الزاوية أو نقطة المفصل العانيّ.

١٣ -الشبح: يعرّى المعتقل وتغطى عيناه بـ ( الطميشة) ثم يقيد بالكلبشات الحديدية ويعلق من معصميه أو من قدميه بحبل يشده إلى سقف الغرفة فيصبح مشبوحاً كالذبيحة وهكذا يتوفر كامل جسده من كل الجهات مساحة حرة لضربات الجزارين وسلخهم وفنونهم التي قد تشمل دغدغة المشبوح بصعقات الكهرباء‍.

١٤ – الضرب بالبلطة: وذلك على مشط القدم لإجبار المعتقل على الاعتراف السريع الأمر الذي كان يؤدي في غالب الأحيان إلى قطع معظم أصابع القدم.

١٥ -الإطعام الكريه: يجبر المعتقل على أكل مواد تالفة وأشياء كريهة وأحياناً يدفعه الجزارون إلى فتح فمه ودفع تلك المواد دفعاً ليزلطها بلعومه كما حصل مع من أطعموه فأراً ميتاً في سجن تدمر.

١٦ – الأفعال المنافية للآداب: بعد تعرية المعتقل والعبث بعورته باستخدام العصا أو غيرها يجبر تحت الضرب والتهديد على العبث بالمناطق الحميمة وقد يغصب على ارتكاب الفاحشة مع زميله أو شقيقه المعتقل معه.

١٧ – التغذية الرديئة:من المسلم به أن الطعام الذي يقدم للمعتقلين والسجناء عموماً هو غالبا رديء وقليل الكمية ويعتمد المعتقل في كثير من الأحيان على موارده الخاصة فتتحول متطلباته إلى عبء آخر على عائلته أو مصادره الخارجية بينما تصبح هذه المسألة منبعاً آخر للفساد في معظم السجون. (٣٣)

يضاف إلى ذلك ما يذخر به نظام حافظ الأسد من مجازر ابادة جماعية في تدمر و جسر الشاغور و حماة و حي المشارقة و التي حرص على وصول أخبارها الفظيعة إلى بيت سوري ليرسل رسالة مفادها ” و قد أعذر من أنذر ” و كانت أبرز القصص التي دبت الرعب في القلوب ما حصل مع طبيب العيون و رئيس جمعية أطباء العيون في مدينة حماة عمر شيشكلي حيث اقتلعت عينه لأنه طبيب عيون و اعدم مع المئات في مجزرة حماة الصغرى. (٣٤)

و هذه السياسة القمعية و إن أحلت سلام كاذب بواقع الخوف من تلك الانتهاكات الخطيرة التي تقشعر لها الأبدان و لعل أبرز توصيف لهذه الحالة ما رسمه أحد قادة المعارضة السورية رياض الترك الشهير بمانديلا سورية و هو لقب ذو مغزى مزدوج يقرنه بالجنوب أفريقي الشهير نيلسون مانديلا و سجانيه بنظام التمييز العنصري البائد في جوهانسبرغ بأن يقول ” إن إرهاب نظام حافظ الأسد خلال ثلاثة عقود حول البلاد إلى سجن للصم و البكم ” و تلك الانتهاكات التي مورست قمعت المعرضة السورية برمتها من يسارية و إسلامية و حتى البعثية و الناصرية منها إضافة إلى المنظمات المهنية و منظمات حقوق الإنسان (٣٦) و هذا ما وضحه ميشيل سورا و تغافل عنه باتريك سيل حين اختزل المشكلة بين حافظ الأسد و الأخوان المسلمون وحدهم و سنختم المقالة بكلمة حق في باتريك سيل و لكن لنوضح الصورة بمقولة أخرى تلخص ما تحدثنا عنه حول الأزمة السورية قالها الكاتب الإنكليزي ألان جورج: ” سورية: لا خبز و لا حرية «.

ربما الكثيرون عندما يذكر باتريك سيل يلوحون له بتهمتين قاسيتين هما أنه أولاً لم يخرج عن طقوس عبادة الشخصية و الكتابة بأقلام فيلوأسدية من جهة و من جهة أخرى إخفائه حقائق الاستبداد و الدكتاتورية خلف السياسة إضافة إلى ما سبق و أشرت إليه من تجاهله للمعارضة اليسارية و منظمات حقوق الإنسان السورية و إن كنا لا نحد مبرر لأخر التهم و لكن نستطيع أن نناقش التهمتين الاولتين باستحضار كل ما سبق و ذكرته على لسانه و مقولة أخرى له إذ يدعي: « أكانت هناك ظروف مخففة لعدم الكمال في بناء الأسد دولته ؟ لعل فترات حكمه الطويلة ما كان يمكن تأمينها في ظل نظام حر أو ليبرالي و لا أمكن دحر الأخوان المسلمين و لا الصمود في وجه الهجمات الإسرائيلية و في وجه منافسيه العرب ” (٣٧) و لننتبه هنا إلى استعماله مفردات واضحة و ذكية مثل ” الظروف المخففة ” هذه العبارة التي يستخدمها المحامون عندما يصيبهم اليأس من براءة موكلهم و هم يدركون أن تجريمه أمر حتمي لا شك فيه و المفردة الثانية ” فترة حكمه الطويل ” و هي ربط جاء مباشرة بعد سرده لمظاهر الفساد و القمع في نظام حافظ الأسد و كأنه يقول هذه نتيجة لتلك و بذلك يقر بعدم ديمقراطية النظام و لكن الأهم من ذلك طبيعة الظروف المخففة :

-الأخوان المسلمين الذين أصبحوا أخوته بفعل الجنسية البريطانية التي منحتهم إياها حكومته في لندن عندما آوتهم بعد فرارهم من بطش حافظ الأسد أو ما نقله عنه من “عنفه الثوري «. (٣٨)

– التصدي للهجمات الإسرائيلية التي لم ينتقدها يوما قيد أنملة.

– منافسيه العرب الذي لم ينتقد يوماً نعتهم بالمعتدلين.

و عندما نقلب جيداً باتريك سيل و نتجاوز ما يعج به من تلك الطقوس الفيلو أسدية نجده و كما بينا وجه للنظام بطرقته الخاصة من انتقادات فاقت انتقادات كبار المعارضين السوريين و هي طريقة تذكرنا بقصة المتنبي مع كا فور الإخشيدي عندما هجاه دون أن يشعر الأخير إذ قال:

و لا تشتري العبد إلا و العصا          معه إن العبيد لأنجاس مناكيد

و قد نجد المبرر عندما نتساءل من كان يستطيع أن يدخل إلى الطاغية في عقر داره و يأتي بوصف لسيرته و سيرة نظامه دون أن يلقى مصير سورا و الحقيقة أن سيل بعمل وضح الكثير من الحقائق البشعة لهذا النظام الموغل في الوحشية رغم ما ذكرناه من طقوس عبادة شخصية و كأن أراد أن يقول ” إن اللبيب من الإشارة يفهم «.

و مهما تحدثنا و تعمقنا مع كل من ناقشنا طروحاتهم حول ما حدث و يحدث و سيحدث في سورية فإن أجمل و أبشع ما يذكر في هذه الحالة المستعصية و في حالات مثلها هو ما قاله الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي في ” إلى طغاة العالم «:

ألا أيها الظالم المستبد

حبيب الظلام , عدو الحياة         سخرت بأنات شعب ضعيف

و كفك مخضوبة من دماه             و سرت تشوه سحر الوجود

و تبذر شوك الأسى في رباه

*****

*رويدك! إلا يخدعنك الربيع

و صحو الفضاء , و ضوء الصباح       ففي الأفق الرحب هول الظلام

و من يبذر الشوك يجنِ الجراح

*****

تأمل هنالك أنى حصدت

رؤوس الورى , و زهور الأمل       و رويت بالدم قلب التراب

و أشربته الدمع , حتى ثمل             سيجرفك السيل سيل الدماء

و يأكلك العاصف المشتعل

*****

الهوامش:

‏١- منظمة لم تعرف لا من قبل و لا من بعد شأنها شأن التنظيم الذي اغتال رفيق الحريري و أعلن عن نفسه في ١٤ ‏شباط ٢٠٠٥ على قناة الجزيرة القطرية.‏

٢ – L’etat de barbarie, Michel Seurat, Paris, Seuil, 1989

٣ – صابر فلحوط: بعثي شهير من مواليد بلد عيتل ١٩٣٥ في محافظة السويداء يعتبر أحد أبرز الوجوه الإعلامية للنظام السوري حيث يترأس الاتحاد العام للصحفيين السوريين منذ عام ١٩٧٠ حتى الآن كما كان مديرا لوكالة الأنباء السورية سانا و مديرا لدار البعث.

٤ – سيل، باتريك: الأسد: الصراع على الشرق الأوسط، ترجمة و نشر المؤسسة العامة للدراسات و النشر و التوزيع، بيروت ١٩٨٧، ص ١٣١ -١٣٢.

٥ –

AL-Jeba’i, Jad AL karim : L’opinion …et le sabre : les mécanismes de confiscation de l’etat et renforcement du pouvoir : Démocratie et Droits Humains en Syrie, Sous la direction de Violette Daguerre, Traduit par : Ahmed Manai et Hakim Arabdiou, Editions Eurabe, 2001, Paris, Pages 56-57.

٦ – الهامس، جريس: مملكة الاستبداد المقنن في سورية ( السجون و المعتقلات الرهيبة ) دار بافت، ألمانية، آلن فست فالن، ٢٠٠٤، ص.

٧ – Seurat, Michel : op. cit. , Pages 32-34.

٨ – غليون، برهان: مستقبل الإصلاح في سورية، نحو عقد وطني جديد. محاضرة ألقيت في منتدى الحوار الوطني الذي أسسه النائب المستقل رياض سيف (أحد معتقلي ربيع دمشق ) في ٥ أيلول ٢٠٠١.

٩ – سيل، باتريك: مصدر سابق، ص٧٣٨-٧٣٩.

١٠ – حديدي، صبحي: بشار الأسد بعد الانسحاب من لبنان: اختبار النار، صحيفة القدس العربي، ٢٩ نيسان٢٠٠٥.

١١ – سيل، باتريك: مصدر سابق، ص ١٧٣.

١٢ –

Daguerre Violette : Les traits d’une époque :Démocratie et Droits Humains en Syrie, Sous la direction de Violette Daguerre, Traduit par : Ahmed Manai et Hakim Arabdiou, Editions Eurabe, 2001, Paris , Page 433 .

١٣ – البني أنور: دراسة عن آلية السيطرة و الهيمنة على المجتمع في القوانين الأساسية السورية و معوقات الحركة نحو التغيير الديمقراطي و حقوق الإنسان، نشرة ( كلنا شركاء ) ١٠ – ١٢ تشرين أول ٢٠٠٤.

١٤ – سيل، باتريك: مصدر سابق، ص ١٧٨ .

١٥ – سيل، باتريك: مصدر سابق، ص ١٨٠.

١٦ – سيل، باتريك: مصدر سابق، ص ٥١٧.

١٧ – فان دام، نيقولاس: الصراع على السلطة في سورية الطائفية و الإقليمية و العشائرية في السياسة ١٩٦١ – ١٩٩٥: الفصل العشر – استنتاجات.

١٨ – سيل، باتريك: مصدر سابق، ص ٧٤٢.

١٩ – فان دام، نيقولاس: مصدر سابق، الفصل التاسع: نخبة السلطة في عهد حافظ الأسد ( مسألة الخلافة ).

٢٠ – فوكو ، ميشيل : يجب الدفاع عن المجتمع : دروس ألقيت في الكوليج دي فرانس لسنة ١٩٧٦ ، ترجمة و تقديم و تعليق : الزواوي بغورة ، دار الطليعة ، بيروت ، ٢٠٠٣، ص٣٥.

٢١ – أطلق هذه التسمية صبحي حديدي في مقالة نشرت في صحيفة القدس العربي في ٢٢ نيسان ٢٠٠٥ بعنوان: ” القيادة السورية: أي إنقلاب أبيض يصلح البنية المستعصية “.

٢٢- غليون، برهان: مصدر سابق.

٢٣ – وضح جان جاك روسو في كتابه “العقد الاجتماعي « في الجزء الرابع الحاشية الثانية القضية السابعة و الثلاثون المبدأ الذي يوضح العلاقة بين الدولة و المواطنية: ” إنه لا يمكن دفع أي انفعال إلا بانفعال أقوى منه و أن كل إنسان يتجنب فعل الشر مخافة شر أفظع منه بمقتضى هذا المبدأ يمكن للمجتمع أن يدعي لنفسه حق الانتقام الذي يدعيه كل إنسان لنفسه و أن يستطيع بالتالي وضع قاعدة للحياة العامة و سن القوانين و تأييدها لا بسلطة العقل الذي هو دفع لأي انفعال بل بسلطة التمهيد و العقاب و إن هذا المجتمع الذي يتأيد بالقوانين و بقدرته على الاحتفاظ بذاته يسمى دولة و هؤلاء الذين يُحكمون بقوانينه يدعون مواطنين “.

٢٤ – هناك المواد ٨ و ٨٤ من دستور ١٩٧٣ التي تقنن التمييز على أساس الانتماءات السياسية.

٢٥ – حسين، لؤي: حوارات في الوطنية السورية: حوار مع برهان غليون، بترا للنشر و التوزيع، دمشق، اللاذقية، ٢٠٠٣، ص ١٢٢-١٢٣.

٢٦ – التقرير السنوي الثاني لجمعية حقوق الإنسان في سورية: من اجل المواطنة و حقوق الإنسان، عام ٢٠٠٤، ص ١٩-٢٠.

٢٧ – تركماني، عبد الله: إشكالات التغيير الديمقراطي في سورية، نشرة (كلنا شركاء) ٢٣ نيسان ٢٠٠٤.

٢٨ – تيزيني، طيب: من ثلاثية الفساد إلى قضايا المجتمع المدني، دار جفرا للدراسات و النشر، دمشق، حمص، ٢٠٠١ ص ١١٩-١٢١.

٢٩ –

AL-Jeba’i, Jad AL karim : op. cit. , Page 51.

٣٠ – سيل، باتريك: مصدر سابق، ص ٥٥٢.

٣١ –

AL-Jeba’i, Jad AL karim : op. cit. , Pages 61-63.

٣٢ – سيل، باتريك: مصدر سابق، ص ٧٤١.

٣٣ – تقرير حول واقع التعذيب في سورية: أعدته جمعية حقوق الإنسان في سورية، كانون الثاني ٢٠٠٤. ص١١.

٣٤ – Démocratie et Droits Humains en Syrie, Sous la direction de Violette Daguerre, Traduit par : Ahmed Manai et Hakim Arabdiou, Editions Eurabe, 2001, Paris,Annexe N°1 , Pages 75-76.

٣٥ – حوار مع رياض الترك أجرته كاثرين زويف في جريدة نيويورك تايمز في ١١ آذار ٢٠٠٥ نقلاً عن موقع الرأي :

www.arraee.com بتاريخ ٢٣ آذار ٢٠٠٥.

٣٦ – Seurat, Michel : op. cit. , Pages75-76

٣٧ – سيل، باتريك: مصدر سابق، ص ٧٤٢.

٣٨ – سيل، باتريك: مصدر سابق، ص ٥٣١-٥٣٢.

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى