دولرة الإقتصاد السوري: خيار أم اضطرار؟/ نائل حريري
نائل حريري
الحاضر الاقتصادي لسوريا لم يعد يشبه ماضيها. هاتف ذكي بـ245 دولاراً، حاسب محمول بـ540 دولاراً، معدات طبية بـ1100 دولار. لم يعد الإلتصاق بالعملة الوطنية مسألة خيار بقدر ما هو ضرورة. أصبحت الآلة الحاسبة جزءاً من أساسيات التجارة في سوريا مع اتجاه التقييم إلى الدولار بشكلٍ لافت وبلا أدنى أمل في العودة الى الوراء.
وحدها الحكومة السورية بقيت متجاهلة الموضوع، حيث أطلق وزراؤها ومسؤولوها النقديون تصريحاتهم المكررة المعتادة عن أن العملة السورية بخير وأن الاحتياطي النقدي كبير، وأن المركزي ما زال مسيطراً. بين هذه التصريحات والتطمينات الإعلامية الباردة تمرر النداءات ذاتها عن دعوة المواطنين للتمسك بالليرة السورية والدفاع عنها، وهي نداءات لا تحمل بالنسبة للمواطنين قيمةً حقيقيةً بقدر ما تحمل رسالةً أكبر عن موقف الدولة مما يحدث: الدولة السورية تعلن بكل صراحة أنها تنكر واقعها الاقتصادي القائم.
الدولة السورية التي عملت طوال عقود على احتكار الخدمات في البلاد ما زالت هي المصدر الأساسي لدخل شريحة عظمى من الشعب السوري. هذه الشريحة ترزح اليوم تحت وطأة التضخم فيما تدير الدولة ظهرها لها، حيث الرواتب والمعاشات التقاعدية والفوائد المصرفية كلّها اليوم تصرف بعملةٍ متآكلة فاقدة معظم قيمتها بينما يبدّد التضخم النسبة الباقية. حتى في ما يتعلق بالضمان الصحي والتأمين الاجتماعي تتمسك الدولة بموقفها الثابت وأرقامها الثابتة كذلك. شركات إدارة التأمين، على سبيل المثال، التي تلعب دور الوسيط بين المواطن والدولة تمنح صورةً أقرب إلى الوضع الحالي. إذ يشكو مديرو الشركات من أنه: “في بداية التدهور الاقتصادي لم نلمس من الدولة استجابةً لضرورات رفع التكاليف، وكنا نطلب من المريض دفع الفرق البسيط من جيبه، مقابل ما نقوم بتوفيره عليه، لكن الآن أصبح الفرق كبيراً إلى درجة أن أي عمل طبي أصبح يكلف أضعافاً. الدولة مثلاً لا تزال تغطي شبكة التوسيع القلبية بسقف 75 ألف ليرة في الوقت الذي وصل فيه سعرها إلى 135 ألف ليرة. اليوم. وقس على ذلك أسعار الأدوية والأجهزة والخيوط الجراحية والأوكسجين… الدولة ملتزمة بالأرقام التي وضعتها منذ سنوات، معتبرةً أنّ هذا يكفي قانونياً، وتصرّ على عدم إعادة التقييم مقارنةً مع وضع الدولار الحالي”.
وفيما تبدو الدولرة شراً في نظر الدولة، فهي السبيل الوحيد الذي وجد فيه الصناعيون والتجاريون أنفسهم قادرين على الاستمرار. وفي ظل اختلال التوازن الفادح بين العرض والطلب، والاتجاه إلى الاستيراد شبه الكامل، لم يعد ثمة خيار سوى التقييم بالدولار أو التوقف عن العمل. أما الدولة فهي تحاول بشتى الوسائل السباحة بعكس التيار، وفي ذلك تبدو رابحةً بالتأكيد فهي تقوم بتوفير مبالغ طائلة على نفسها فيما تتآكل القيمة الفعلية للرواتب والتعويضات التي تصرفها شهرياً. وفي حين أن راتب الموظف الذي يبلغ 12000 ليرة سورية، ما زال ثابتاً من حيث الرقم، تضاءلت قيمته من 200 دولار العام 2012 إلى 100 دولار اليوم. هذا التضاؤل الذي لا تعترف به السوق ليس مهماً لدى الدولة التي تعتبر أن أولويتها هي مجرد “دفع الرواتب للموظفين”، ما يعيد إلى الأذهان النكتة المعروفة عن اقتصاد دول العالم الثالث: “نحن لا نسأل موظفينا عما يفعلونه برواتبهم!”.
من ناحيةٍ أخرى ينبغي التفكير بالاتجاه المعاكس: ماذا لو قامت الدولة بتقييم مستحقاتها بالدولار؟ سيساعد هذا بالتأكيد إذ سيوقف تدهور القيمة الشرائية لرواتب الموظفين من دون أن يحسّن من مستوى الدخل فعلياً، ولا يحتمل أن يزيد هذا الإجراء من الأعباء على الدولة. إذ أنها تصرف مستحقاتها بأوراق معدومة القيمة أساساً. لكن، يكمن سرّ التخوّف من خطوةٍ كهذه في ما يترتب عليها سياسياً وإقتصادياً، إذ ترفض الحكومة الاعتراف بدولرة الإقتصاد واقعاً مكرساً، نظراً لما يشكله من إشارة ضعف بنيوي على مستوى الإقتصاد الوطني. علماً أنه إذا كان المعيار الذي يتم تبنيه هو مصلحة المواطن ومستوى دخله، فالدولرة قد تكون أهون الشرور للحفاظ على ما تبقى من أسباب الحياة لأصحاب الدخل المحدود، فضلاً عن انها تؤدي إلى تنشيط الأسواق الاقتصادية المختلفة وإلى رفع مستوى الطلب والعرض على حد سواء. أمّا المعيار الذي يتضمن مصلحة الدولة – التي فصلت نفسها عن مواطنيها بإرادتها – فهو المحافظة على وجودها، والتقليل من استهلاك احتياطيها النقدي المتبقي، الأمر الذي تجده في إصرارها على التعتيم الإعلامي والالتصاق بالعملة السورية.
لا بد من الأخذ بالإعتبار أن هذه الافتراضات كلها تصبّ في الحفاظ على توازن النظام المالي ومنع تدهوره نحو ما هو أسوأ، أما الميزان الاقتصادي فهو يسبح في وادٍ آخر تماماً، حيث لا يوجد أدنى شك في أن سياسة الدولة الحالية تسارع في انهياره وأنها لا تمتلك أدنى قدرة على إعادته إلى وضعها الأصلي. وفيما العمل العسكري لا يزال أولويةً تمحو كلّ ما عداها، فان إصلاح النظام المالي لن يعني شيئاً غير إطالة أمد الأزمة الاقتصادية المدمّرة لحياة السوريين جميعاً.
المدن