دينامية الشباب العربي وانتهازية بعض المثقفين
مسعود ضاهر
أصابت المرحلة الطويلة من القمع السياسي العربي بعض المثقفين العرب بالبلادة الذهنية. وحين انفجرت الانتفاضات الشبابية العربية وجدوا انفسهم خارجها دون أن يكون لهم دور فاعل فيها . ومنهم من أدمن الظهور على شاشات التلفزة دون أن يلتقط نبض الشارع العربي وما تمور في داخله من إرهاصات للتغيير الجذري.
وسرعان ما التحق معظمهم بالقوى الشبابية المنتفضة بحثا عن دور النصح والإرشاد. وحين اتخذ قادة الانتفاضات موقف اللامبالي من تنظيرات مثقفين أدمنوا التبشير بالإحباط وغياب القدرة على التغيير لعقود طويلة، عمت وسائل الإعلام موجة من المقالات النقدية التي تشكك بقدرة الشباب على الاستمرارية. فنشروا كما هائلا من المقالات التي تؤكد على أن الانتفاضات الشبابية نجحت في إسقاط بعض الرموز السلطوية بتواطؤ واضح من القوى العسكرية العربية التي شكلت الضامن الأساسي لنظام الطوارى المتحكم بمصير الغالبية الساحقة من الشعوب العربية.
وتوصل بعضهم إلى تصورات شبه يقينية ترى أن الانتفاضات باتت اليوم بين فكي كماشة القوى التقليدية والسلفية والأصولية، التي تعتبر نفسها الوريث الشرعي للأنظمة السياسية القائمة على امتداد العالم العربي من جهة، والتدخل العسكري لدول تتحكم بالأنظمة العربية وشعوبها منذ زمن طويل من جهة أخرى. وبعد أن نصبت تلك الدول نفسها وصيا على انتفاضات الشباب في تونس ومصر، سارعت إلى دعم انتفاضة ليبيا عسكريا للاستفادة منها في إسقاط النظام الليبي. وهي تحاول تكرار التجربة لإسقاط النظام السوري عبر تعاون واضح بين بعض أطراف المعارضة السورية، وجامعة الدول العربية التي تمارس فرض عقوبات خطيرة جدا تمهد الطريق للتحالف الأميركي ـ الأوروبي لكي يقوم بتدخل عسكري مباشر لاسقاط النظام السوري، وتعزيز موقع إسرائيل من خلال منع توجيه الانتفاضات العربية ضدها.
لكن القوى الشبابية تدرك جيدا أن فشلها في تحقيق الأهداف الرئيسية للتغيير الشمولي في العالم العربي سيفجر سلسلة من الإضطرابات الاقتصادية والاجتماعية بسبب الفساد الإداري والمالي، وكثافة الأزمات الاجتماعية والمعيشية التي تصيب غالبية المواطنين العرب، وبشكل خاص جيل الشباب منهم. ولن يكتب للانتفاضات أي نجاح حقيقي ما لم توجه المعركة ضد إسرائيل التي استباحث الغالبية الساحقة من أرض فلسطين، وتعمل على فك التبعية مع الغرب لمنعه من إقامة نظام شرق أوسطي جديد يضمن أمن إسرائيل وسيطرتها على الموارد العربية.
تجدر الإشارة هنا إلى أن عددا لا بأس به من المثقفين العرب أدلوا بتصريحات متسرعة تؤكد على أن الانتفاضات الشبابية العربية هي التي اوصلت الاسلاميين إلى السلطة في كل من تونس ومصر والمغرب وليبيا. وأن حظوظ التيارات الاسلامية في تولي السلطة السياسية تتزايد في اكثر من دولة عربية. لكن هذا الفهم البائس والملتبس لنجاح القوى الاسلامية يكشف عجز بعض مثقفي التيارات العلمانية والليبرالية واليسارية عن رؤية علمية لأسباب الانتفاضات.
فقد وقفت نسبة كبيرة من مثقفي التيارات الاسلامية إلى جانب الجماهير الشعبية في وجه أنظمة القمع والاستبداد العربية، ودخل المئات منهم في سجونها. مما أعطاهم نفوذا كبيرا في الشارع العربي. فمحضتهم الجماهير الشعبية نسبة كبيرة من أصواتها في الانتخابات. يكفي التذكير هنا بأن نتائج «حماس» فاجأت «فتح» والمثقفين العرب في الانتخابات النيابية. فقد ركزت الحركة خلال سنوات طويلة على تعبئة الجماهير الشعبية وفق ثقافة برغماتية تدعم برنامجها السياسي. وتقرب مناضلوها من الجماهير الشعبية عبر جهاز واسع من الأطباء والمهندسين والمحامين والنقابيين الذين وقفوا إلى جانب الفقراء والمعوزين، وعملوا على تعزيز صمود الفلسطينيين في مواجهة آلة القمع الإسرائيلية اليومية، ودخلوا سجون الاحتلال دفاعا عن أرض فلسطين، ووحدة شعبها، وحرية قرارها السياسي، وبناء دولته المستقلة على أرضه، وعودة المبعدين إلى الوطن الأم، وحق الفلسطينيين في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي بكل الوسائل المعترف بها دوليا، وفي طليعتها الكفاح المسلح. فحصدت حماس نسبة كبيرة من الأصوات في غزة بعد انتخابات ديموقراطية نزيهة وشفافة، اعترفت بها جميع قوى المراقبة العربية والدولية.
بالمقابل، كانت نسبة كبيرة من المثقفين الليبراليين والديموقراطيين العرب تتعاون مع السلطات القمعية في دولها طمعا بمنصب وزاري أو استشاري في أجهزة الحكم الاستبدادية. ونجحت الأنظمة العربية في تحويل من تعاون معها إلى أدوات ثقافية تعمل لصالح النظام القائم، وتحافظ على ماء الوجه اليساري عبر التوقيع على بيانات إدانة شكلية للأنظمة العربية.
نشهد اليوم جانبا إضافيا من المشهد الثقافي العربي البائس. فالغالبية الساحقة من المثقفين العرب لم يكن لها دور فاعل في التحضير لحركة التغيير الشامل التي انفجرت في العام 2011 . وبعد نجاحها عمل بعض مثقفي الداخل وفي بلدان الاغتراب على ضمان مصالحهم الشخصية بالدرجة الأولى. ومنهم من عاد إلى وطنه برتبة وزير أو مستشار رئاسي بصلاحيات واسعة وإيرادات مالية كبيرة. ومنهم من استغل الانتفاضات الشبابية في بلاده ليعلن ارتباطه العلني بوزارة الخارجية في الدولة التي يقيم فيها أو يتعاون معها.
وكانت جماعة فرنسا والولايات المتحدة وتركيا بين الأكثر سوءا ممن رهنوا معارضتهم للنظام السياسي بأجندات خارجية تستدرج احتلالا عسكريا لوطنهم. وفي الوقت عينه تشهد الساحة العربية اليوم تهافتا مريعا لجامعة الدول العربية ولبعض النخب الثقافية العربية التي انحازت بالكامل إلى مشاريع مشبوهة يجري تحضيرها لمنطقة الشرق الأوسط وتتضمن شطب العروبة القومية، وإعادة تشكيل المنطقة على اسس جديدة لضمان أمن إسرائيل وحمايتها. وفي حين يزداد وعي قادة الانتفاضات الشبابية فتصر على التغيير الشامل مهما بلغت التضحيات يبدو وضع بعض المثقفين العرب مثيرا للاشمئزاز بسبب الارتباك المستمر لدى نخب ثقافية محبطة أو مرتهنة للخارج. ومنهم من يفاخر بارتباطه العلني بمشاريع الدول الكبرى لتجزئة التجزئة، وإشعال نزاعات دموية في أكثر من دولة عربية. لكن الدول الكبرى، والأنظمة العربية وجامعتها المرتبطة بها، لم تعد قادرة على فرض المزيد من الضغوط على الشعوب العربية. كما أن ميزان القوى على المستوى الدولي وفي مجلس الأمن يؤكد عجز القوى التقليدية عن تعطيل المسار التصاعدي للانتفاضات الشعبية طالما أن ملايين الشباب العربي المنتفض يملأون ميادين التحرير وساحات الحرية على امتداد الوطن العربي.
السفير