ديودونيه والأسد: معركة واحدة/ صبحي حديدي
أن يكون امرؤ ما ضحية محاكم التفتيش المعاصرة، في أوروبا هذه الأيام بصفة خاصة، وأن يجري كمّ الأفواه بذرائع واتهامات شتى، تنتهي جميعها إلى محرّم كبير واحد، هو العداء للسامية، أمر لا يعني، بالضرورة، أنّ المرء ذاته ليس مصاباً بهذا أو ذاك من أمراض العنصرية أو الانتهازية، أو أنّ الضحية ذاتها ليست صديقة جلاد هنا، أو متواطئة مع مستبدّ هناك. خير النماذج، وأحدثها على الأرض الفرنسية مثلاً، الكوميدي ديودونيه مبالا، والذي يُتهم بالعنصرية في الشكل والحيثيات القانونية، وبكراهية اليهود والعداء للسامية، ولدولة إسرائيل في المحتوى والرسالة السياسية.
لكن ديودونيه ليس مجرّد مناصر لنظام بشار الأسد، على طريقة ‘الممانعين’ العرب، أو المرتزقة من أمثال البريطاني جورج غالاوي، أو متقاعدي اليسار الطفولي الأوروبي، فحسب، بل هو ‘منحبكجي’ متعصب مهووس، بأسوأ ما تعنيه هذه المفردات من ابتذال وانحطاط: على خشبة المسرح، وليس في الكواليس أو المجالس الخاصة، يهتف بحياة الأسد ويرفع صورته، ويعطي ممثلي النظام فرصة مخاطبة الجمهور، ويصفّق لهم عندما يفدون قائدهم بالروح وبالدم. وحين ينخرط في أية ‘فذلكة’ حول الأسباب التي تدفعه لتأييد النظام، فإنه يسارع إلى امتداح ‘أجواء الحرّية’، و’احترام الاختلاف’، و’حقّ التعبير عن الرأي’… التي لمسها شخصياً خلال زيارة دمشق في عهد الأسد، والتي يفتقدها في بلده فرنسا! كذلك لا يخفي ديودونيه انحيازه إلى ‘حزب الله’، لأنه الطرف الذي يقاتل إسرائيل، وما دام الحزب يناصر الأسد، فإنّ الأخير على حقّ، لا ريب!
لافت، إلى هذا، أنّ شرائح واسعة من أتباع اليمين الفرنسي المتطرف، الكاره للعرب وللمسلمين وللمهاجرين، المتباكي على طهارة ‘العرق الأبيض’… لا تكتفي بمناصرة ديودونيه (الكاميروني الأصل، ذي البشرة السوداء!)، بل تعتبر أنّ أفكاره امتداد لخطّ هذا اليمين، في مسائل السياسة والاقتصاد والاجتماع، إذا لم تكن مستمدة أصلاً من برامج اليمين وفلسفته. لافت، بعدئذ، أن يكون ألان سورال، العضو السابق في الحزب الشيوعي الفرنسي، والعضو الحالي في ‘الجبهة الوطنية’، أبرز أحزاب اليمين الفرنسي المتطرف، ولكن الماركسي (دائماً، كما يقول!)… هو شريك ديودونيه في ‘الخلطة’ إياها، بعد إضافة أفكار غوغائية حول رفض التيارات النسوية المعاصرة، واعتبار الحجاب أداة إغراء شرعية أقوى أثراً من الثياب الداخلية الفاضحة!
وقد يسارع كثيرون، من العرب والمسلمين، ثم جاليات المهاجرين عموماً، إلى إعلاء شأن ديودونيه، والإقبال على عروضه المسرحية، وتقديم التبرّعات المالية لتغطية النفقات الباهظة الناجمة عن مثوله، مراراً وتكراراً، أمام القضاء. لكن الدوافع، في قسطها الأعظم، لا تنبع من تثمين القيمة الفنية لتلك العروض، أو حتى من باب التعاطف مع رأي يتعرّض لاضطهاد النظام السائد، ومجموعات الضغط السياسية والاقتصادية والإعلامية اليهودية بصفة خاصة، بل في المقام الأوّل، لأنّ ديودونيه يوفّر لجمهوره فرصة التنفيس عن رغائب نقد عارمة، ضدّ هيمنة المؤسسة إجمالاً، وضدّ ‘الانضباط السياسي’ في التعبير عن الرأي، خاصة وقد صارت القوانين الفرنسية تخلط، في مستويات التجريم، بين رأي يُثار ضدّ سياسات إسرائيل، وبين مخالفة جنائية بتهمة العداء الديني أو العنصري لليهود.
ذلك كلّه لا يعني، في الجانب الآخر من المسألة، أنّ ديودونيه ليس ضحية تنكيل محاكم التفتيش المعاصرة، وأنّ الكثير من القضايا التي تُرفع ضده في المحاكم لا يكون حافزها مناهضة العنصرية، أو حتى الدفاع عن اليهود، بقدر ما تسعى أوّلاً إلى لجم نقّاد إسرائيل، الدولة والسياسات، بذريعة تحصين المجتمع ضدّ نزوعات العداء للسامية. وفي هذا المضمار، وعلى سبيل المقارنة مع نموذج مضاد، للمرء ان يتذكّر الدعوى التي رفعتها، سنة 2008، ‘رابطة مناهضة العنصرية ومعاداة السامية’، الـ Licra، وهي أبرز مجموعات الضغط اليهودية في فرنسا، ضدّ موريس سينيه Sin’، أحد كبار رسّامي الكاريكاتير المخضرمين، بتهمة ‘التحريض على الكراهية العنصرية’. وبعد طرده من وظيفته في أسبوعية ‘شارلي إيبدو’، المطبوعة ذاتها التي أعادت نشر الرسوم الكاريكاتورية الدانمركية المسيئة لشخص الرسول بذريعة الدفاع عن حرّية التعبير، مثل سينيه أمام محاكم عديدة، حتى تراجعت الرابطة وقررت عدم استئناف القضية.
الأمر لا يقتصر على فرنسا، بالطبع، إذْ أنّ سينيه نفسه كان ضحية واحدة من أبشع وقائع الرقابة في التاريخ الإنساني، أي إعدام الكتاب، عن طريق إحراق كامل النسخ المطبوعة. ففي سنة 1966، أقدمت دار نشر ‘بنغوين’، بقرار فردي من مؤسسها ألن لين، على إحراق 50 ألف نسخة من كتاب سينيه ‘مجزرة’، لأنه اعتُبر إهانة لمشاعر المسيحيين، رغم أنّ الكتاب كان ترجمة عن الأصل الفرنسي (يُروى، هنا، أنّ لين ـ الذي سبق له أن دافع بقوّة عن طبع ‘عشيق الليدي شاترلي’، رواية د. هـ. لورانس ـ ترك إدارة الدار منهمكة في مناقشة ما يتوجّب عمله بصدد كتاب سينيه، وانسلّ مع أحد المستخدمين الموثوقين، وحمّل الطبعة كاملة على ظهر شاحنة صغيرة، ثمّ مضى بها إلى مزرعته الخاصة، فأحرقها هناك!).
قصارى القول هو أنّ ضحية محكمة تفتيش، من طراز ديودونيه، يمكن أن يكون شريكاً لمستبدّ، قاتل أطفال، مثل الأسد. أحياناً تكون المعركة واحدة، كما يُقال في فرنسا!