صفحات الثقافةناصر الرباط

ذاكرة الحرب: الفن في مواجهة العنف/ ناصر الرباط

 

 

شاخصة طريق بيضاء تحمل خمسة أسهم كل منها تدل على جهة وعليها كلها كلمة واحدة (بالفرنسية!): عرب، عرب، عرب، عرب، عرب. هذه القطعة الفنية البسيطة التعبير والساخرة بشدة من عمل الفنان زياد أبي اللمع، جزء من معرض كبير في متحف ماكسي للفن المعاصر في روما (الذي صممته المعمارية الراحلة زها حديد) بعنوان “بيروت، الوطن- سبر الجيران”، والذي يحوي حوالى مئة عمل لستة وثلاثين فناناً لبنانياً (ما بين مقيم ومهاجر). هدف المعرض الذي يستمر حتى 20 أيار (مايو) ٢٠١٨ هو فعلاً سبر غور الجيران غير الأوروبيين، حيث أن الماكسي قدم سابقاً معرضين عن إيران وإسطنبول، وبيروت هي الثالثة في هذه السلسلة. ولكن بيروت تأتي ومعها ذكريات لم تندمل عن حرب أهلية لم تقفل كما ينبغي بعد مما يطبع عمل فنانيها بنكهة مرة ومقاومة للنسيان مع تشبث بالانتماء، حتى في ظل تشظي الهويات في لبنان وفي المنطقة العربية بشكل عام. وتأتي شاخصة أبي اللمع لتثير أكثر من تساؤل: هل كل جهة موطن عرب، بخاصة عندما يكون المنظور لبنانياً؟ أم أن تنوع الجهات دليل تشرذم؟ أم أنه، بما أن العمل عرض أولاً في البندقية، تحذير لأوروبا من أن العرب يحيطونها من كل الجهات، أو يأتون إليها رغبةً في جنتها المادية والاجتماعية من كل اتجاه؟ الفنان لا يقدم شروحاً وافية على رغم شعبية العمل ويترك المجال مفتوحاً للمتفرج لينسج تأويله على هواه. وكذلك يفعل غيره من الفنانين المشاركين بأعمالهم الصعبة والجميلة والمعبرة من أفلام أكرم زعتري وشيرين أبو شقرا إلى تشكيلات مروان رشماوي إلى رسومات إتيل عدنان ورقص ألكسندر بوليكيفيتش (اللبناني) المعبر والحساس في خرائب بنت جبيل في فيلم سيرين فتوح (اللبنانية-السورية) وغيرها الكثير.

لكن رسالة المعرض ككل، بغض النظر عن وضوح رسائل الأعمال الفردية للفنانين المختلفين من عدمه، واضحة، على الأقل سياسياً وكيانياً وتعبيرياً. فبعد أكثر من ربع قرن على انقضاء الحرب الأهلية اللبنانية المبتورة ما زال الفنانون اللبنانيون يحاولون تمثيلها وتمثل تأثيرها في تشكل وعيهم بذاتهم وبهويتهم وبانتماءاتهم المتنوعة بشتى الأنواع الفنية من رسم وفيديو ونحت وتشكيلات مركبة. لم يخفف مرور الزمن من معاناة التعبير ولكنه قطعاً أصّلها وزادها حساسيةً ونضجاً وعمّق تعبيرها. فالأعمال المعروضة بذوق وفهم من قبل المنظمين تتطرق إلى مختلف هموم المواطنة والانتماء والذكريات، الشفافة منها والمحفورة في وجدان اللبنانيين الذين لم ينسوا بعد أهوال الحرب ومآسيها أو تداعياتها التي ما زالت تشوه حياتهم اليومية وتعقد تعاملهم مع محيطهم. وغالبية هذه الأعمال، بما أنها نضجت على نار الزمن الهادئة، تهمس ولا تصرخ، تحاور ولا تفرض، وتوحي ولكن لا تعني مباشرة. وهي بمجملها تشتبك مع المواضيع الشائكة التي أسست لقيام لبنان في بداية القرن العشرين وللحروب الأهلية على مدى القرن، والتي لم تستطع أن تجد حلاً يحقق توازناً انتمائياً للطوائف المختلفة التي يتكون البلد منها، من نوع من نحن؟ ومن هم هؤلاء الـ “نحن” ومن هم “الآخرون” بالنسبة لنا والذين اقتتلنا معهم لمدة طويلة على رغم مشاركتهم الأرض والوطن؟ وما هو لبنان؟ وما هو تاريخه؟ وكيف يتوضع على حاضر الوطن وعلى رؤيتنا لأنفسنا وللآخرين؟ وكيف نبني مستقبلاً يضمنا جميعاً؟ والسؤال الأكثر إيلاماً: ما الذي فعلناه بأنفسنا وببلدنا وبجيراننا؟ ولماذا؟ وكيف نخرج من هذه الدوامة الاتهامية الكيانية والهوياتية ونستعيد إنسانيتنا وحسّنا النقدي وحساسيتنا الجمالية من دون أن ننسى أو نتناسى مآسي الحرب وذكريات السلام، أو نتجاهل تداعيتها وآثارها المادية والمعنوية؟

هذه كلها أسئلة على الفن، والثقافة في شكل عام، في البلاد العربية المبتلية بالحروب الأهلية (أو شبه-الأهلية كما كانته الحرب اللبنانية) كسورية والعراق وليبيا واليمن، الاشتباك معها عاجلاً أو آجلاً. طبعاً ما زال الوقت مبكراً والمآسي ريانة لكي يتمكن فنانو هذه البلاد الشهيدة من التعاطي مع حروبهم الأهلية بتجرد النظر وسعة الأفق وعمق الإنسانية الذي بدأ الفنانون اللبنانيون (والروائيون اللبنانيون أيضاً) بترسيخه في أعمالهم الجديدة. أما فنانو سورية والعراق (لا أعرف الكثير عن ليبيا واليمن) فهم وإن كانوا فعلاً بدأوا بملامسة تأثير الحرب المباشر على أنفسهم ومجتمعاتهم الصغيرة والكبيرة وعلى ذكرياتهم وذاكرتهم الجمعية، فإنهم ما زالوا في بداية طريق جلجلتهم. فأعمالهم الفنية اليوم أكثر ما تنضح بالألم والأسى والغضب واللوعة والاستغراب واللافهم. وهي، وإن استجابت لمشاعر جمهورهم الغضة التي ما زالت تنزف دماً قانياً حقيقياً، وحاولت التعبير عن تألمهم، إلا أنها ما زالت تتلمس طريقها نحو الفهم والاستجابة والتأويل ومن ثم التصعد فوق غرائز البقاء والانتصار ودحر العدو والانتقام، واستعادة الإنسانية، التي هي الخسارة الأكبر في حروب كهذه تفقد الفرد والمجتمع على حد سواء هويتهم الإنسانية الأساسية. الفن في بلاد العرب المنكوبة اليوم، منكوب هو أيضاً بإحساسه بالخسارة والفقدان والدمار. وهو ما زال يتجاوب مع هذه الطبقات الغرائزية من الاستجابة التي وإن كانت صادقة وضرورية إلا أنها غير كافية لا تعبيرياً ولا فنياً ولا معرفياً ولا وجدانياً.

فالفن ليس فقط تعبيرات تمتع العين أو ترضي الحواس أو “تفش الخلق” أو تفتح آفاقاً للتفكير (وهو ذلك كله طبعاً). ولكنه أيضاً صياغات فردية واستجابات ذاتية لهموم جمعية وأسئلة قلقة وحائرة يتشارك فيها الأفراد الفنانون ويتأولونها، كل على طريقته ووفق منظوره ربما، ولكن تأثيرها جمعي وربما يفوق في مداه حدود الوطن والثقافة لكي يلامس الهوية الإنسانية، أو على الأقل هذا ما يفعله الفن النبيل. وهو لذلك أكثر من شخصي، وإن كانه أساساً، وأكثر من هوياتي محدد وإن استقى من هوية مبدعيه معالم تشكله وأدوات تعبيره. الفن بلسم ولكنه أيضاً مبضع يغور عميقاً في تلافيف الذاكرة ويقاوم النسيان ويفضح الغرائز وإن كان لا يدينها، بل ربما يعتمد عليها بما أنها جزء من إنسانيتنا أصلاً. وهو كشاف لنقائصنا وعقدنا وتابواتنا التي نخفيها عن أنفسنا بمختلف الحيل الثقافية، مما يشكل الخطوة الأولى لمواجهتها وتسليط الضوء عليها تمهيداً للتفاعل معها، سلباً أم إيجاباً، ولكن بإدراك العارف وتوسل المشفق المشارك. والفن العربي في بلاد الثورات والحروب والدمار في بداية طريقه الشاق لتجاوز الدرجات الأولى من التعبير، كما يظهر في العديد من العروض السورية والعراقية المقامة أخيراً في مدن الغرب الوسيعة وفي بيروت ذاتها، والصعود في درب السبر والكشف والتمثل والتأويل وصولاً إلى التماهي مع الجذور الإنسانية للمعاناة التي تفتح آفاق الفهم والتعاطف، وربما الغفران.

* كاتب سوري وأستاذ في أم أي تي بالولايات المتحدة

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى