مراجعات كتب

ذكريات توماس ترنسترومر.. كما لو أنها تراه!/ سامر مختار

 

 

يعتبر كتاب الشاعر السويدي توماس ترنسترومر(1931 – 2015) “ذكريات تراني”، الكتاب النثري الوحيد له، إذ أن هذا الكتاب صدرَ مؤخراً عن الهيئة العامة للكتاب المصرية، وترجمه إلى العربية الكاتب والمترجم المصري طلال فيصل، وبإمكاننا أيضاً أعتبار هذا الكتاب سيرة ذاتية غير مكتملة، ففي زيارة استثنائية قام بها المترجم إلى بيت ترنسترومر بغية إجراء حوار، مع الكاتب، والتقرب من عالمه، قالت له السيدة ترنسترومر أنه “أفضل مدخل لقراءة أدبه وشعره، لأن فيه المكونات الأولى لإبداعه والمواضيع التي ستشغله طيلة مشواره الإبداعي بعد ذلك، تضيف في أسى هادئ أن الكتاب كان من المفترض أن يكتمل ستة عشر فصلاً – بدلاً من الثمانية التي صدرت – لكن مرضه حال دون إتمام الكتاب والفصول التي يريد فيها تدوين بدء تجربته مع الكتابة والشعر ومعلميه الأوائل”. هكذا سنقرأ بين دفتي الكتاب عن ترنسترومر الطفل، والذي نشعر بأن الرجل الذي بلغ الستين من عمره – هي مرحلة كتابة الكتاب – لازال طفلاً، يبحث عن وجوهه الذي لم يعد يراها في المرآة “دائماً ما نشعر أننا أصغر من أعمارنا الحقيقية. أحمل بداخلي وجوهي الباكرة، مثل جذع شجرة يحوي حلقاته، ومجموع هذه الوجوه هو “أنا”. لا تبصر المرآة غير وجهي الأخير، بينما أعرف أنا تلك السابقة عليه”.

لكن قراء توماس ترانسترومر سيحرمون بالمقابل، من كشوفات وأسرار عملية الكتابة عند هذا الكاتب الذي كان بالأصل قليل الإنتاج. مع ذلك نشعر أن الكتاب هو إعادة بث الروح في صور لماض، يبدو أن الزمن فشل في تحويلها للأبيض والأسود، إنها مازالت ناضجة في ذاكرة ترنسترومر، ويقول في أول فصل، والذي جاء عنوان “ذكريات”: “حياتي “… حين أفكر في هذه الكلمة أبصر إزائي شعاعاً من الضوء، أتفحصه عن قرب فيتخذ شكل مذنّب؛ له رأس وذيل. رأسه، الطرف الأكثر التماعاً، هو الطفولة وسنوات التكوين، ونواته، الجزء الأكثر كثافة، هي بواكير هذه الطفولة: الفترة الأولى التي تتحدد فيها الملامح الأهم لوجودنا”. بهذا العمق والروح الشاعرية يبدأ ترنسترومر بالحديث عن ذكرياته، وكأنه كان منتظراً هذه اللحظة من عمره، كي يكتب ما خزنته ذاكرته من خيالات، وغموض تلك الطفولة التي يتخطاها الزمن ويبقى على أسرارها داخل كل إنسان، ولعل هناك بعض التأويلات تتفتح في الذهن، وبعضها ينثر بين حنايا اللغة “تجاربنا المبكرة في معظمها، يصعب الوصول إليها؛ فهي لا تزيد على كونها مجرد مرويات، وذكريات للذكريات، وإعادة تركيب مبنية على حالات مزاجية تتوهج بشكل مباغت في الحياة”.

يسترجع ترنسترومر المكان الذي نشأ فيه في مدينة استكهولم، والأجواء التي أحاطت في تلك المرحلة المبكرة من الطفولة، كأن يتكلم عن جده الذي تربطه به علاقة وطيدة “كان جدي يتكلم بطريقة طريفة تنتمي للقرن التاسع عشر. يمكن للكثير من تعبيراته أن تبدو اليوم قديمة لدرجة مدهشة، لكنها من فمه، وفي سمعي، كانت مألوفة للغاية. كان قصيراً نوعاً ما، له شارب أبيض وأنف بارز معقوف – يبدو مثل الأتراك كما كان يقول عن نفسه”. ويكشف ترنسترومر عن اهتماماته في تلك المرحلة، إذ كان يحب زيارة المتاحف الخاصة بالتاريخ الطبيعي، كما كان مهتماً بجمع الحشرات وتحنيطها والاحتفاظ بها. ونرى أن الجدّ كان له تأثيراً كبيراً على الشاعر إذ أنه كان سبباً لتحول اهتمامه بعد ذلك إلى الآلات البخارية “كنت أنا وجدّي نتوجه مرتين أسبوعياً من سودر لزيارة المتحف، لا بدَّ أن جدي كان مفتوناً بنماذج القطارات، وإلا ما كان تكلف مشقة كل هذه الزيارات “حتى أن هذا الاهتمام سيكشف لترنسترومر، أي من الشخصيات هو “في ذلك الوقت كنت أريد أن أكون مهندس قطارات، وكنت على الرغم من ذلك، أكثر اهتماماً بالآلات البخارية عن الآلات الكهربية وبعبارة أخرى، كانت شخصيتي رومانسية أكثر منها عملية”.

يتنقل بنا ترنسترومر من حديثه عن المتاحف إلى الحديث عن فترة دخوله المدرسة، والتي كانت موازية لفترة الحرب العالمية الثانية أيضاً، وكيف تشكل وعيه السياسي، وما كان مفهوم السياسة بالنسبة له كطفل “في ربيع 1940 كنت في التاسعة من العمر، صبياً نحيلاً؛ منحنياً على الجريدة اليومية مُكباً على خريطة الحرب، حيث العلامات السوداء تشير لتقدم وحدات الجيش الألماني. كانت هذه العلامات تخترق فرنسا، ولم تكن بالنسبة لنا، نحن أعداء هتلر، أكثر تهديداً من كائنات طفيلية تعيش في أجسادنا. كنت أعتبر نفسي على الحقيقة واحداً من أعداء هتلر”.

ويذكر ترنسترومر حادثة طريفة عن مدرسة النحو – تكافئ في العالم العربي القسم الأدبي حسب المترجم – إذ أن المدرسة التي كان اسمها سودرا، خلّدَ جوها العام المخرج السويدي الشهير إنغمار بريغمان في فيلمه Hets  “عذاب” ويقول ترنسترومر أنه تم تصوير هذا الفيلم في المدرسة وكنا نحن مجاميع الطلاب الذين نظهر في أجزاء عديدة منه. والفيلم كان يدور عن مدرس سادي يقوم بتعذيب طلابه.

ونفاجئ أن ترنسترومر كان قد زار مصر في أيام شبابه، وتحديداً مدينة طنطا، وقد تحدث عن هذه الزيارة، عن طريق إجابة عن سؤال صحافي حول ديوانه “سماء نصف مكتملة” إذا أن الديوان كما يروي ترنسترومر “كان بمثابة تسجيل مباشر لما اختبرته بالفعل في تلك الزيارة البعيدة؛ لم يكن هناك خيال أو اختراع من جانبي – قصائد الديوان هي محاولة لتكثيف تلك المشاهدات التي واجهتني في ذلك النهار من عام 1959 في بلدة طنطا في مصر”.

ونشير أنه في العام 2005 ترجمت الأعمال الشعرية الكاملة لترنسترومر إلى اللغة العربية، كما حاز على العديد من الجوائز الأدبية، وأبرزها جائزة نوبل للآداب عام 2011، ورحل عن عالمنا في 26 مارس من هذا العام 2015.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى