رأب الصدع بين العرب والكرد/ برهان غليون
يصعب الحديث بسهولة في المسألة الكردية السورية. أولاً، لأن قطاعاتٍ واسعة من الجمهور السوري لا تكاد تميّز بين موقف الاتحاد الديمقراطي الذي يقود اليوم السياسة الكردية السورية وموقف الأحزاب الكردية العديدة الأخرى، وأهمها المنضوية في المجلس الوطني الكردي. وثانياً، لأن هذه النخب والأحزاب الكردية السورية، على الرغم من تنافسها واختلافاتها، تكاد تشترك في سمةٍ واحدةٍ مع بقية النخب والأحزاب السورية التي تربت على ثقافةٍ سياسيةٍ، تلغي وجود الشعب السوري بأكمله، وتتصرّف كما لو كانت الوصية الشرعية عليه، فهي تنزع إلى الحلول محله، وتقرير مصيره مسبقاً، بدل الدفاع عن حقه هو في تقرير مصيره. ويصعب ثالثاً الحديث والتواصل أيضاً بين النخب الكردية والسورية الأخرى، لأن ثقافة التعقيم والإعدام السياسي للسوريين خلال العقود الطويلة الماضية لم تترك أي مجال لبناء لغة مفاهيم واضحة، لا غنى عنها لأي تواصل جدي. لذلك يغلب على النقاش التأويل الذاتوي للألفاظ وتحميلها غير ما تحمله، فلا مفاهيم الأمة والدولة والشعب والإدارة الذاتية والفيدرالية تعني شيئاً واحداً ومحدّداً عند جميع المتكلمين. ويصعب، أخيراً، الحديث في المسألة الكردية السورية، لأن سنوات الصراع الطويل، قبل الثورة وبعدها، قد خلفت إرثاً كبيراً من سوء الفهم وانعدام الثقة ومشاعر العداء التي تعاني منها النخب السورية بكل مكوناتها، بسبب ما عانته من قهرٍ وإحباط وخنق في ظل نظام البعث والأسد الذي تبعه، والحرمان من أي مشاركةٍ أو مجال للتعبير والتفكير المشترك والتفاهم الوطني. والواقع أن منع مثل هذا التفاهم بين أطراف النخب وأطياف المجتمع كان الاستراتيجية الرئيسية لنظام الأسد كي يحول دون ظهور قوةٍ وطنيةٍ منظمةٍ وموحدةٍ، تضع سلطته المطلقة موضع السؤال. لذلك، حسناً فعل المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في تنظيمه مؤتمراً علمياً حول العلاقات العربية الكردية.
1
ما من شك في أن الثورة الشعبية السورية قد فاقمت من الخلافات بين النخب العربية والكردية، إن لم تكن قد أحدثت صدعاً كبيراً بينها، وعمّقت الهوّة التي نشأت، منذ عقود، بين قوميتين
“الثورة الشعبية السورية فاقمت من الخلافات بين النخب العربية والكردية” تعاني كلاهما من مشكلاتٍ عويصة، حرمتهما من تحقيق أهدافهما، والانتقال بشعوبهما من حالة الشك والانقسام والغليان القومي إلى حالة الاستقرار والنضح والثقة بالنفس، وفتح خطوط التواصل على قدم المساوة، وبصورة جدية ومثمرة، مع الآخر، فقد شكل انفجار الثورة السورية، وتطورات الأحداث التي حالت دون انتصارها السريع كل الآمال المعلقة عند نخبةٍ قوميةٍ كرديةٍ عانت، خلال عقود طويلة، من الغبن والإحباط، وشعرت قيادتها بأن الثورة قد فتحت نافذة فرص كبيرة، ربما تمكّنها، إذا عرفت كيف تستفيد منها، أن تنتقم لنفسها من تجاهل النخب السورية لها في العقود الماضية، وأن تنتزع لنفسها ولايةً في جزء من الأرض السورية المستباحة من قوى داخلية وخارجية عديدة. وما من شك أيضاً في أن نموذج الحكم الذاتي الذي حصل عليه الأكراد في العراق لم يبرح مخيلتها، وربما ساهم فيه أيضاً دعم إقليم كردستان العراق هذا الخيار، وسعيه إلى نقل تجربته في العراق إلى كرد سورية. وهكذا تفاهمت الأحزاب الكردية، أو أغلبها، على تشكيل مجلس وطني كردي، بعد أقل من 15 يوماً من الإعلان عن تشكيل المجلس الوطني السوري في 2 أكتوبر/ تشرين الأول 2011. وكان الهدف من ذلك تمييز القضية الكردية القومية عن القضية السورية الديمقراطية العامة، والسعي إلى وضع المجلسين بموازاة بعضهما ندّين في مفاوضاتٍ تفضي إلى الاعتراف بحق الكرد السوريين في تقرير مصيرهم، وإقامة حكم ذاتي يتحول، في ما بعد، إلى إقليم مستقل أو شبه مستقل، كما حصل في كردستان العراق.
وهكذا تبلورت سياسات جديدة في الوسط السياسي والثقافي الكردي، لم تكن معروفة من قبل أو كانت مقصورةً على فئات قليلة من النخبة الكردية السورية. ومن ضمنها وأهمها التركيز على الشعب الكردي في مواجهة الشعب السوري، والسعي إلى فرض أسماء كردية على بعض المدن والقرى، سواء أكانت أسماء جديدة أو بعضاً مما كان قد تم تعريبه في عهد سابق، وتداول الإعلام الكردي السوري، لأول مرة، فكرة كردستان سورية، تشبهاً بكردستان العراق. وبدل أن يتعاون المجلس الوطني الكردي مع المجلس الوطني السوري، لتعيين ممثليه في مكتبه التنفيذي وأمانته العامة، على أساس البيان الوطني الجامع الذي قام عليه، علّق المجلس الكردي انضمامه العملي للمجلس الوطني بشروطٍ عديدةٍ، أهمها اعتراف المجلس بحق الشعب الكردي السوري في تقرير المصير، والاعتراف الدستوري بالشعب الكردي، وفي ما بعد إقرار اللامركزية السياسية، رداً على اقتراح المجلس الوطني السوري باللامركزية الإدارية الموسعة التي نص عليها بيان إعلان المجلس الوطني، تماشياً مع تطلعات الشعب الكردي. وطالب قادة الكرد أيضاً المجلس بالتخلي عن اسم الجمهورية العربية السورية، واعتماد اسم الجمهورية السورية، كما تم اعتماد علم الاستقلال بديلاً للعلم السوري الراهن. لكن مع تعثر المفاوضات، لم يتردد بعض قادة المجلس الكردي في ربط موقفهم من الثورة بموقف المجلس الوطني من تلبية مطالبهم، على الرغم من أن الشارع الكردي كان من أنشط الشوارع المؤيدة للثورة، والمساهمة في مظاهراتها الشعبية الواسعة وشعاراتها.
2
والواقع أنه لم يكن أحد في المجلس الوطني يعارض الاعتراف بهوية الشعب الكردي الثقافية
“العمل على الأجندة الديمقراطية التي وضعتها الثورة في مقدمة المهام التاريخية لسورية، يقرّب الكرد من تحقيق تطلعاتهم القومية” المستقلة والمتميزة، ولا في تأكيد المساواة التامة في الحقوق بين القوميتين العربية والكردية وبقية القوميات أو الجماعات القومية الأخرى التي تعيش على الأرض السورية، ولا في ضرورة تقليص صلاحيات السلطة المركزية للعاصمة، وإعطاء صلاحيات أوسع للمحافظات، وربما حكماً ذاتياً لمناطق أو لجماعاتٍ تحلم بذلك، في إطار سورية ديمقراطية واحدة ومستقلة. وكان لعدد كبير من قادة المجلس الوطني السوري علاقات متميزة وإيجابية مع الكرد، وعملوا في طليعة القوى التي دافعت عن إنصافهم وتلبية مطالبهم قبل الثورة وبعدها. ما كان يخشاه قادة المجلس هو أن يستخدم بعض غلاة القوميين مفاهيم ليست واضحة، ولا متداولة بشكل واسع في الثقافة السياسية السورية، من أجل أن يخلقوا شرخاً عميقاً بين العرب والكرد، ويهدّدوا وحدة قوى الثورة السورية التي كان التفاهم العفوي بين جمهور السوريين، على اختلاف قومياتهم ومذاهبهم وأديانهم، أساسها القوي. وكان كثيرون منهم يخشون أن يستغل حزب الاتحاد الديمقراطي، المرتبط بحزب العمال الكردستاني في تركيا، والمشكوك بتحالفه مع نظام الأسد، هذه المطالب والشعارات، من أجل ثني الجمهور الكردي عن دعمه الثورة وتأليبه عليها. وهذا ما حصل بعد ذلك بالفعل، فبدل أن يلاقي قادة المجلس الكردي شباب الكرد المتحمسين للثورة، والمنخرطين فيها، على شعارات ومطالب تعزّز مشاركتهم، وتجعل منهم طرفاً أصيلاً وثابتاً في التحالف ضد نظام الطغيان، شكّكوه بوعي أو من دونه في صحة تضامنه مع إخوته السوريين المنخرطين في الثورة، وقرّبوه من مواقف الاتحاد الديمقراطي وشعاراته، وكان المستفيد الوحيد من ذلك هو قادة هذا الحزب الذين كانوا الملاك الحقيقيين والأصلاء لهذه المطالب والشعارات. ما عزل المجلس وأحزابه وأضعفها أمام حزب صالح مسلم الذي تقدّم، بشكل سريع، إلى موقع القيادة السياسية للحركة الكردية، ونجح في استقطاب الدعمين، الأميركي والروسي. وهكذا أمكن لحزب الاتحاد الديمقراطي أن يحول أنظار جمهور الثورة الواسع في المدن والقرى الكردية عن محور نشاطه الأول ضد الأسد، ويوجهه نحو أهدافٍ قوميةٍ خاصة، عزلته تدريجياً عن الثورة، وأحدثت مناخ مواجهة كردية عربية، يكاد يكون من الصعب تفكيكها، محورها الصراع على الأرض، بمفاهيم الملكية التاريخية وتوسيع دائرة السيطرة والنفوذ. وفي هذا السياق، تم تعميد الكانتونات الثلاثة باسم روج آفا، وأعلنت المنطقة منطقة إدارة ذاتية من طرف واحد، وتم تشكيل حكومة خاصة بها. وبالطريقة نفسها، تم التخلي في ما بعد بموازاة تنامي قوة الحزب القتالية عن روج آفا، وأعيد تعميدها باسم فيدرالية الشمال السوري قيد الإنشاء التي تضم، حسب مفهوم الحزب، مناطق عربية وكردية من دون تمييز، وتشكل نواة لسورية الجديدة التي يراها الحزب فيدرالية في كل أقاليمها، ويريد أن يفرضها على السوريين من دون نقاش ولا حوار ولا مشاورات.
منذ ذلك الوقت، لم يكف الشرخ بين النخب السياسية الكردية والنخب السورية العربية وغير العربية عن التفاقم. وعلى العموم، هناك اليوم شبه وحدة في التطلعات والمواقف لطيف واسع من النخب الكردية السورية، وموقف غالب أو مهيمن، يقوم على اعتقاد راسخ بأن أمام الكرد فرصة تاريخية لا تفوّت، لفرض تصورهم لمصالحهم ورؤيتهم لسورية القادمة، بحيث يكرّرون مثال الشمال الكردي في العراق، بينما يخشى العرب من تنامي طموحات القادة الكرد السوريين، وسعيهم إلى توسيع دائرة نفوذهم، على حساب مصالح العرب السوريين في منطقة الجزيرة والفرات، نتيجة الدعم العسكري المتزايد الذي يقدمه لهم الأميركيون والروس، لمساهمتهم في القتال ضد “داعش”. وفي موازاة هذا الشرخ بين العرب والكرد، يزداد الانقسام داخل صفوف النخب الكردية ذاتها، كما هو الحال في صفوف النخب العربية التي تزداد توتراً وخوفاً مع انحسار دورها وتراجع سيطرتها على أيٍّ من أدوات الصراع القائم. وكما أن مثل هذا الشرخ يشجع دولاً عديدة كبيرة، منخرطة في الصراع داخل سورية وعليها، على استثماره والتوظيف فيه، من أجل تعزيز سيطرتها على الأطراف السورية جميعاً، وفي سبيل توسيع هامش مناورتها وفرض تصوراتها لسورية المقبلة، وتقسيم مناطق النفوذ فيها، ربما على حساب الكرد والعرب مجتمعين.
لا أخفي أنني كنت دائماً أخشى، قبل الثورة، الصدام بين الأجندة القومية التي لا يزال قسم كبير من النخب الكردية يركّز عليها، وهذه طبيعة أي نخبة حيل بينها وتحقيق مشروعها القومي
“بناء دولة يتطلب أكثر من وحدة اللغة والهوية الثقافية، ويحتاج إلى عمل أوسع من استعادة التراث أو ترداد الشعارات والأسماء القومية” الخاص بها، والأجندة الديمقراطية التي أصبحت محور اهتمام النخب السورية عموماً بعد فشل النخب والأحزاب القومية العربية، وفي مقدمها البعث، وتجييرها لتخليد السلطة الاستبدادية. وكنت أعتقد، ولا أزال، أن العمل على الأجندة الديمقراطية التي وضعتها الثورة في مقدمة المهام التاريخية لسورية، يقرّب الكرد من تحقيق تطلعاتهم القومية، وأولها الحفاظ على هويتهم الثقافية واكتساب خبرة أساسية في بناء الدولة والممارسة السياسية، والارتقاء بشروط حياة الشعب التي لاتزال بائسة كبقية السوريين، أكثر بكثير من التعلق بأجندة قومية مغالية، تغامر بقطع الكرد عن محيطهم وبيئتهم الوطنية، وتزرع بذور صراعاتٍ ونزاعاتٍ، لا تنتهي، على الأرض المشتركة، أول من يقفز عليها ويستفيد منها الدول الأجنبية الساعية إلى مزيدٍ من النفوذ والسيطرة.
ونحن الذين عشنا إجهاض حلم القومية العربية، ونعيش اليوم الفاجعة السورية، ندرك أن بناء دولةٍ، لا تتحول إلى فخ لأبنائها، ومصدر قهر وترويع وتدمير لحياتهم الإنسانية، يتطلب أكثر من وحدة اللغة والهوية الثقافية، ويحتاج إلى عملٍ من نوع مختلف، أوسع من استعادة التراث أو ترداد الشعارات والأسماء القومية، وأن الهوية الثقافية تنتعش وتزدهر وتتجدّد بشكلٍ أكبر بكثير، عندما تكون في ظل دولة حقيقية، دولة المواطنة والحقوق المتساوية وحكم القانون، أي دولة الأمة بالمعنيين، الدستوري والسياسي، لا الأتني. هذا خيار معظم العرب اليوم، وهو في اعتقادي خيار أغلبية الكرد أيضاً في سورية وخارجها، في ما وراء اختلافات النخب وصراعاتها الفكرية والسياسوية.
ومهما كان الحال، ليس هناك، في نظري، مبدأ صالحٌ لتنظيم العلاقات بين الشعوب والجماعات، سوى حق تقرير المصير، لكن تقرير الشعوب مصيرها، لا تقرير النخب مصير الشعوب، كما هو جار في منطقتنا، والذي راحت ضحيته الدول والشعوب. وفي إطار احترام حقوق الشعوب والجماعات الأخرى، وحقها المماثل في تقرير مصيرها أيضاً لا على حسابها. لذلك، لا يوجد حق تقرير مصير من طرف واحد، ولا مجال لتحقيقه وتطبيقه إلا من خلال الحوار والتشاور والمفاوضات الجماعية. من دون ذلك، لن يعني فرضه بالقوة سوى تعميم الحروب والنزاعات داخل الدول القائمة، وفي ما بينها.
العربي الجديد