صفحات العالم

رأس فاطمة


زياد ماجد

يصعب تخيّل ما جرى لِفاطمة*، ويصعب وصف الصمت الذي ابتلع أصوات المتفرّجين على موتِها. وأظنّ الأعمال الفنّية الفايسبوكية التي أعادت لها الرأس وصوّرته بستان ورودٍ أو قمراً أو شمساً إنما جهدت لتعويض الصمت المرعب هذا والتخفيف عن فاطمة وعن محبّيها وعنّا جميعاً.

فماذا يمكن فعله لطفلة سوريّة “فقدت” رأسها؟! وما الذي يمكن قوله لبنيّة استلقت بفستانها على الأرض فاتحةً ذراعيها، فالتصق كتفاها الصغيران النازفان بالحائط مباشرةً…

لم تفهم فاطمة مغلاج ما حلّ بها. فجأة فقدت رأسها. فجأة فقدت القدرة على الحلم وعلى التركيز. أرادت أن تشعر بجفاف حلقها لتطلب ماءً فعجزت، وأرادت أن تنادي أمّاً أو أباً فلم تعثر على لسانها ولا على صور للوالدين في ذاكرتها. حاولت النظر حولها لتطمئن إلى نومها في مكان أليف بانتظار انتهاء هذا الشعور الغريب بالفراغ الذي يجتاحها. لكنها لم تجد عينيها المبعثرتين، ولا الحاجبين والرموش المتناثرة في فضاء الغرفة الباردة. لم تجد حتى خصلة الشعر التي سرّحتها والدتها تحضيراً لعرس خالها تلك الليلة.

طار رأس فاطمة.

لم تخلعه كما كان يمكن لسورياليّ أن يفعل.

إقتلعته قذيفة ولم تترك له لحظة لوداع صاحبته. للاعتذار منها عن اضطراره حملَ كلماتها وأغانيها وابتساماتها ودموعها ونعاسها معه.

واستسلمت فاطمة إلى حالة الفقدان، إلى موت خيالها ونهاية انتظارها الهدايا وشنطة المدرسة. عرفت أن لا قدرة لها على الفعل أو القول أو التمنّي بعد ارتحال الرأس، بعد بقاء الجسد يتيماً، مستكيناً، منتظراً دفء التراب…

-2-

الطاغية يحبّ الناس بلا رؤوس.

يحبّهم بلا أصوات وأحلام ومشاريع. يراهم مجرّد أيادٍ تصفّق وتتأهب لتقتل من أجله. مجرّد أقدام تسير خلفه ثم تسير إلى حتفها.

الطاغية يحبّ الأطفال بلا رؤوس. ففي رؤوسهم لا تخاف الأفكار ولا تنتحر الكلمات. ورأس فاطمة كان مزدحماً بالألوان والضحكات. فاقتلعه.

-3-

على الصامتين أمام اقتلاع رأس فاطمة أن يتحسّسوا رؤوسهم كل يوم. أن يتحسّسوا رؤوس أطفالهم. أن يتذكّروا أن شَعراً كستنائياً وأسناناً بيضاً وعينين تبحثان عن المرح ذابت ولم تترك للجسد الطري الصغير أن يلمّها ويستعيد بها نضارته.

فاطمة طفلة تختصر التراجيديا السورية اليوم. وموتها المبتور الرأس موتٌ يومي يصيب العشرات من السوريين والسوريات أمام أنظار العالم. أمام المنفعلين والمتواطئين والمتردّدين والعاجزين.

موت فاطمة احتمال يطارد الألوف من أترابها في سوريا. ولا نجاة لهم وشفاء من ظلال السكوت الأبدي إلا في انتزاع بلادهم الحرّية التي تشبه آمالهم وحروفهم وأسئلتهم المعلّقة. لا نجاة إلا في تدحرج نظام الطاغية وفي استرجاع بعضٍ من العدالة المعلّقة في سوريا، وفي العالم الناظر إليها، منذ عقود ومنذ أشهر. عندها فقط، يصبح ذلك الانفجار المرعب الذي خطف رأساً في بلدة سورية ذكرى بعيدة لا تشبه الاحتمالات ولا تهدّد أنفاس أخوة فاطمة وأخواتها… وعندها فقط يصبح موت فاطمة حكاية تُطوى بحنان لطفلة افتدت مستقبل أطفال بلدها، برأسها…

* فاطمة مغلاج طفلة سورية قضت في بلدة كفرعويد (منطقة جبل الزاوية) في قصف طيران النظام الحربي. وقد أظهرت الصور وأفلام الفيديو جسمها الملقى أرضاً، وهو منزوع الرأس.

لبنان الآن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى