رؤوسنا التي تدحرجت إلى رأس السنة/ أيمن الشوفي
آخر يومٍ في العام 2014، آخر وجبة نعاس، آخر فارس ينهرُ جوادهُ فيصير دمية، آخر حبّة هاون تزرعها السماء في باطن الأرض، آخر طاهٍ يعمل في مطعم “دوشكا”، آخر عارض أزياءٍ يرتدي “الكلاشنكوف”، آخر طفلٍ يعبثُ بالحدود فيصير لاجئاً، آخر شاب يصاب بالطفح الجلدي وهو يعبر “المتوسط”، آخر حاسةٍ من حواس العام الحالي، أوّل حاسةٍ من حواس العام القادم، ويختصر السوريون حكايتهم بحراكٍ دفعَ الغرب ديّته، فتشرّد نصفنا، وأُنهك نصفنا الآخر، كأنما دفع العالم كلّهُ ديّتنا لنموت.
رأس بين مبادرتين
انقضى عام 2014 لا مهرولاً، ولا راكضاً، بل مشى ثقيلاً كأنهُ بلا فصولٍ فوقنا جميعاً، بحيث بتنا ننعى أنفسنا، بدلاً من نعيه، منذ مبادرة الأخضر الإبراهيمي في أولّه، إلى مبادرة ستيفان دي ميستورا في آخره. من الجفافِ في موسم “جنيف 2” في أولّه، إلى مبادرة “موسكو” الباردة، وموافقة النظام على لقاء بعضٍ من المعارضة في آخره. من موسمِ المبايعة لسبع سنواتٍ في انتخاباتٍ رئاسيةٍ بثلاثة مرشحين في منتصفه، إلى موسم مبايعة الخليفة “إبراهيم” ونمو محاصيل “داعش” إثرَ توسّع حدودها في ثلثه الأخير. لكن لا جديد يذكر بين موتين ينعمُ رأسُ السوري بهما. بين مبادرتي الإبراهيمي وميستورا لا جديد يذكر إذاً سوى مرور الموت، والعوز، والسفر، واللجوء طيلة عام.
رأسٌ في السويد
لا تجرّبوا البحر مجدداً، فالطريق إلى إيطاليا “تهريباً” ومن ثمّ إلى السويد، لم تعد كما السابق. لم يعد يشفع لها الله ببركته اللازمة لبلوغ البرّ، سيُلقي بكم المهربون في البحر. لا تدفعوا خمسة آلاف دولار ثمنَ صفقةٍ مع الموت. موتوا في مقبرتنا الجميلة سوريا بلا أن تدفعوا فلساً واحداً، يقول الشباب المترددون قبل أن يهمّوا في بيع أملاكهم لملاقاة الحياة في الدولة الشقراء، إذ ليست الدولة الإسلامية في العراق والشام دولتهم، ولا دولةُ النظام دولتهم. يخافون، ثم يعدلون عن رأيهم. يقولون أيضاً: لا تجرّبوا الطريق الآخر، من تركيا إلى اليونان، ثم إلى السويد حيث دولتنا الشقراء التي تنتظرنا، ستغرقون في البحر أيضاً، بعدما تكونون قد دفعتم ثمن ميتتكم هناك أيضاً.
لا جديدَ في رأس السنة الحالية، سوى تربية الحلم وإطالة شعر رأسه ليصل إلى السويد، لا إلى غيرها. فالمنهمكونَ في فكِّ شيفرة الحياة، هم أنفسهم المنهمكونَ في فكِّ شيفرة الموت أيضاً، في بلاد الموت، بلادنا.
رؤوس اللاجئين
آخر يومٍ في العام 2014، وعدد اللاجئين السورين زادَ مليوناً عمّا كان عليه في العام 2013. الأمم المتحدة الخبيرة في إحصائهم على الدوام قالت في شهر آب الماضي ان اللاجئين السورين صاروا ثلاثة ملايين، وقالت بأنهم يتوزعون بين 1.17 مليون لاجئ في لبنان، و830 ألف لاجئ في تركيا، و613 ألف لاجئ في الأردن، و215 ألف لاجئ في العراق، وأضافت اليهم نصفَ مليون لاجئ داخلي، ثم أضافت اليهم 6.5 ملايين نازحٍ في الداخل السوري. والأممُ المتحدة نفسها هي من عادَ واكتشف أن 10.8 ملايين سوري يحتاجونَ إلى المساعدات داخل بلدِ موتنا، لكنَّ عسرَ حالها هذا العام هو ما جعلها تنعى مقدرتها الإغاثية بعدما نعانا العالم المتحضر، فخفّض تمويلهُ للمنظمة الدولية الوصيّة على تمويل جوعنا من 4.2 مليارات دولار إلى 3.74 مليارات دولار.
بين رأسينِ لسنتين عبرَ مليونُ لاجئ سوري أرخبيلَ الموت والخوف من الموت إلى وحلِ انتظاره.
رأسان بلا جسد
“أنتم أوصلتم البلاد إلى ما هي عليه من دمار؟!”. يتّهم الموالون المعارضين، ويتّهم المعارضون الموالين، فيما العام 2014 يجزرهما كليهما، فيمرُّ بهما من دونِ اكتراثٍ، ومن دونِ أن يسلك أيَّ دربٍ “إيديولوجي”، والمنقسمون فيهِ هم المنقسمون، لا قواسمَ مشتركة بينهم، لذا فلا أرض واحدة تتسعُ لهما.
أما الباقون منهم في بلدنا الجميل سوريا فقد صاروا حادّي الطباع أكثر، وصاروا كثيري الرفض لـ”الآخر”، وكثيري التشكيك بنياته المنسوبة إلى حساباتٍ خارجية، وكثيري السؤال عن جنسيته السورية إن كانت معارضة، أم موالية، لا بقصدِ خلق فضاءٍ مشترك معهُ، وإن بحجمِ قلبٍ متعب، بل بقصدِ رفضه إلى الأبد.
رؤوسنا ورأس السنة
آخر يومٍ من العام 2014، رأسُ السنة، وعلى رؤوسنا أن تترجّلَ عن جِيادِ الفهم، لتكن كما شتاؤنا البارد معافاةً منه، طاهرةً من خطيئته، تنتظرُ رُسُلَ المجتمع الدولي، تنتظرُ ـ ربما – مؤتمرَ موسكو للحوار الوطني، بدلاً من النسخة الثالثة عن مؤتمر جنيف، فلا تعود تُشكّك بأن “داعش” هي الابنةُ البكر لمشروعِ الشرق الأوسطِ الجديد، واليدُ التي سترسم الحدود الجديدة للمنطقة، كما سيقلُّ شكّها بكلّ هذا الموت، والتشرّد الذي رسم حدود السوريين بلا تردد.
(دمشق)
السفير