«ربيع» ..بلا ثقافته الربيعية
احمد جابر
تدفقت التطورات العربية، وغمر فيضها مساحات الترقب والاسترخاء، وحرّك غَمْرها مفازة اليباس التي أمسكت طويلاً «بنظرة الاخضرار» العربية. وقعت الغالبية، التي تنسب ذاتها إلى الحركة العملية، في الدهشة، وأصابت الحيرة كل المطــمئنين إلى نظراتهم الواقعية، وجميع المنســـحبين إلى دفاتـــرهم النظرية العتيقة، مثلما طالت القــلة التي توقعت حراكاً ما، لأن «دوام الحــال من المحــال»، لكن تفاؤلها لم يلامس ما آلت إليه الشوارع الشعبية الغاضبة.
تبدّى، وعلى نحو مباشر، أن الثقــافة وموضوعاتها، مقصرة عن اللحاق بالحركية الميــدانية المتعاظمة، وبانت، في مقارباتها، على هامــش اللغة والشعار والتنظيم، واقتراح الخــطوة الســياسية المناسبة، ناهيك عن القدرة على التفــاعل الإيجابي، مع «القوة الفائضة» التي اندلقت فجأة، ودفعة واحدة.
لم تكن حيرة الثقافة محيّرة، ولم يفعل مصطلح الربيع العربي وأحداثه، سوى رفع الغطاء عن حقيقة تأصيل الثقافة، ودور المثقف في المدى العربي عموماً. بان الضعف عاماً، والهشاشة صفة مشتركة، خاصة في البند النقدي الذي يكثر المثقفون الحديث عن ملازمته لكل فعل ثقافي، وينزلونه في كل بطاقة تعريف للثقافة ذاتها.
من أسباب الضعف الثقافي، ومن تجلياته أيضاًَ، الانزياح الذي لجأ إليه صف واسع من المثقفين، ومسيرة الترحال بين المواقع الاجتماعية والرسمية الآمنة التي أدمنها الكثيرون منهم، واسترخوا في ظلال عوائدها المجزية. بات الرحيل الثقافي إسماً مرادفاً للتنظير «الزبائني» للسلطة ومتفرعاتها، الدينية والدنيوية، وصفة متممة للانتهازية السياسية التي يغطيها أصحابها بالفذلكة الثقافية، وبالعباءة النظرية. هذا المسلك وجد تتمته في المساهمة في التغطية على «المسكوت عنه»، اجتماعياً وسياسياً، ومن ثم الإقامة ضمن مساحته، بلا ضجيج لغوي، وبلا حراك عملي. كان ذلك ممارسة إضعافية أخرى، انتقل معها موضوع المساجلة من ميدان المصالح الجمعية المشتركة، إلى خانة الفردانية الذاتية الخاصة التي سعت إلى «خلاصيتها» بالتخلص من ثقافة الفضاء العام الذي صار معرفاً كمصدر إقلاق لا جدوى من التصدي لأسبابه، بحسب الأولويات التي حددتها «الشخصانية» لذاتها. ربما أمكن القول، هنا، أن «الأنا» أخذتها أناها الأنانيـــة، وألقي الآخر «الثقافي» خارج حرمها السكوني، لأنــه بات لا يشبهها، هذا إذا لم يكن قد تحول إلى «خصم» حقيقي لها.
تغري الحقبة «الربيعية العربية» الراهنة بعودة إلى استعراض مواسم ازدهار الثقافة في حقبات ماضية، في محاولة للوقوف على بعض من أسباب هذا الازدهار. يطالع المسترجع في المقام الأول، اقتران نهوض المواضيع الثقافية بنهوض الحركات الاجتماعية، وبالقنوات المتصلة التي نشأت بين النهوضين، ومن التفاعل الحقيقي بينهما. هذا يعني بكلام آخر، أن نبض الواقع حرّك الثقافة من منبر تأملاتها إلى مطارح اختبارها الميدانية، وأن الثقافة قبلت تحدي الواقع، كمختبر ملموس لها، وأعادت إلقاء تحدي خلاصاتها على الواقع الملموس إياه. بين التحدي وقبوله وإعادته، انتفت قدسية النص، واستبعدت قدسية «الجماهير»، ووضعت القدسيتان على طاولة «النقاش التاريخي»، العاري من مضامينه الميتافيزيقية. التواصل، أو التفاعل الذي لا يمكن اجتنابه بين الصعيدين، شهد شططاً من وجهين: الأول، عندما تماهت الثقافة مع العملي واندمجت به، وألغت المسافة الواجبة بينها وبينه، والثاني: عندما انفصلت عنه وتعالت عليه، وأوصلت الانقطاع عن اليوميات المباشــرة إلى حد القطيعة معها. على الوجهين تقهقــرت الثقـــافة، وفقدت طابعها ووظيفــتها، مرّة بالالتــصاق، ومرّة بــالغربة.
في الوقت الراهن، تدفع الثقافة ثمن الانقطاع وأثمان «الاغتراب»، وهذا مما لا يعوّض بمقالة سريعة، ومما لا يستدرك بنص مغرق في نظرته النظرية. يقول واقع الحال الثقافي أن وضعه أقرب إلى «الجمود»، بمعنى قصور المبادرة، والعجز عن تقديم الجديد، واللهاث خلف حركة الأحداث المتسارعة. يظهر الأمر واضحاً لدى مراجعة ما صدر من بيانات وقراءات وتحليلات اقتطعت أوراقها لذاتها رقعة واسعة من مساحات الأدبيات الربيعية. لقد غلب على الكلام المواكب التوقف عند مستندات نظرية سابقة، بل متقادمة ومتهالكة، تلك حال وارثي «نظريات القومية العربية»، على الصعيدين الشعبي والرسمي، وذلك هو واقع بقايا أبناء الإيديولوجيات الأخرى، من ماركسية وإسلامية وسواها. الكلام الذي يحاول أن يكون جديداً، لمّا يفلح في ذلك بعد، لأسباب بنيوية معيقة، ولأسباب الجّدة السياسية والمفاجأة المجتمعية، أي أن فرصة التحصيل «الهادئ» لم تتح له، وهو يحاول التكــون على وقــع «القفزات» الحركية المتوالية. ما يمكن إيراده، كموجــز، هو أن تلمس مسالك الأفكار الجديدة ما زال متعــثراً، وأن محاولات واسعــة من هذا المــسعى ما زالت غــير موفقة عمومــاً في طرح السؤال الصائب، وفي صيــاغة الجواب الذي يستند في صوابه إلى نجاعة السؤال.
ثمة مسألة ما زالت راهنة، على الرغم من أن بعضاً أسقطها، تعسفاً، هي معادلة: لا ممارسة من دون نظرية، ولا نظرية من دون ممارسة. لقد جرى التخلي عن هذه «المقولة» تحت وطأة فشل التجربة الشيوعية في بلدانها، حيث ارتبطت هذه البوصلة بالفكر الماركسي ـ اللينيني عموماً. إعادة النظر في المسألة المثارة، تكون في صالح مضمونها الاستشرافي، وعلى حساب ما علق بها من إجراءات تنظيمية في الأحزاب اللينينية الحديدية. كذلك، بصرف النظر عن الصواب المطلق الذي نسبه أنبياء النظــرية إلى مقولاتهم، ويعاد الاعتبار إلى الواقع، الذي كُسر عنقه، ليلائم ربطة عنق النظرية المفصلة على قياس مخيلات أصحابها!!
ما تقدم يعيدنا إلى جادة الأسئلة الثقافية، على الصعد الفكرية والسياسية والبرنامجية التي لا يستطيع «الربيع العربي» الفرار من ضرورات صياغة الإجابات عنها… وإلى ذلك الحين، لن ينفع التذمر من حقيقة تقدم قوى بعينها، لملء فراغ «الأواني بالأزاهير» الجاهزة، ما دام الربيع العربي مفتقراً إلى ثقافته الربيعية!!
(كاتب سياسي)
السفير