صفحات الناس

رحلات الموت عبر المتوسط: ناجو المحرقة السورية وآخرون/ سمير الزبن

 

 

عندما تُغلق بوجهك كل الطرق، وتكون فارا من نظام يخوض حرب دموية شرسة ضد شعبه، تبدأ من السكين ولا تنتهي بالبراميل المتفجرة. عندما تحمل أطفالك وتهرب لتنجو بهم من الموت، وتجد الطرق خارج الوطن مغلقة أيضا. عندما تلفظك كل الأمكنة، وتقول لك لا حياة لك هنا. عندما تُحاصر من كل حدب وصوب، وترى أطفالك يكبرون أمامك بلا أمل. عندما ترى أن العودة الى الوطن باتت مستحيلة، والعودة في ظل النظام تساوي الموت. عندما تشعر أنك ميت في كل الحالات وفي محرقة تأكل الأخضر واليابس، لا ترى فيها سوى خسارتك المطلقة. ما الذي ستفعله؟

ملايين السوريين الذي مروا بأسوأ مما هو موصوف سابقاً وواجهوا السؤال، ماذا نفعل؟ من دون أن يكون لهم ترف التفكير الطويل أو قائمة من الخيارات. تستحق النجاة من الموت المحاولة وعناء ركوب الموت للنجاة من الموت. إنها مقامرة في غاية المشروعية. عندما قبض ضابط الأمن المصري في العام الماضي على مجموعة، حاولت مغادرة الأرضي المصرية، عبر رحلات الموت إلى الشاطئ الشمالي للمتوسط، سأله الشاب الفلسطيني / السوري الذي غادر دمشق إلى القاهرة مع أخيه وأمه، في يوم قصف الغوطة الشرقية بالكيماوي، لماذا ألقيت القبض علينا؟! قال الضابط المصري: لأحميكم من الموت. ضحك الشاب بسخرية مرّة وقال: نحن هربنا من الموت، وانت تعيدنا إلى الموت، وتقول أحميكم من الموت، أي تفاهة تتحدث عنها؟! عمليا، لم يفعل الضابط المصري، سوى اطالة رحلة الشاب وزيادة كلفتها، فقد عاد مع أخيه بعد 6 اشهر إلى محاولة أخرى، عبر ليبيا، لينجحا في الوصول. (كل من تم اعتقاله في مصر وهو يحاول السفر إلى أوروبا تم ترحيله، ويقدر عددهم بأكثر من خمسة آلاف العام الماضي).

بدأت رحلات الموت بأعداد قليلة من سوريا، في النصف الثاني من العام 2012. تبدأ الرحلة من دمشق إلى تركيا، ومنها إلى اليونان، ومنها براً إلى الدول المستهدفة السويد، ألمانيا، هولندا. وقع الكثير من الفارين ضحية عمليات خداع ونصب واحتيال، تُركوا في منتصف الطريق لمصيرهم.

الموجة الأكبر لرحلات الهجرة غير المشروعة، كانت عبر مصر، فقد تدفق مئات الآلاف من السوريين (قدر عددهم في ذروة وجودهم في مصر بـ 350 ألفاً، 104 آلاف مسجلين بالمفوضية السامية للاجئين) على مصر ابتداء من عام 2012. قدمت لهم سلطة محمد مرسي الكثير من التسهيلات، فقد قرر معاملة الطلاب السوريين معاملة الطلاب المصريين في المدارس والجامعات المصرية. وسهل لهم فتح حسابات بنكية من دون أي وثائق، وسهل عليهم الإقامات، حيث كان السوري يمنح إقامة بمجرد أن يملك عقد إيجار حتى لو لم يكن مسجلا… الخ. تدفق آلاف الفلسطينيين السوريين أيضا (تقدر سفارة فلسطين عددهم في الذروة بـ 16 الفا)، حيث سهلت سلطة مرسي دخولهم، لمن هو فوق الأربعين من العمر، ومع العائلة لمن هم أصغر سنا. لكن لم تمنحهم التسهيلات التي منحت للسوريين. ومع الضغط الهائل الذي تعرض له الفلسطينيون في سوريا بعد حصار مخيم اليرموك وقصفه بالطيران الحربي، أصبح خيار الخروج نهائياً من المنطقة يشغل الجميع. وبحكم العقبات التي وجدوها في مصر، غادرت طلائع اللاجئين غير الشرعيين من الفلسطينيين السوريين مصر، ومع نجاحهم بالوصول، أصاب جنون الهجرة الجميع. وعندما تمت الإطاحة بالرئيس مرسي، تم منع دخول السوريين من دون فيزا مسبقة، ولكن استمر السماح للفلسطينيين السوريين بدخول مصر للعائلات القادمة من مطارات سوريا حصراً. وشعر الفلسطينيون في سوريا أنها فرصة للخلاص من المعاناة المستمرة والمتنقلة، التي تصيبهم في دولة عربية بعد أخرى. كانت الرحلات الآتية من دمشق الى القاهرة خلال أشهر تموز وأب وأيلول جلها من العائلات الفلسطينية السورية، عائلات تريد الهجرة، أو تريد إيصال أولادها إلى هنا من أجل رحلة الموت للخلاص من الموت، رحلة من دمشق إلى مطار القاهرة إلى الاسكندرية الى قوارب الموت. بفضلهم، ازدهرت حركة الهجرة غير الشرعية في مصر (هي مهنة قديمة تعود الى أيام الفترة الناصرية، لكنها تصعد وتهبط) كانت الأغلبية الساحقة من المراكب التي غادرت الاسكندرية الى ايطاليا في تلك الأشهر من الفلسطينيين السوريين، ومعهم أعداد صغيرة من السوريين (أقدر شخصيا عدد الفلسطينيين الذين غادروا مصر عبر هذه الرحلات بـ 20 الف فلسطيني) ولم يبقَ اليوم في مصر سوى أعداد قليلة جدا من الفلسطينيين.

السوريون الذين كان يحذوهم الأمل بالعودة الى بلدهم، بسقوط النظام، أو ايجاد «مؤتمر جنيف« حلا ما يجعلهم يعودون، تبدد أملهم الآن مع التضييقات والاعتداءات التي تعرضوا لها في مصر، وتراجع السلطات الجديدة عن التسهيلات التي منحت لهم، وجدوا أنفسهم في الموقع ذاته الذي كان فيه الفلسطينيون السوريون قبل عام. يسيرون في رحلات الموت ذاتها، ويتعاملون مع تجار الموت ذاتهم، ويُسرقون من البلطجية أنفسهم الذين سرقوا الفلسطينيين قبلهم. ففي الأشهر الأخيرة غادر آلاف السوريين مصر بواسطة المراكب المتهالكة. إنهار أمل العودة إلى وطن تم تدميره، وتحطيم البنية العائلية والمجتمعية والمعمارية، وضاقت عليهم سبل العيش في مصر، كما ضاقت على المصرين انفسهم. ولولا مساعدات المفوضية العامة، التي يحسدهم الفقراء المصريين عليها، كما حسد الفقراء السوريون الفلسطينيين على حصص الأونروا الغذائية، عندما كانت توزع في سوريا، لكانت أوضاعهم مزرية أكثر. كل ذلك أدخلهم نفق الهجرة غير الشرعية.

كانت الهجرة غير الشرعية وسيلة موت للنجاة من الموت، لقد دفع الآلاف حياتهم ثمنا لهذا الطريق. طريق زرعه بالدم طريق أكثر دموية، هرب منه ما يمكن تسميتهم «الناجون من المحرقة السورية«. ولأن المحرقة ما زالت مستمرة، ما زال النزف مستمراً. فرغم اغلاق الطرق عبر مصر وعبر ليبيا على السوريين والفلسطينيين السوريين، فهم يفتحون طرقاً التفافياً، عادوا لإحياء طريق تركيا، وهم يصلون الى الشواطئ الليبية اليوم عبر الصحراء، عبر الدخول الى الجزائر والذهاب تهريباً، إلى زوارة في ليبيا المركز الرئيسي للتهريب. أما الفلسطينيون السوريون فيصلون إلى السودان للذهاب الى زوارة في ليبيا. كان الضحايا يسقطون في البحر، اليوم هناك ضحايا يسقطون في الصحراء، وقبل الوصول الى البحر، يموتون ولا أحد يسمع بهم.

بعد العدوان الاسرائيلي على غزة، انضم فلسطينيو غزة الى قافلة الهجرة غير الشرعية، وباتت الأنفاق تهرب البشر الى خارج غزة، ومن المحاولات الغزاوية الأولى غرق مركب فيه حوالى 300 غزاوي و200 سوري. لم ينجُ منه سوى ثلاثة أشخاص.

وصل السوريون والفلسطينيون متأخرين الى معابر الهجرة الأفريقية، التي دفع ثمنها في الصحاري والبحار عشرات آلاف الأفارقة. ويقدر عدد الذين غرقوا في مياه المتوسط هذا العام محاولين الوصول الى الشاطئ الآخر بـ 3000 آلاف ضحية. انها كارثة انسانية تعادل حرباً، لكن هؤلاء يقضون بصمت، وتختفي معهم حكايات تروي أقصى التجارب البشرية، وأكثرها مرارة.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى