صفحات الناس

موسم الهجرة السورية/ إبرهيم الزيدي

لا أحد في الداخل يعرف ما الذي طرأ على حياة السوريين في الخارج؛ ولا أحد في الخارج يهتمّ بما حدث ويحدث لنا يومياً في الداخل! زمن مرارتنا في الخارج، يقترب من نهاية السنة الثالثة من عمره، وزمن فجيعتنا في الداخل تجاوز الـ110 آلاف شهيد! بين الزمنين قصص، يجب أن تروى، فمن حق الناس أن تعرف أننا بلا مكان، وهذا ما يجعل زمننا عائماً، ولا يمكن استثماره.

إننا نعيش في مستنقعات الوقت. هذه الحالة ليست هي اللوحة الوحيدة في معرض المأساة السورية؛ ثمة لوحات أشدّ فظاعة، وأكثر قسوة، بعضها بلون الدم، وبعضها الآخر يغلب عليه صمت الفجيعة. فالغربة التي أصابتنا لم تعد تشكو من الحنين، لقد تعافت من آلامها العاطفية، والخشية الآن أن تخرج من آمالها الوطنية أيضاً. وإلا، ما معنى أن تصبح الهجرة هاجس الشباب السوري؟ وتصبح أوروبا قبلة أحلامهم؟ كأن سوريتهم لم تكن سوى أضغاث أحلام! فالمكان الذي لا يستدعي ذكريات حميمة، لا يمكن اعتباره وطناً؛ والهوية ليست البطاقة الشخصية. فسوريا الأرض والتاريخ والذكريات والبيت والعمل والأهل والأقارب والأصدقاء، تمّ اختصارها في مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بسلة غذائية. واقتصرت حاجاتنا من سوريا الأم على جواز السفر.

خريطة طريق

– شو ما طالعت جواز سفر؟

– لا والله، ما بيطلع إلا من الشام.

– يا أخي شوفلك سمسار، اعطيه كم قرش، بيطالعلك ياه وانت هون.

– المشكلة مو كم قرش، عم يطلبو كتير.

– ما في مشكلة، اعطي واخلص.

تدور الحكاية، ويصبح السمسار بطلها.

– شوف… حالياً كل واحد يحسن يدخل السويد، ولو بشكل غير شرعي، فوراً بيحصل ع الإقامة.

– وكيف يصل الواحد للسويد؟

– في ألف طريقة.

– دلني على وحدة، إيدي بزنّارك؟

يقترب مني أحدهم، يأخذني من ذراعي، ويقول لي بصوت هامس:

– انت ناوي تهاجر فعلاً، ولاّ عم تتسلى؟

– شو قصدك، ليش هون مكان تسلاية؟

– إذا بدّك تهاجر فعلاً، تعى معي. يقولها ويمشي.

– على مهلك، لوين بجي معك؟

– لهون. ما بدّي حدا بيسمعنا.

مشيت معه بضع خطوات، ثم توقفنا، وقفنا وجهاً لوجه، فنظر في عينيّ مباشرة، وقال: بتكلفك 10000 أورو.

في المدخل المؤدي إلى مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في بيروت؛ وبهذه الطريقة تتكوّن لدى السوريين الفكرة عن موضوع الهجرة. تتبعها خطوات أخرى، تتم في المقاهي، أو عبر وسطاء، أو في المنازل. أما ما يحدث في السفارات، سواء في الشارع، أو أثناء انتظار المقابلة، فيتجاوز ما سبق ذكره. التفاصيل التي يغرقك فيها السمسار، تضعك بصورة المغامرة تماماً: وصولك إلى أي بلد أوروبي باستثناء اليونان يعني وصولك إلى السويد، أو النروج، أو كندا. اللي عم يحكيلك عن ضرورة حصولك على جواز سفر، هذا سمسار جوازات سفر، ما بيعرف شي عن الهجرة، السوري ما بيلزمو جواز سفر مشان الهجرة، تطلع على تركيا، من راس العين، أو من تل أبيض، أو من باب الهوى، بالهوية الشخصية (البطاقة الشخصية ) ومن تركيا في عندك طريقتين للهجرة: أو بتطلع مباشرة على أوروبا، أو بتطلع ع اليونان. إذا بدك تطلع مباشرة على أوروبا، في قدّامك طريقين، البر والجو. الطلعة من تركيا ع اليونان بإمكانك تطلع عن طريق البر، وفي عن طريق البحر كمان، ومن هنيك تطلع على أوروبا، عن طريق البحر أو عن طريق الجو. سواء من تركيا، أو من اليونان الأفضل عن طريق الجو، والتكلفة بتكون حسب طريقة الطلعة، ونوعها، أنت بتقرر الطريقة ونوعها حسب مصراتك. في عدة أشكال للطلعة، أو بتطلع بجواز سفر شبيه (أي أن السمسار يزودك جواز سفر لمواطن أوروبي، صورة صاحب الجواز بتشبهك، وبذلك تحصل على فيزا رسمية، وتسافر عن طريق الجو، وهي بتكلفك 6500 دولار، أو جواز سفر مضروب (مزوّر)، وهاد بيكلفك 7500 دولار. أما عن طريق البر من تركيا إلى أوروبا، فالتكلفة تبدأ من 1500 أورو إلى 4500 أورو، حسب الطريقة اللي بدّك ياها، والأوراق الثبوتية اللي بتحتاجها، والدول اللي بتمر فيها. إذا بدّك لأوروبا شي، وإذا لبغاريا وبعدين انت بتدبّر حالك شي تاني. أما من تركيا ع اليونان فالتكلفة إذا بدّك تروح عن طريق البحر، ما بتتجاوز 2000 أورو، بس عن طريق البر بتكلفك 3000 أورو. المهم ما تبصم. حين سألته عن معنى البصمة، والمقصود بها، أجاب: في اتفاقية أوروبية اسما اتفاقية دبلن، هاي الاتفاقية بتقول إنو ما بيحقلّك تقديم طلب لجوء لأي بلد أوروبي، إذا كنت باصم ببلد أوروبي تاني، يعني إذا دخلت على دولة أوروبية، وأخذوا بصمتك الإلكترونية، ما بيحقلك تطلب اللجوء من دولة تانية، حتى لو كنت موجود بالدولة التانية، باستثناء السويد. بس المشكلة بالسويد، انها اصدرت قرارا بشأن السوريين المقيمين فيها، وبيشمل الوافدين، بس ياخدو شوي وقت. القرار غير القانون، لو كان قانون كان أحسن. القرار مع الزمن يمكن يتغير، وبيلغوا اقامات الباصمين بغير دول. إيطاليا هي الدولة الوحيدة اللي ما بتجبر اللاجئين ع البصمة الالكترونية. على كل حال بالنسبة للهجرة، الطريق الخطر هو البحر، وهو الأرخص كمان، لأنو بلا ضمانات، ولا ثبوتيات، ولأنو بحر، ورح تكون بقارب، وما بتعرف شو ممكن يصير معك. عن طريق الجو والبر أحسن، والنتائج ما بتخوف. يعني حتى لو مسكوك، وعرفو انو أوراقك مزورة، بياخدوها منّك، وبيرجّعوك. في معاملة خاصة للسوريين.

حين سألته عن مصر، أجابني بأن السفر إلى مصر بالنسبة للسوريين أصبح صعباً، في الوقت الحاضر. بالنسبة للسوريين الموجودين بمصر، صعوبات جمة ستواجههم إذا حاولوا العبور من هناك إلى إيطاليا، وذلك لعدم انخراط مافيات حكومية في لعبة التهريب.

بعدما رسم لي محدّثي خريطة الطريق للراغبين بالهجرة من السوريين، سألته إن كان هو من يقوم بذلك، فأجابني أنه ليس مهرّباً، لكنه يعرف المهرّب، وفي إمكانه أن يزوّدني رقم هاتفه في تركيا. أخذت منه رقم الهاتف، وشكرته. في صباح اليوم التالي اتصلت بالسيد أ. أ. في تركيا، وأخبرته أنني من قبل د.ع. وأريد السفر إلى السويد. قال: أهلاً وسهلاً. لم أستطع أن أسأله عن التفاصيل، فسألته مباشرة عن الكلفة المادية، فأخبرني أن السفر إلى السويد يكلف 10000 أورو للشخص الواحد، فأبديت استغرابي وقلت له إن الشخص الذي أعطاني رقم هاتفك، ذكر مبلغاً أقلّ، فأجابني أنه مشغول الآن، ويمكنني الاتصال به لاحقاً. اتصلت به مجدداً، وأخبرته أنني أريد السفر برفقة أسرتي، ولا قدرة لي على أن أدفع عن كل منهم 10000 أورو، فقال: شوف أنا بالعادة ما بحكي هيك حكي ع الهاتف، بس باعتبارك حكيت معي من خارج تركيا، ما حبّيت خجلك، وقت بتقرر السفر، وتجي على تركيا، اتصل فيني، نلتقي، ونحكي.

أمام السفارة

العيون السورية شاخصة إلى السويد، وأحلامهم هناك حطّت رحالها. تأبطتُ رغبتي في الاكتشاف، ويممتُ شطر السفارة السويدية، لأتعرف هناك إلى الرغبات المستحدثة في نفوس الشباب السوريين. ثمة مكتب خارج مبنى السفارة يحصل منه المراجعون على بطاقة تحمل رقماً، بموجب هذا الرقم تتم مراجعة السفارة. جلست على حافة الرصيف في محاذاة رتل طويل من الشباب والفتيات. إلى جانبي شاب لم يبلغ الثلاثين من العمر، يرتدي بنطال جينز وتي شيرت تحمل علامة إحدى الماركات الرياضية. فتحت علبة الدخان، ومددتها إليه، فاستل لفافة من دون أن ينظر إليَّ. بادرته بالسؤال المعهود: حضرتك سوري؟ أجاب: نعم. بعد فاصل صمت، تكلمت إلى نفسي بصوت مرتفع فقلت: هل علينا أن ننتظر طويلاً؟ أجاب: والله ما بعرف. أنا اليوم جيت. سألته: تعتقد ممكن يعطوك فيزا؟ قال: لأ. فضحكنا. ثم سألني: وانت بتعتقد رح يعطوك بيزا؟ قلت: أنا لا أريد فيزا إلى السويد، أريد فيزا للحوار معك. ابتسم ممتناً، وقال: حضرتك شو بتشتغل؟ قلت: صحافي. فالتفت إلي بعينين فيهما مزيج من الطفولة والدهشة، وعلى شفتيه بوادر ابتسامة، وقال:

– بشو تحبّ تحاورني؟

– أي شي تحب أنت تحكيلي ياه.

– يا سيدي، أنا من اللاذقية، متخرج في جامعة تشرين، هندسة اتصالات، لم أحلم يوماً بمغادرة اللاذقية، وبحرها الذي أعشقه، عملياً مدينة اللاذقية لا تزال آمنة، إلا أنه أمان بلا آفق. في كل يوم تغلق الخيارات أمامنا، وحضرتك تعرف المثل اللي بيقول: ابعد عن الشر وغنّيلو. أنا أريد أن أبتعد عن الموت واليأس، ولا أريد أن أغنّي لهما، وبس. غادرته لأنضمّ إلى مجموعة أخرى كانت تجلس على كراسٍ من البلاستيك داخل خيمة وضعتها السفارة للمراجعين. جلست إلى جانب رجل يرتدي بدلة رسمية وربطة عنق، في القيظ البيروتي، المشبع بالرطوبة البحرية. كان يتحدث إلى آخر:

– ما إلك حق لابس سبور، قلتلك البس طقم رسمي، هدول الأجانب كتير بيدققو.

– يا خي ما حدا بيهتم بالشكل، انت جيب بجيبك دفتر شيكات، وحساب بالبنك، الكل بيحترمك.

– كيف دبرت حساب بالبنك؟

– في سمسار أخذ مني 500 دولار، وعملّي حساب بالبنك ودفتر شيكات بعشرة آلاف دولار.

– والله فكره. كان لازم تخبّرني، بس نخلّص من هون دلني عليه، أنا كمان بدّي حساب بالبنك.

حاولت الدخول معهما في الحوار، على أمل أن أعرف شيئاً عن ذلك النوع من السمسرة، إلا أنهما قابلاني بجفاء، فانكفأت على نفسي ولم ألبث هناك إلا قليلاً، بعدما رأيت موقفهما منّي. رحت أمشي في حرم السفارة الخارجي، لألتقي بمحض المصادفة بمن كنت أبحث عنه. استوقفني بذريعة الولاّعة، وكانت فاتحة لحوار عرفت من خلاله أنه الوكيل الرئيس للمهرّب، وهو الذي يوزّع الأدوار على بقية السماسرة. إنه مهرّب بالوكالة عن المهرّب الأب. أخذتُ موقع السمسار على أمل أن ينفتح عليَّ أكثر، فثمة تفاصيل في تلك المهنة تثير فضولي.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى