رحلة أبو محمد من الباب إلى كلس/ خليفة الخضر
استند أبو محمد بظهره على حائط كراج في مدينة كلس التركية، وهو يحكي قصة رحلته التي استغرقت 6 أيام من مدينة الباب في ريف حلب الشرقي إلى مدينة أعزاز في الشمال السوري. والمسافة بين المدينتين لا تستغرق في الأحوال العادية، أكثر من 20 دقيقة بالسيارة.
أبو محمد الثلاثيني، هو من عائلة عريقة من مدينة الباب، بدت على وجهه علامات شيخوخة مبكرة، يقول: “تركت عائلتي في قرى مدينة الباب عند أحد أقاربي، وخرجنا إلى أعزاز أنا وابني فقط، لاستطلاع الطريق وعدم المخاطرة بأفراد العائلة كلهم. فأمي امرأة مسنة ووالدي متوفي وزوجتي ومعها ابني الاخر ينتظرون مني اتصال، كي أرسل لهم سائق سيارة لا يطلب سعراً باهضاً ويعرف طريقاً خالياً من الألغام”. أبو محمد وابنه كانا يركضان على الطريق خلف تجمع العائلات، بعدما رفضت سيارات الشحن مساعدتهم خوفاً من التنظيم وغراماته. فالتنظيم يصادر أي سيارة يضبطها وهي تهرب البشر من مناطق سيطرته. وسائقو السيارات يطالبون مبالغ مالية قد تصل إلى 500 دولار لقاء تهريب الناس، بعد تحديد عدد الأفراد الذين سيقلونهم.
ومن المُهرّبين من يعرض على الهاربين طرقاً خاصة، تتضمن صلات مع حاجز التنظيم في قرية أم حوش، ما يترتب عليه ركوب دراجات نارية، والتخلي عن الأمتعة، وانتظار الليل لتبدأ الرحلة. أما من معه “أذن سفر” صادر من دواوين التنظيم، فهو شخص سعيد الحظ، بامكانه ركوب سيارات النقل “السرافيس” والخروج من مناطق سيطرة التنظيم بكل سهولة. إلا أن من استطاعوا الحصول على “أذونات السفر” هم أقرباء عناصر التنظيم، من أهالي مدينة الباب، وبعض المرضى، ومن ليست قيودهم مسجلة في مدينة الباب.
أبو محمد، يعلق ساخراً، بإن من يريد الانتظار ليحصل على “أذن سفر” قد يطول انتظاره، وقد يتسلمه من قوات النظام عندما تسيطر على المدينة. فاقتراب قوات النظام من مدينة الباب، وتراجع تنظيم “الدولة الإسلامية” شرقي مطار كويرس العسكري، هو السبب الرئيس للنزوح، بعد اقتراب المواجهات، وتصاعد حدة قصف المدينة.
أبو محمد لم يخرج سابقاً، ولو ليوم واحد من مدينة الباب، فقد تحمّل القصف المدفعي، وعايش الحرب بين الثوار ومقاتلي التنظيم، ولم يفكر يوماً بالنزوح. ولكن اقتراب قوات النظام من المدينة -باتت تبعد عن مدينة الباب 12 كيلومتراً- وتهديدها بتحويل الباب إلى أرض زراعية، دفع أبو محمد إلى تغيير رأيه. يضيف: “سمعت حواراً دار بين عناصر للتنظيم في محل سمانة، حول خلاف بين الأمراء عن نية الانسحاب أو الصمود. والكل متفق على نية الانسحاب كي لا يتم حصارهم”. حينها اتخذ أبو محمد القرار بـ”الهجرة إلى جهنم الحمراء، كي لا يتم بيعنا”. يحمل ابنه ويركب سيارة، محتالاً على صاحبها بنيته الذهاب إلى مدينة الراعي المجاورة، ثم يترجلان ويمشيان قليلاً، ليركبا سيارة أخرى توصلهم إلى قرية أخرى، وهكذا حتى وصلا إلى أخر حاجز للتنظيم. قبل الحاجز كانت مجموعة من الدراجات النارية تنتظر الهاربين، فعرض أحدهم على أبو محمد، أن يدفع 10000 ليرة سورية ليصل أعزاز “معززاً مكرماً”.
في الليل بدأت الرحلة، على الدراجة النارية، ومرّوا بالقرب من مقر للتنظيم، وقطعوا الطريق إلى “كوكب أخر، ومعاناة أخرى”.
وفي مدينة أعزاز واجه أبو محمد وابنه “الاستغلال”، فسعر المبيت في بيت تحول إلى نزل بمجرد كتابة كلمة “فندق” على جداره، يتناسب مع قدر حاجة الهارب إلى السفر. وبعد إجراءات امنية اتخذتها الفصائل الثورية، خوفاً من تسلل عناصر التنظيم مع الهاربين، نام أبو محمد ليلته مع ابنه في غرفة مربعة مساحتها 16 متراً مربعاً، مع خمسة أشخاص آخرين.
وفي اليوم التالي، استطاع أبو محمد التواصل مع عائلته المنتظرة في الباب، وأرسل هويات مزورة، لزوجته وأمه، بحيث تطابق كنية سائق السرفيس، ومكان تولده، وذلك لكي يعتقد عناصر التنظيم، أن زوجة وأم أبو محمد من أقرباء السائق، ويسمحون لهم بالعبور.
وبعد يومين آخرين من الانتظار، اجتمعت العائلة في أعزاز، وتوجّه أبو محمد بهم إلى نقطة العبور غير الشرعية “التيل”. وهناك افترشوا الأرض، “تحت خير الله المطر، وتحت الشجر اجتمعنا”. وبعد منتصف الليل، استطاعت عائلة أبو محمد العبور إلى الأراضي التركي، بسهولة غير متوقعة، بعدما تم تفتيشهم من قبل الجندرما التركية، والتأكد من عدم حملهم للأسلحة والمتفجرات.
عائلة أبو محمد وصلت أخيراً إلى مدينة كلس في تركيا، بعد عشرة أيام من رحيلهم عن مدينة الباب. رحلة “تخلصنا فيها من تنظيم الدولة ومن تقدم قوات النظام باتجاه الباب، ومن خطورة الحدود والتهريب”، كما يقول أبو محمد.
عائلة أبو محمد، قد تكون محظوظة، لخروجها من جحيم القتال المقترب، والإنتظار على الحدود السورية-التركية، إلا أن مئات آلاف السوريين، مازلوا ينتظرون الفرصة السانحة للهرب من مناطق سيطرة التنظيم، وجحيم القصف العشوائي الروسي على المدنيين. وفي حين تمكنت عائلة أبو محمد من دخول الأراضي التركية، فلا يزال الآلاف من السوريين عالقين على الحدود، بعدما فاضت بهم مخيمات النزوح في تركيا، معرضين للقصف الجوي البربري الروسي، الذي لم يعد يستهدف سوى المدنيين.
المدن