رحلة الأوديسا الدمشقية/ حامد الكيلاني
يناير أو يانوس لدى الأغريق ومنه جينيس، العبقري الذي يفتح قبضة الممنوع ليفكر في وقت يتنازل فيه الجميع عن عقولهم لمنازع أقواسهم المتوترة بانتظار لحظة العدوان، وهي لحظة ضعف في نزال غير شريف، حيث يقف يناير وحيدا على رمال شاطئ ليرسل قبلة أمل مع أول موجة لصديق مجهول على الضفة الأخرى من حياة تتسع لنا ونتقاسمها في انتقالاتها بين فرح طاغ وحزن عظيم.
نبدأ بالنهاية الدراماتيكية للدبلوماسي الروسي، السفير القتيل أندريه كارلوف أثناء حضوره افتتاح معرض فني في العاصمة التركية، وبعيدا قليلا عن نيات التصريحات الرسمية للمسؤولين في روسيا وتركيا والتي انحسرت في التأويلات الجاهزة والاستغلال الصريح للجريمة لأغراض سياسية، فإن كلا الطرفين سعيا إلى سحب جثة القتيل تحت طاولة إعلان موسكو وإصدار شهادة وفاة للقرارات الأممية والمفاوضات الشكلية، بما فيها حلقات جنيف وإطلاق النار غير المسموع على المعارضة السورية المسلحة والسياسية في ضجيج التهجير القسري لحلب على أيدي ميليشيات الجيش الطائفي للنظام الإيراني.
السفير هو رمز الدولة التي يمثلها، والسفارة كيان مصغر لها بكامل طاقمها وأرضها، حتى أن بعض سفارات العالم تستقدم كميات من تربة بلادها لتكوّن أديما لزراعة الحدائق وتفاصيل أخرى في التصميم والأثاث والضيافة، لتؤكد طابعها الخاص. وكان لي صديق مقرب يعمل سفيرا غير مقيم لبلاده في العديد من الدول ومنها العراق، لم يكن له مقر أو بناية وإنما كان حضوره الشخصي بين مدة وأخرى واتصالاته الدبلوماسية بمثابة حضور للدولة، لهذا فإن اغتيال أي سفير لا يعني أبدا شخص السفير وإنما هو اغتيال لموقف الدولة.
القاتل مولود ألتنتاش، 22 عاما، شرطي ببدلة مدنية وهيئة أنيقة، يبدو من طريقة وقوفه ومباشرته بإخراج المسدس، أنه كان يرتدي حمالة مسدس أحادية من جهة اليسار. وقف بثبات على ساقين مفتوحتين وبكلتا يديه أطلق النار باحترافية على السفير، السفير الروسي تحديدا.
الرسالة محددة. إطلاق نار باتجاه شخصية واحدة من مسدس شخصي. لم يكن يرتدي حزاما ناسفا أو أي وسيلة تدمير جماعي. اختار لحظة القتل مع إلقاء السفير لكلمته، أي أنه بمعزل عن وجود الكاميرات ووسائل الإعلام، قال كلمته بعد ارتكاب الجريمة، وهي معدة سلفا، وأعلن فيها أنه مسلم بما يشبه الشهادة وهتف لحلب وسوريا وترجمها باللغة التركية.
هل القاتل يكره القتيل؟ الجواب لا. هل يوجد من لا يدين هذه الواقعة في الإعلام؟ لا أظن أن هناك أحدا، لأن ذلك يشكل جلطة دماغية في ميثاق شرف المهنة. إذن القاتل ارتكب جريمة قتل معلن وبإشهار وإصرار وبأعلى معايير درجات الصوت، وهي درجات تفوق كثيرا رسائل الرجاء أو الرفض أو الزيارات والمقابلات من المعارضة السورية للجانب الروسي لشرح وجهة نظرهم بحجم الضرر في دمار المدن وموت الآلاف في هولوكوست النظام وعذابات السجون والإبادات المروعة، وبكل جزم أصوات الرصاص كانت أعلى من إدانات بريطانيا وفرنسا وأميركا للفيتوات الروسية المتصلبة على إبقاء النظام الحاكم في سوريا.
قلنا سابقا إن لا شيء مخجلا في العاطفة تجاه من لا نعتقد أنهم يقفون معنا في الرأي أو الإرادة الخاصة، وبالذات ما تعنيه الطفولة واحترام حقوق الإنسان بشكل عام، وما تعنيه المرأة في حياة الرجال الكرام، أو كبار السن الذين يلخّصون بمصيرهم ويأسهم حجم الضرر الذي لحق بهم جراء العنف المتبادل بين خنادق المتحاربين؛ ووصل الأمر بالمندوب الروسي في مجلس الأمن فيتالي تشوركين إلى السخرية من كلمة سامنثا باور مندوبة الولايات المتحدة التي طالبت روسيا ومندوبها بالقليل من التواضع لتمرير قرار يتعلق بإدخال المساعدات الإنسانية والطبية الملحة إلى حلب ضمن هدنة محددة، فكان جوابه “اعتقدت أن الأم تريزا تلقي كلمة لها في مجلس الأمن وليست مندوبة أميركا”.
ما نصل إليه أن الواقع الروسي بعد أحداث أوكرانيا وتحديدا بعد السيطرة على شبه جزيرة القرم والاختبارات الروسية المتكررة لردة فعل البيت الأبيض في ما يتعلق بالملف السوري، صَنَعَ من روسيا دولة إمبريالية بكل محتوى صندوقها الأسود من المراوغة إلى القوة المفرطة واللامبالاة تجاه المدنيين وصراخهم المدوي الذي لا يجد صداه في المحافل الأممية الفاعلة أو في ضمير ساسة المشاريع الدولية، التي لا ترى سوى التفوق والتفرد وفرض الأهداف المرسومة.
أمام هكذا واقع انتهت حلب على ركام جريمة أطلقت فيها روسيا كل فئران تجاربها التسليحية، وساندت جزار سوريا على البقاء في كرسي الدم ووفرت الغطاء لمجموعة الغوغاء والسلب والنهب والانتقام الطائفي للنظام الإيراني بأن تسرح في ربوع حلب والشام، كما وفرت لها أميركا أرض الرافدين لتكون قاعدة انطلاق لاستهداف العرب في صميم وجودهم.
سبق وأن دفعت أميركا ثمنا باهظا باغتيال سفيرها جي كريستوفر ستيفنز وثلاثة آخرين في قنصليتها ببنغازي، وكانت سببا في العديد من إخفاقات سياساتها الداخلية والخارجية، وأهمها التردد في الملف السوري والانسحاب وترك الساحة لروسيا لتخوض في ذات المستنقع، وتشرب ما تبقى من ذات الكأس بمقتل السفير الروسي أندريه كارلوف.
يقول العرب ذهب الجمل بما حمل، وترك الحبل على الغارب، أي على سنامه، ولا يوجد راعٍ واحد من أهل الحبل أو الجمل. في إعلان موسكو وزعت روسيا غزل البنات على السوريين بحضور وزراء الدفاع والخارجية لإيران وتركيا، حتى أنني لم أصدق عيني عندما تابعت وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف على جهة من طاولة مباحثات ويقابله وزير الخارجية الإيراني من الجهة المقابلة. لا أدري حقا هل هذه مزحة أم صرعة سياسية أو ربما بداية وضع إيران على الخط الروسي المستقيم في سوريا، وتحميلها مسؤولية نتائج وجودها وتدخلاتها كواقع سياسي وعسكري له التزامات خارج فوضى العبث والمزاج الطائفي لقادة من نوع قاسم سليماني والعشرات من الميليشيات المنفلتة.
في الأزمنة الرصينة ومع وجود قادة بحجم دلالة وحكمة الأحداث، كان ممكنا جدا أن يكون لصوت إطلاق النار على السفير الروسي، صوت فخم في عقل وضمير وقلب ومسامع ليس فقط القيادة الروسية وإنما في أصداء الجروح الغائرة في نفوس البشرية من أثر الانحدار في قبول حالة التردي والانزواء والصمت وعدم البحث عن الأهداف المشتركة التي تعيد الاستقرار لهذا العالم. النار تتطاير من مواقد الأزمات ومن غير المعقول أن تجتمع روسيا وإيران لحل الصراع في سوريا.
ربما ستقدم الفرقة السيمفونية الروسية موسيقاها في حلب، وربما تقدم فرقة البولشوي الرائعة عروضها في حلب، أو في إعادة لتحرير تدمر من تدمر، وأعتقد، وأنا لست بساخر أبدا، أن الحمام الأبيض سيكون حاضرا وبريئا في سماء حلب بديلا للسوخوي. سيكون جميلا بين الخراب ومعبرا عن رؤية روسيا للسلام في سوريا. روسيا وحدها في الخراب برفقة الهوس الطائفي الإيراني وهوس بقاء حاكم على كرسيّه، وهو يدري أن الآلاف من الحراب بيد حراسه لن تمنع صوت ثورة مليون قتيل سوري ستفصح عن أعدادهم الحقيقية الأيام، ولن تُسكِت براءة أطفال الثورة وهي في مهدها وهم يهتفون “سلمية سلمية” في شوارع المدن والأرياف في العام 2011.
مأزق الثورة السورية أنها قاتلت من داخل حواضنها الشعبية ومنحت مبررا وحجة للإجهاز على المدن والأبرياء فيها وتهجير سكانها بعد حصارات طائفية لئيمة؛ وتعاملت بالمثل في ردود أفعالها تجاه جرائم النظام، ما أقحمها في مستنقع الإرهاب. وكان ذلك مدخلا لعمل أجهزة الأمن والمخابرات في النيل من سمعة الثورة في مرحلة تضامَنَ فيها العالم لمحاربة التنظيمات الإرهابية المسلحة، ومنها داعش وتأثيره الذي جاء في صالح النظام، بما حَشَدّ من ردود فعل طائفية، يضاف إليها إصرار فصائل الثورة على الإقتداء بالنموذج الليبي في السيطرة على بعض المدن والدفاع عنها كمعاقل أخيرة رغم المتغيرات السياسية والدولية بما يعطي انطباعا عن أن شجاعة فصائل الثورة المسلحة هي شجاعة المغامرين الأبطال، لكن من دون غرفة عمليات للتخطيط والتكتيك الاستراتيجي، ومن دون قيادة سيطرة سياسية دقيقة في صناعة نسغ كل الأوامر الصاعدة والنازلة.
إعلان موسكو في جوهره هو إعلان نعي للنظام السوري كجثة على كرسي الأبد، والإعلان يواري جثة السفير القتيل بكبرياء فيتو دولة عظمى، لكنها مع الأسف أقحمت نفسها في نزال غير شريف مع شعب يشبه يناير يقف وحيدا يفتح قبضة الممنوع ليفكر في خاتمة تليق بالأوديسا الدمشقية.
كاتب عراقي
العرب