رحلة «الشفروليه» نحو دروب الأحزان/ لينا هويان الحسن
في لحظة واحدة، أخفقت كل الدروب في أن توصلني إلى هناك.
هناك. حيث تلك الدروب التي اعتاد أبناء العشائر ارتيادها وهم ملثمون، يقودون سيارات الشفروليه الضخمة. البدوي لا يمكن أن يقتني سيارة لونها ليس أحمر. ثمة يقين شائع لديهم أن السيارات الحمر لا تغرّز في الطين، فكل الطرق التي يسلكونها ترابية غير معبدة بالإسفلت.
هناك: ديرة الشمبل، ديرتي، هذه المفردة «الديرة» التي يعتبرها غالب المثقفين مفردة عامية تليق فقط بالبسطاء. ربما الأمر كذلك، لكنها، المفردة التي تلائمني أنا وحدي. يمكن لأي منكم أن تكون له مدينته، حارته، ومقهاه، بينما أنا أمتلك أماكن أخرى: ديرة، دروب ترابية أسلكها لتثير عجاجاً يموّه كل الدروب.
أنتم تسلكون طرقاً معبدة بالإسفلت نظمتها لكم البلديات أو الحكومات، بينما أنا أسلك دروباً شقّها ذات يوم، عمّي.
هنا في المدن يمكن أياً منكم أن يمرّ يوم عيد ميلاده وتغمره الهدايا: شوكولا، لاب توب، آي باد…
ولكن، ذات يوم حصلتُ على هدية مختلفة جداً، أشكّ في أن أحداً حظي بمثلها.
حصلت على دربٍ، اخترته أنا. أن تحصل على درب لك، في أرض أجدادك هذا أمرٌ ليس بالسهل. يومها كنتُ في السابعة عشرة من عمري، وكان مساء شتوياً تتخلله زخات مطر متقطعة. عندما عدّل عمي كوفيته وأنزل زجاج النوافذ وقال لي : سأهديك درباً.
الأكيد أن آثار عجلات الشفروليه بدت واضحة على الأرض المبللة بالمطر، وبعدها اعتاد أبناء عمومتي أن يسلكوا ذلك الدرب لاختصار مسافة معقولة وهم في طريقهم إلى المسالك الرئيسة المؤدية إلى مدينتيّ حماة وسلمية، والأكيد أن عمي يومها، لم يحزر أني سأسلكه مع أشقائي في صيف عام 2012 لندفن أخونا، ياسر، حيث ينتظرنا ابن عمّي في مدينة السلمية على تخوم الصحراء ليقلّنا في «سرفيس» أبيض للتمويه. فلم يعد مسموحاً لنا أن نعبر تلك الطرقات بسيارتنا الخاصة، فكل عصابات الخطف جاهزة للقنص والقتل للحصول على سيارة.
سلكته وأنا مسربلة بالقماش الأسود. عباءة؟! عباءة لم أرغم على ارتدائها في سورية، لكنني رضخت للمخاوف وتحجبت بالأسود، بينما وضعتُ نظاراتي بيني وبين تلك الآفاق التي طالما عشقتُها.
سلكت ذلك الدرب الترابي الذي نعرفه نحن فقط أبناء العشيرة الواحدة، لنتجنب الطرقات المعبدة بالإسفلت التي يستبيحها الجميع، وتتوزع عليها حواجز تعود لجهات وإيديولوجيات وانتماءات مختلفة، والقاسم المشترك بينها: القتل. أبسط شيء القتل. والذي يبدو رحمة في أوقات كثيرة أمام جرائم أخرى.
سلكت ذلك الدرب حتى لا تصادفني جماعة مسلحة وتسألني من أنا؟ لأني لم أكن أحتمل أبداً أن يسألني أحد من أنا؟! بينما أنا في «ديرتي»، وأرض عشيرتي. كنتُ سأنفجر قهراً لو حدث ذلك! كنتُ سأطالبه بذكر قائمة أجداده وطبعاً لن يكون بدوياً، ولن يستطيع أن يتذكر أكثر من جدين له في أفضل الأحوال. في الغالب سيكون شيشانياً أو افريقياً. لن يعرف أني أعبرُ أرضاً ذادَ عنها أبناء عشيرتي مئات السنين.
يومها، من دمشق انطلق بنا «البولمان» لنقطع رحلة صعبة كادت أن تكون مستحيلة باتجاه ديرتي. مرّ البولمان في إحدى الاستراحات قبيل حمص، نزلنا إلى الاستراحة حيث يتجمّع ركّاب حزانى مثلي دفعتهم أصعب الظروف لقطع مثل تلك الرحلات الخطيرة. شربت القهوة فقط، وعدت إلى الباص مع توصيات شديدة من السائق ومساعده بعدم ازاحة الستائر خوفاً من رصاص القنّاصة.
وبلحظة مباغتة اختلست النظر إلى الخارج ورأيت لافتة زرقاء كُتب عليها «حمص 10 كم». بلى، عشرة كيلومترات تفصلني عن حمص، التي أحبّها أخي وعاش فيها وقُتل فيها. ولمدة خمسة أيام مضت كنتُ أفاوض قَتَلَته على جثته. بصمت حزين مدّ لي معاون السائق يداً مرتجفة مواسية يحمل فيها كأساً من البلاستيك مليئة بالشاي، صبها من «ترمسه» الخاص. لم يعثر على طريقة أخرى لمواساتي.
حصلنا عليكَ ميّتاً يا شقيقي الغالي. عاندتُ توسلات أمي بالبقاء في دمشق، لأنّ ذلك أكثر أمناً لنا، لكنني رفضت. أصرّ كلٌّ من أخي وأختي على مرافقتي إلى قريتنا النائية البعيدة حيث المزرعة التي عمل أبي على توضيبها مدة تقارب الثلاثين سنة.
حالما عرفتُ أن ياسر قُتل، وخلال اعصار بكائي، قررت بلحظة خاطفة أني سأغادر سورية يوماً دون رجعة. لهذا قررتُ أن أغامر وأراه ولو ميّتاً. أن ألمس تراب قبره – لثمتُ التراب وتذوقته – حتى لا أنسى طعم الموت، الغدر، الحزن.
كان مقرراً أن أعود إلى دمشق بعد عشرة أيام، لكننا حُبسنا هناك مدة تزيد على الخمسين يوماً. خلالها وصلنا مدينة حماة وعدنا حيث المواصلات إلى دمشق كانت متوقفة حتى إشعار آخر.
نجحت محاولتنا الثانية، واستطعنا مغادرة تلك البادية القصية. ولحكاية وصولنا إلى دمشق سالمين قصة أخرى.
مرة أخرى عبرته ذلك الدرب المتلاشي، الذي شقّه لي عمّي يوماً، في طريق العودة وعدت تلك المراهقة التي تجلس جوار عمها في سيارة الشفروليه وهو يشرح لها أننا نمتلك خريطة شاسعة إذا تدخلنا في شق دروبها. هكذا تحولت بادية الشام منذ اليوم الذي استبدل فيه البدو خيولهم بالسيارات، إلى خريطة دروب متشابكة معقدة لا يفكّ شفراتها غير البدو.
الموت جعلني أسلك ذلك الدرب المتلاشي، الذي يلوح كخيط ذكرى تتهيأ للاندثار، الدروب التي تُشق في تضاريس الذاكرة لن يمحوها أحد.
أذكر أنّ آخر شيء فعلته قبل مغادرتي دمشق أني أغلقتُ صفحتي على «الفايسبوك»، ولم أفتحها إلا بعد شهرين لأنثر «بوستات» التفجع والحزن على موت أخي. بينما منذ مدة قُتِلَ الشقيق الأصغر لأحد زملائي، في واحدة من معارك دمشق. ذلك الزميل، أعلن حداده مدة ثلاثة أيام ومباشرة استأنف تغيير صور بروفايله وأغلفة صفحته، مستجدياً اهتمام معجباته، متسولاً «لايكات» المريدين، ياللقبح؟! هل اعتاد السوريون موت أحبابهم بهذه البساطة ؟! ربما، هنالك بشر مفطورون على النسيان وتسطيح الأشياء والأحداث والأماكن! بينما أنا فُطِرت على التذكر، على اجترار الحزن، على ترقيع ملامح وجهي بابتسامة مواربة، تشي ما في داخلي، مثل كل الروائيين وهم يشتتون الفرح لتمهيد دروب الحزن.
غير مسموح لسيارة الشفروليه أن تسلك درباً غير ذاك الدرب، فالدروب تورّث. كما الأحزان والثارات والدماء.
حتى لو تحولت بادية الشمبل التي تتاخم تدمر وحمص وسلمية وحماة وحلب، إلى أرض لتصفية الأحقاد تحت ذرائع مختلفة، فإن ثمة سيارة شفروليه حمراء تعبر ذلك الدرب الذاهب من مدينة «السلمية» صوب «قصر ابن وردان»، تُخطئها كل مدافع الجهات المتقاتلة، ودقة تصويب القناصة، وقصف الطائرات، وكما الشبح، تقطع دربها لتبلغ «ديرتي».
الحياة