رحلة ماياكوفسكي إلى أميركا حصيلتها كتاب وابنة غير شرعية/ عبده وازن
من كان يتخيل أن شاعر الثورة البولشيفية فلاديمير ماياكوفسكي زار أميركا عام 1925 في رحلة شبه «تبشيرية» لثلاثة أشهر، كانت حصيلتها المعلنة كتاب عنوانه «أميركا التي اكتشفتها»، وهو ظل شبه مجهول عالمياً؟ المفاجأة غير المتوقعة هي أن الشاعر الروسي الكبير أنجب في أميركا ابنة من أم روسية مهاجرة تدعى إيللي جونس كانت متزوجة ببريطاني، أقام معها علاقة سرية خوفاً من أن تفقد هي بطاقة إقامتها، ومن أن تفضح استخبارات ستالين أمر علاقته بامرأة مشبوه بأمرها. ولم يُكشف سر هذه الابنة غير الشرعية التي تحمل الجنسية الأميركية وتدعى باتريسيا طومسون، إلا عام 1993 عندما كتبت مذكراتها بعد ثلاثة وستين عاماً على انتحار والدها ماياكوفسكي.
زار شاعر الثورة المنتمي إلى التيار «المستقبلي» الطليعي، أميركا أو «العالم الجديد» كما كانت تسمى، بعدما نال رضا السلطة البولشيفية التي لم تكن الولايات المتحدة اعترفت بها رسمياً، ولا جعلتها على قائمة أعدائها، على رغم تخوفها من الشيوعيين الأميركيين الذين ما كانوا يتجاوزون ثلاثة آلاف. وهذا الرقم صدم الشاعر الذي جاب ولايات وهدفه الأول ليس كتابة القصائد، بل جسُّ النبض الثوري لدى الشعب الأميركي وإشاعة «البشرى» السوفياتية السارة وكتابة مقالات سياسية وريبورتاجات. اكتشف ماياكوفسكي أن معظم «الرفاق» الأميركيين هم من المهاجرين وصحفهم لا تتجاوز طبعاتها ستين ألف نسخة، وأن لا أثر لهم في هذه البلاد الرهيبة.
لا يتجاوز كتاب ماياكوفسكي الذي صدرت ترجمته الفرنسية الأولى حديثاً في باريس (دار لو سونور) مئة وأربعين صفحة، لكنه كتاب فريد في ما يحمل من شهادات دوّنها الشاعر الثوري في قلب البلاد الرأسمالية، وامتدح فيها أميركا وهجاها في آن، ساعياً إلى كشف وجوهها المتعددة حتى التناقض. فهذه البلاد التي وجد فيها صورة المستقبل والتقدم العمراني والتكنولوجي هي أيضاً أرض اللاعدالة والظلم والفقر والبؤس والطبقية الناجمة عن الجشع الرأسمالي الذي يتبنى جهاراً مقولة «البزنس هو البزنس»، والذي جعل الدولار شعاراً له ومعياراً للحكم على القيمة البشرية. وتبنى هجاؤه بعض الظواهر الفاضحة التي تتفرد بها أميركا، لهجة ساخرة كثيراً ماعُرف بها. وبينما بهرته الأضواء الساحرة التي تنير الشوارع وأعالي ناطحات السحاب، لم يستطع أن يألف مشهد العشاء على ضوء الشموع، كأن يكتب: «الأثرياء الكبار يأكلون في مطاعم فخمة، جالسين في ظل إضاءة خفيفة، لأنهم يفضلون الشموع على الكهرباء». ويضيف: «كل الكهرباء يملكها الأثرياء، لكنهم يأكلون على نور الشموع. كأنّ لديهم خوفاً لا واعياً من كهربائهم». وخرج الشاعر الثوري خلال جولاته بانطباعات وملاحظات هي غاية في الطرافة والهزء: «ما من بلاد تنطق بمثل ما تنطق به أميركا من حماقات أخلاقية، متعجرفة، مثالية ومنافقة». واستوقفه إقبال الأميركيين على تناول المثلجات أو «البوظة»، إذ ينفقون عليها مليون دولار سنوياً. وبدت نيويورك صدمة كبيرة في رحلة ماياكوفسكي. وجد نفسه شخصاً مجهولاً في خضم النهر البشري الذي يتدفق في شوارع نيويورك وأحيائها الداخلية. وكان يدرك أن الأميركيين الحقيقيين هم قلة بين هذا الشعب النيويوركي المتشكل من إرلنديين وألمان وبولونيين وصينيين وهنود وزنوج… ولم يستغرب أن تتعدد اللغات واللهجات في نيويورك العشرة ملايين مواطن (حينذاك)، حتى ليصفها بـ «بابل» المعاصرة قائلاً: «اللغة الشائعة هنا، هي لغة برج بابل المتخيلة، مع فارق وحيد، هو أنّ اللغات في بابل كانت تختلط لئلا يفهم أحد أحداً، فيما تختلط اللغات هنا لكي يفهم الجميع بعضهم بعضاً». أعجب الشاعر بجسر بروكلين العظيم وكتب عنه قصائد، وسحرته ناطحات السحاب التي كان يتعب من التحديق إلى «قممها» كما يعبر، وفتنته حداثة نيويورك الشاملة التي وجد فيها مثالاً على البلاد السوفياتية أن تحذوه.
دخل ماياكوفسكي أميركا من المكسيك، بعدما حصل على فيزا سياحية في مقابل كفالة خمسمئة دولار، وعندما غادرها في السفينة ألقى نظرة أخيرة على تمثال الحرية. وكتب عن هذه اللحظة: «امرأة الحرية الأميركية الصالحة تلوّح بمشعل تحمله بيدها، ووراءها تخفي سجن جزيرة الدموع» … وقصده «إيليس إيلاند» الجزيرة الصغيرة التي كان يخضع فيها المهاجرون إلى أميركا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر للحجر الصحي والأمني والسياسي.
الحياة