رحيل الشاعر المصري الكبير حلمي سالم
رحيل الشاعر المصري الكبير حلمي سالم: كحّل عينيه بالربيع العربي ورحل!
بول شاوول
رحل الشاعر المصري حلمي سالم عن عمر يناهز الحادية والستين، إثر مرض “اشتراكات معقّد”، من فشل كلوي الى سرطان رئة وقبلهما عملية قلب مفتوح، فكأنما اجتمعت على هذا الشاعر الشفاف، الشغوف بالحياة والناس والقضايا والنضال والاحتجاج شغفه بالشعر. ومن قال أن كل هذا يمكن فصله عن الشعر؛ آخر مرة رأيته في القاهرة، وكنّا قد التقينا في بيروت، وقبلها في باريس… وكانت لقاءات غامرة، مفعمة بالعفوية والصداقة… وقبل نحو شهر اتصلت به عندما تناهى إليّ أنه يعالج في المستشفى، وردّ، بصوت متفتح، حي، مليء بالأمل، وبالحياة. لم يكن صوت إنسان يعاني كل هذه الأمراض، ولا كل هذه الأوجاع، ولا كل جلسات كسل الكلى، ومعالجة السرطان… بدا صوته مشرقاً، صباحياً، برغم كل هذه المعاناة. هذا هو حلمي سالم. وأتذكر أنه بعدما أجرى عملية القلب المفتوح قبل سنوات عدة، قال لي “قلبي رجع شباب”… وصحتي “بوم” على الطريقة المصرية الجميلة. في الاتصال الهاتفي الأخير بدا متفائلاً: “سأخرج من المستشفى بعد أيام”، وأضاف “ومش حنشوفك”، فقلت “أكيد أكيد… لكن إذا ذهبت الى مصر فلن ألتقي الذي تعود صداقتي به الى أكثر من ثلاثين عاماً، ربما في الوقت الذي كانت تصدر فيه مجلة “إضاءة” الطليعية. وعندما أذهب الى مصر ولا ألتقيه، سأحس بأن شيئاً ناقص في هواء القاهرة، وأن الشعر قد افتقد كثيراً من الشعر.
حلمي سالم من أبرز الشعراء الطليعيين في السبعينات، انتفض في طليعيتين: شعرية وسياسية. في الشعرية كان مع أحداث شعرية أخرى، يجوسون في عوالم الحداثة وغوامضها، وأسرارها، وشوارعها، حداثة المدينة. من مدينة الحداثة. وفي هذه الطليعية لم يقع حلمي سالم لا في التجريد “الشعري”، أو “اللغوانية” التي يمكن أن نرثها عن بعض التراكميين ممن يسمون الروّاد، وعن الشعارات الفارغة، وعن المرجعيات الناهية، والمركزيات العقيمة. لم يكن الشعر لعبة بالنسبة إليه، من حيث الإغراق في العبث الشكلي، أو السردي، أو البهلوانية اللفظية بحياة حميمة. الحياة بكل فصولها سكنت شعره. أقصد التجربة الإنسانية، سواء تماهت بالجموع (القضايا السياسية) أو تماهت بالفردية، فهي أساس قصيدته. الفرد جماعة. العزلة مأهولة. الحياة بصيغة العالم. الأنا بمعنى كل شيء. ولهذا، نجد أن حلمي سالم وعلى امتداد نتاجه، جمع بين ذلك التدفق وتلك الحساسية اللغوية. ذلك الفضاء المتسع وهذا الهاجس بالتفاصيل. كتب عن فلسطين وكأنها منه وهدمتها (أي ليست مجرد قضية قومية أو سياسية). كتب عن الجنوب اللبناني وكأنه منه. من أنهاره. من معابره. من وعره. من آلامه. من أوجاعه… كتب عن الحب بما يليق بمحب. وكما يليق برهافة شغوف، وبلغة هي الى حرارتها وحنوها تجترح جديداً في البوح. وأكثر: في اللغة. وعندما جمع بحسه المتفتح الحداثي بين الموزون (تفعيلة وسواها) وبين قصيدة النثر أجاد في الإثنين، فما هو وقع بين قصيدة نثر عمودية أو تفعيلية (كما وقع فيه بعض مجايليه) ولا هو وقع في التفعيلة النثرية، التي تخسر في إيقاعاتها السهلة ما لم تربحه من نثريتها.
ولأنه شاعر أصيل، عرف كيف يفعّل مواقفه النضالية بالحلم، والاحتجاج، وكيف يشرع قصيدته بأدواتها كلها على ما يهدد الحرية. والفرد. والإنسان. والمدينة. والتعدد. ولهذا كان على الطرف النقيض من كل أحادية “إيديولوجية” مقلقة سواء كانت مادية أو تاريخية أو طائفية أو دينية!
أي هو انحاز الى الإنسان الحر. الحي. المنفتح. المنقشع. في مجتمع عادل، ونظام عادل. وبين سياسية ديموقراطية. وكاد يدفع حياته ثمناً لمواقفه. خصوصاً عندما نظمت حملة موجهة ضده من بعض المتعصبين السلفيين، اتهمته بالكفر وبالمس بالذات الإلهية وبالدين من خلال قصيدة “على شرفة ليلى مراد”. ورفعت عليه دعاوى. وتعرض للضغط والإرهاب. لكن هذا، وبشجاعة تليق بشاعر مثله واجه كل هذه الحملات الشعواء الماضوية الجاهلية حتى في عزّ معاناته. هذا الشاعر النبيل، حلمي سالم، رأى حقول الربيع العربي تزهر في تونسو في مصر وفي ليبيا وفي اليمن وصولاً الى سوريا. كحّل عينيه بمرأى الملايين الثائرة. شارك في اعتصامات الميدان. وكتب قصائد تحية للثوار… حتى في عزّ عذاباته ومرضه، كان قلبه مع شباب الثورة في مصر… وفي العالم العربي. عاش حلمي سالم متمرداً متفتحاً، حالماً، محباً للحياة، وللناس… ومات في عزّ أحلامه. رأى المعجزة الشعبية وأغمض عينيه…
نم هنيئاً يا صديقي فأنت ما زلت بيننا في قلب الزمن العربي الجديد… بل أمامه وحوله ومن كل جهات القلب.
على شرفة القصيدة
عبده وازن
لم يتسنَّ للشاعر المصري حلمي سالم أن يصدر ديوانه الأخير الذي كان كتبه للتوّ على سرير المرض، وقد سماه «معجزة التنفس»، لكنه مات مطمئناً بعدما نجح في جعل مرضه مادة شعرية، على عادته في مواجهة الأحداث التي تعصف به، فهو عندما أصيب قبل أعوام بجلطة في الرأس، كتب عن هذه «التجربة» ديواناً بكامله سماه «مدائح جلطة المخ» (2006). أما هذه المرة، فلم يستطع أن ينتصر على مرض السرطان الذي التهم قطعة من رئته، ولا على مرض الكلى، فهما تآمرا عليه معاً وكانت الغلبة لهما، مع أن حلمي ترصد لهما شعرياً أو سبقهما، فكتب ديوانه الأخير قبل أن يغمض عينيه الى الأبد.
كان حلمي سالم على سباق محموم مع الأحداث الصغيرة والكبيرة، الأحداث الشخصية والعامة، لا يدعها تمر من غير أن يفيد منها شعرياً، أو أن «يشعرنها»، وكان دوماً على أهبة ليتأثر بها ويعيشها، بغية جعلها مناسبة شعرية بامتياز، مناسبة أو موضوعاً، شرط ألا يخلوَا مِن بُعد ذاتي و «دمغة» شخصية، فهذا الشاعر كان يجيد ببراعة الانتقالَ من العام الى الخاص، والعكس، حتى ليكاد يصبح الحدث العام حدثاً شخصياً، والحدث الخاص حدثاً عاماً. إنها طبيعة هذا الشاعر، بل هي خصاله وطبائعه التي جعلته يختلف عن شعراء جيله، جيل «إضاءة 77»، جيل السبعينات، الذي كان واحداً من رواده البارزين. لم يستطع حلمي أن يحصر نفسه في أسر مبدأ الأجيال، فاختار «الخضرمة»، منتمياً في الحين عينه الى الأجيال التي أعقبت جيل السبعينات، وقد وجد فيه الشعراء اللاحقون صديقاً ورفيقاً على رغم تأثرهم به، وكان هو منفتحاً على الأجيال هذه انفتاحَه على سائر المدارس والتيارات والمذاهب، قديماً وحديثاً…
كان حلمي سالم شاعر المغامرة، في الشعر، كما في الحياة، لم يكن يحسن له أن يثبت أو يستقر لا على مثال أو نموذج، ولا في حياة أو نمط عيش. كان يعيش الشعر مثلما يكتبه، وكان السأم سرعان ما يأخذ به فيخترق الحدود بحثاً عن آفاق أخرى. كان يتجدد باستمرار، ينفض ما تراكم، وينقلب على نفسه متجهاً نحو فضاء المصادفة، منتظراً ما قد يلوح أو يحصل. ومَن يقرأ دواوين حلمي سالم يدرك حال التعدد، أو التنوع الذي يهيمن على شعره وعلى مساره الشعري، فهو طالما نبذ الإقامة داخل شرنقة واحدة، شعراً ولغة، وكثيراً ما رفض تكرار نفسه ولعبته الشعرية وتقنياته اللغوية وحيله الأسلوبية، وبدا كل ديوان لديه تجربةً بذاتها، لغة واختباراً حياتياً وروحياً و «عاطفياً»… ظل حلمي رومنطيقياً مثلما استهل «حرفته» الشعرية في مطلع الفتوة، لكنه جرد هذه الرومنطيقية من لغتها وموقفها وحافظ على جوهرها، زارعاً إياه في صميم التجريب الحداثي. وحتى في أوج واقعيته الشعرية واحتفائه بالعالم والبشر والأشياء، كان رومنطيقياً. انها الذات التي تطغى في الختام مهما ارتفعت «الأنا» وغلب «الموضوع».
وقارئ هذا الشاعر، الذي هو بحق نسيج وحده، كما يقال، يحار إزاءه، وكيف كان قادراً على أن يجمع المتناقضات ويؤالف بينها، شاعر واقعي وسوريالي وصوفي ومادي وملتزم… شاعر الغناء المجروح والصراخ الأليم والألفة والطرافة والسخرية… شاعر الحب المثالي والأروسي، شاعر المغامرات العشقية التي لم يكن يهمه أن يخرج منها خاسراً.
في العام 2007، مُنعت قصيدة حلمي سالم «شرفة ليلى مراد»، واتُّهم بـ «الزندقة والإلحاد» وأحيل الى المحاكمة، وكاد يجازى عليها، لكنه بدا شرساً في دفاعه عن نفسه وعن هذه القصيدة «الملعونة»، وخاض معركته من دون مؤازرة كبيرة. وكانت مجلة «إبداع» نفسها، التي نشرت القصيدة، تبرأت منها ومنه بصلافة ووقاحة، وارتفعت أصواتٌ تدين القصيدة، آخذة عليها ضعفها وركاكتها. وجد حلمي نفسه حينذاك شبه وحيد، ما خلا بضعة أصدقاء وقفوا إلى جانبه، ولعله كان على قناعة أن هذه القصيدة ليست من أقوى صنيعه، وأنها لا تخلو من ضعف… لكنه استهجن، مثل الكثيرين، الحملة النقدية التي قامت ضدها في تلك اللحظة الحرجة. وهو أصلاً لم يوفر نفسه من النقد الشخصي، وكان يقول إن الشاعر لا بد أن يدفع «ضريبة» استجابته للحدث السياسي وتجاوبه معه. وفي رأيه أن على الشاعر أن يخرج صارخاً حيال الأحداث الجسام التي تهز الواقع. كان يسمح لنفسه في مثل هذه «المناسبات» الرهيبة أن يستغني عن جماليات الشعر كي يشارك في الحدث ويكون في صميمه، وليس على هامشه. وهكذا، لم يتورع مثلاً عن كتابة قصيدة عن «العسكر» عقب اندلاع الثورة المصرية، وكتب أيضاً قصيدة عن «الميدان»… وجمع قصائده «الثورية» كلها في ديوان سماه «ارفع رأسك عالياً»…
كان حلمي سالم، الشاعر الحديث، يؤمن برسالة «تنويرية» يمكن الشعر أن يؤديها، مثل المقالة والدراسة، وقد أصر على هذا الدور التنويري، لا سيما في مقالاته الصحافية وكتبه، ومنها على سبيل المثل «ثقافة كاتم الصوت» و «التصويب على الدماغ»… وهذه المهمة التنويرية عاشها حلمي عن كثب في مساره النضالي والحزبي اليساري، وفي انخراطه في الصحافة الطليعية، لا سيما في مجلة «أدب ونقد»، وانحيازه الدائم الى الناس البسطاء والمهمشين والفقراء.
من أين كان يأتي حلمي سالم بحبه للحياة وتفاؤله وحماسته؟ كان حتى في أوج ألمه وحزنه وفقره يبدو سعيداً، سعيداً ومتفائلاً بأن الغد سيكون أفضل. لكن مرضيه الأخيرين انتصرا عليه، انتصرا على جسده ولكن ليس على روحه المشرقة.
الشاعر المصري حلمي سالم عابر الأجيال رحل عن 30 عاماً – صانع الدهشة
فريد أبو سعدة
أجّلت الكتابة عن حلمى سالم طويلاً، فهل كان هذا لأن شعره غامض ومحير؟ هل لأنه كثيف ومليء بالأصوات؟ هل لأنه يمتلئ بالحيل والألاعيب؟ هل لأنه سؤال مفتوح على التجريب والمغامرة؟ نعم، هو كذلك وأكثر من ذلك أيضاً. وإذاً، فمن أين تأتى الفتنة… من أين يفيض الشعر؟
سأفكر بصوت عال وأقول إن قصيدة حلمي ماكرة، ذكية، وإنها تتعمد التمويه وتتفنن في استدراج القارئ إلى مواعيد لا يجد فيها ما توقعه، أو من واعده، فيجأر «فلا تعدى مواعد كاذبات تمر بها رياح الصيف دوني». لكن هذه الجأرة بذاتها، هي ما ترهف حواسه فيرى الشكل في الفوضى ويستطيع على الأقل أن يفرز بعض «الدر من القار في هذا الغلس» إذاً، فما يبدو صنيعة الفوضى واللعب الحر يمكن قنصه بشبكة النظام.
وهذه القصيدة تبدو، في المطاردة، كأنثى ستسقط لا محالة، ولكنها تفعل ما في وسعها لتأجيل ذلك السقوط، وما في وسعها كثير في الحقيقة. أحياناً أتخيل قارئاً، مثلي، يقف في أبهاء هذه القصيدة، كما لو كان في معرض للفن التشكيلي يتأمل هذه وتلك من اللوحات والتماثيل والتكوينات، يعجب أو لا يعجب، ولكنه ما إن يقترب من الباب منصرفاً ومعذباً بحيرته حتى يشعر كأن مساً أصاب كل شيء فراحت الصور والأشخاص والكائنات والأصوات تخرج من قبضة القماش والحجر والآوان والأسطوانات، تتحرك هنا وهناك، وتكون في ما بينها علائق لم تكن، وحكايات لا تنفد. هى إذاً، قصيدة تؤجل إعطاء نفسها، وتحتاج لكي تفعل، إلى قناص دؤوب، أو مريد دنف. هي قصيدة الفسيفساء بامتياز، التشظى بنيتها الأساس، والتمويه والاستدراج حيلتها الرئيسة. قصيدة ذكية، واعية بنفسها، وكما تحدق في العالم تحدق في نفسها، وكما يكون الوجود موضوع القصيدة تكون هي أيضاً موضوع نفسها، قصيدة تمضي على السلك، من دون تعثرات فادحة، كلاعب سيرك محترف، بل وتبدو التعثرات نفسها وكأنها من باب الإثارة، أو السخرية والونس بشهقة الجمهور.
حلمي سالم شاعر قادر على قصيدة التفعيلة وقادر على قصيدة النثر، بل قادر على كتابة مقطوعات بالغة الجمال والعذوبة من الشعر الكلاسيكي، وهو – عبر دواوينه كافة – يمزج بين هذه الأشكال بمقدار هائل من السلاسة والتوفيق.
القصيدة الجانحة التي اخترقت حواجز الثبات
أحمد الصغير
حلمي سالم شاعر قطب من أقطاب جيل السبعينات في مصر، ساهم في تطوير قصيدة الحداثة العربية منذ السبعينات وحتى اللحظة الراهنة. شاعر غزير الإنتاج، كان يدفع بقصيدته إلى الجنوح واختراق حواجز القيم الفنية داخل النص الشعري. فالحال الشعرية لديه تتميز بالتدفق اللانهائي، فهو يمتلك قريحة منتجة غنية بالتفاصيل الحياتية الكثيرة والمتغيرة، ممتزجة بالخيالات والمجازات اللانهائية التي صاغ من خلالها الكثير من النصوص اللافتة والمهمة في الشعرية العربية، وكانت هذه النصوص تجعلنا أمام شاعر ومصور درامي سينمائي في الوقت نفسه. أبدع سالم أكثر من ثمانية عشر ديواناً بدءاً من أول السبعينات. وديوانه الأول «الغربة والانتظار» نشره مع ابن جيله رفعت سلام عام 1971، وبعدها انفرد كل واحد منهما بذاته، مقدماً إنتاجه الأدبي الذي يعبر عن قضاياه ومشكلاته الخاصة التي تومئ إليها أعماله الشعرية المختلفة عبر مراحلها المتغيرة عبر الزمان والمكان.
أثار حلمي سالم حوله الكثير من الجدال بسبب غزارة إنتاجه، وعدم قدرة النقد على ملاحقة تطوره الإبداعي، وتجريبه داخل الحياة الشعرية المصرية وعمله الخالص للشعر داخل هذه الحياة المملوءة بالجراح والتمرد والخروج على السائد والمألوف. في معرض القاهرة الدولي للكتاب 2012، منحته الهيئة المصرية العامة للكتاب جائزة الشعر، وكان ديوانه الفائز بعنوان «ارفع رأسك عالياً». جاء هذا الديوان في ثماني قصائد اتكأ سالم في شكل كبير في كتابها على استدعاء الثورة المصرية المقدسة، ثورة 25 يناير 2011، مستدعياً شعب مصر بكل صفاته وأنماطه وحركاته وتقلباته وغضبه وإصراره على الحياة رغم كل المآسي والفساد والضياع الذي خلّفَته الأنظمة السابقة مع علمه أنّ الفساد ما زال ينخر في جسد الشارع، وما زال المصريون يركضون خلف متاهات المدعين والمتحنجلين على أجساد شهداء الثورة لتقسيم الغنائم والجواري.
جسّــد حلمي سالم صورة الوطن في ميدان التحـــرير، هذا الميدان الذي شَهِدَ الكثير من الآلام العظيمة والأفراح والأحزان والدموع والصراخ والموت والسكون. كل شيء إذاً كان في الميدان، وكانت الحياة هي الميدان، وكان المصريون يرددون جملة بالعامية المصرية: «ارفع رأسك فوق أنت مصري»، فالتقطها سالم لتكون عنواناً لديوانه الرائع «ارفع رأسك عالياً». إن فتنة الدلالة في هذا العنوان لا تحتاج إلى تأويل مبالغ فيه، إنه دال مختلط بالرجاء والأمر والمحبة والقوة، وكأن الذات تعلن قيامتها من جديد بعد موت واحتراق داما أكثر من خمسين سنة. والرأس هو أشرف مكان في الإنسان يدل على القوة والعظمة والعزة والحرية ففي ارتفاعه نصر، وفي تنكيسه ذل وعار وقهر. وكأن المصريين جميعا انطلقوا كالرياح لإسقاط النظام. كل هذه الأحداث التي بلغت ثمانية عشر يوماً تجلت في القصيدة الأولى التي جاءت بعنوان «أغنية الميدان» ويقول حلمي فيها: ارفع رأسك عالياً أنت المصري/الضاربُ في جذر الماضي والعصري/خالق أديان المعمورة، مكتشف الهندسة، ومبتكر الري/صاحب درس التحنيط، ومبتدئ الرقص/وخلاط القدسية بالبشري».
يستدعي حلمي سالم في المقطع الفائت صورة المصري عبر التاريخ القديم منذ الفراعنة إلي العصر الراهن، المصري الذي صنع التاريخ وخلق الحضارات وأنشأ الأديان في كل مكان. ولعل استدعاء صورة الفلاح المصري في نص سالم يشي بالكثير من الصور الدلالية المتنوعة، منها السياسي والثقافي والاجتماعي والتاريخي، ويقول في مقطع آخر: «ارفع رأسك عالية أنت المصري/الصامت صبراً لا إذعاناً /بل تطويل للحبل الشانق كل بغي/لاجُرْتَ علي جار لا لوثت/مياه النيل ولا أنكرت نبي/أنتَ موحد شطرين/وواصل شطين/وجامع أشلاء فتاك/علي دلتا النهرين/ونساج الظلمة بالضي».
يتكئ حلمي سالم في المقطع الفائت على استدعاء تفاصيل تاريخية مهمة غيّرت مجرى الأحداث في التاريخ القديم والحديث، فيستدعي من خلال مفردات إشارية بعينها تلك الأحداث المهمة مثل المصري الصامت صبراً، موحد القطرين بين الشمال والجنوب علي الملك مينا نارمر قبل الميلاد، المصري نفسه الذي نسج الموت بالحياة والظلمة بالضي… تومئ كل هذه الإشارات الدلالية السابقة على مدى فتنة حلمي سالم بابتكار المجازات التوليدية أو في ما عرف بالمجاز التوليدي، أعني أن كل المجازات تصب في مصب بعينه وتهدف إلى غايات متنوعة داخل العالم الشعري الذي نسجه سالم من خلال الاتكاء على ذلك المجاز، لأنّ الإبداع الشعري المتميز يقوم على المجاز التوليدي الذي يشمل أبعاداً متكاملة، يرأسها بعدان هنا: البعد الأسطوري والبعد الترميزي.
وهذا المجاز يجعل اللسان الشعري، يقول أكثر مما كان يقوله عادة. ويمنح الشاعر طاقات عن الجوانب المستترة والجوانب الأكثر خفاء في التجربة الانسانية. وتجلى ذلك في قول حلمي سالم في قصيدة بعنوان «سالي زهران» :»لو أني كنتُ رأيتك قبل يناير/كانت أسرتني عيناك الصاحيتان/وخطفتني خصلات الشعر/المتروكة ببدائية/رسّام بوهيمي حول الوجه الصابح/أبيض كحليب مأطور بالضربات التلقائية/من أسود فحمي/فأنا تخلعني من جذري/فطريات الحس».
لا شك أن سالي زهران هذه البنت المصرية الشهيدة صاحبة المكياج البسيط والروح القوية التي ماتت فداء لوطن أكثر روعة، صارت رمزاً للفتاة العربية المثقفة التي خرجت من أجل أسمى هدف في التاريخ، وهو تحرير وطنها المصري من جبروت الفساد والظلم. يُخاطب سالم في نصه الشعري مجموعة من الأرواح الخالدة عبر الزمن، وتجلت هذه الأرواح من خلال استدعاء صورة المصري في ميدان التحرير على مر التاريخ، وصورة شهداء الثورة من شباب مصر الذين لا يملكون أيديولوجيا بعينها سوى حب مصر، ذلك الحب الخالص من أجل الخلود، وتضمن النص أيضاً تخليداً للذات الشاعرة التي ساهمت في تغيير كبير طالما حلم به المصريون جميعاً.
عودة اليتيم
عباس بيضون
يوم أصيب حلمي سالم بجلطة في الرأس كتبت كلمة في تحيته وكان جواب حلمي كريماً بسعة قلب لم تعوزه في يوم. بعد ذلك أخذ حلمي يشاغب الجلطة. انتصر عليها وبسعة قلبه أخذ يدللها ويلاعبها. فاجأنا حلمي وهو يذيع قصته مع الجلطة ويحولها إلى فصل في حياته الشعرية.
كان حلمي هكذا يجد الشعر في أي مكان يجده في ثنايا جسده وفي تلافيق روحه وفي الخارج، الخارج أيا كان، شارعاً أم سوقاً أم مدينة أم قضية. يمكننا القول ان الرجل كان يتكلم شعراً ويتنفس شعراً ويناضل شعراً ويجادل شعراً. يمكننا القول ان الشعر لم يكن فقط على الطريق، كان سريراً ورداءً وطبقاً وآهة وغضباً وديرة ووطناً ومأوى وبلداً ومدينة وريفاً ومكتبة وكتاباً وأوراقا. كان حلمي يحمل اسمه الأنيق «حلمي سالم» معه إلى كل مكان تقريباً، ومذ يتنفس فيه ومذ يلامسه، حتى يبدأ الشعر يخامره، حتى تبدأ الأشياء تنتظم في سطور وفي كلمات وفي مقاطع وفي أبيات.
المرة لن أفرح بكرم حلمي ولا بجوابه، لن يعود لي كلامي مثقلاً بالبهجة. كنا نمتنع عن السؤال عن حلمي لئلا نفسد عليه معركته مع السرطان. لئلا نلهيه بسؤالنا عن معركته. صاح كثيرون انه سينتصر هذه المرة أيضا فهو بالنسبة لهم مقاتل وعاش مقاتلاً ولن يقدر عليه السرطان بعد أن أذل الجلطة وقهرها. كثيرون انتظر معجزة أخرى من حلمي، كثيرون قدروا ان الشعر قد يكون قوة، أن الأمل قد يكون طاقة، أن الكرم قد يصبح قدرة، أن الفرح يمكن ان يكون سلاحاً. كثيرون قدروا ان رجلاً ببسمة حلمي سالم يستطيع ان يطرد الموت، قدروا ان شخصاً في كرمه قد يكون محمياً، ان معركته مع الحياة أطول من معركته مع الموت، انه مقاتل هنا وهناك والمقاتلون لا يؤخذون بسهولة. لا بد من معركة أطول، إذ لن يأتي الصباح الذي نسمع فيه نعي حلمي الا بعد أن يكون خاضها طويلة عامرة.
كنا نعرف ان حلمي يصارع لكن أخباره التي احتجبت جعلتنا نأمل، ثم ان الأمل استحال يقيناً. قلنا هذه المرة ايضا سيسلم. لذا بدا خبره مفاجأة. في كل حال سيكون خبر حلمي مفاجأة. لن نتوقعه حتى لو كنا على قاب قوسين منه. لن ننتظره حتى لو كان أقرب إلينا من حبل الوريد. سيكون شاقاً ان نفترض ان مصر الكبيرة الواسعة، ان مصر العامرة بالثورات والمجاهدات لم تعد تحوي حلمي سالم. ان كل شيء، بما فيه حياتنا نحن ويومياتنا نحن، يجري في غيابه. سيكون شاقاً ان نفكر بأن حلمي سالم هاجر بدون أن يأخذ جيوش الشعر معه، انه ترك خلفه فلول الشعر هذه، وانه لن يكتب قصيدة عن موته. سيكون شاقاً علينا أن نفكر بأن حلمي سيكون غائبا عن آخر معاركه، انه لن يطلق اسماً آخر على السرطان. ولن يشاغبه او يعيره بهزيمته.
حلمي سالم من جيلي، الجيل الذي خرج من فلول هزيمة حزيران، خرجنا منها يتامى لكل شيء. يتامى السماء والأرض والطبيعة واللغة والكلام والرموز والشعر أيضا. ما كنا نظن ان يتماً آخر ينتظر على الطريق. جلطة الرأس والسرطان واللغة نفسها التي تستحيل جلطة وسرطانا. الشعر الذي يغدو جلطة وسرطاناً، الرموز التي تطبق كالجلطة والسرطان. اليتم الذي سيكون قدراً وسيتكرر مرات بدون ان نجد أبا في السماء ولا في الأرض. ظل الشعراء أوسع حلماً وخال بعضهم ان العالم يصنع كالقصائد، يكفي ان نجد بيتا لنبدأ، يكفي ان نجد إيقاعاً لنصل. قال بعضهم ان من عجين اللغة تصنع حجارة المستقبل، ان الثورة والبراكين والزلازل والعواصف توقد بالكلمات. لم يكن لدينا سواها وفكرنا اننا نستطيع بها ان نشعل النار في العالم. حلمي ظل يناور بالكلمات. ناور الجلطة وعلى الأرجح ناور السرطان.
الشعر ظل بيته وبلده ولم يكن أبداً غريباً في يوم. كان يجد وطناً في أي مكان. يجد بيتاً وأصدقاء في أي مكان. كثيرون سيشعرون ان قصيدة هربت أمامهم. ان خيطاً انقطع في قلوبهم، كثيرون سيشعرون ان اليتيم الشارد عاد إلى بيته، سيشعرون ان دمغة حداد أطبقت على نفوسهم. كثيرون سيعرفون ان الشعر هو ايضا صداقة وان الشعر قربى وأنه دم مشترك. حلمي ستكون أخا لكثيرين وسيكثر أخوتك بعد الآن، في معركتنا مع أنفسنا وحياتنا ستكون حاضراً وستسميها بأسماء أخرى، وسنسمع ضحكتك ولن يهزمك بعد سرطان ولا جلطة ولا شيطان.
مكافح ومناضل
صقر أبو فخر
بعد خروجه من بيروت في صيف 1982 أصدر حلمي سالم كتاباً عنوانه «الثقافة تحت الحصار» (1984) يروي فيه تفصيلات من الحياة الثقافية لمدينة بيروت في اثناء الحصار الإسرائيلي. وعندما وصلني الكتاب أثار فيَّ حنيناً إلى أيام الحصار، وإلى الناس المحاصرين الذين تناثروا هنا وهناك مثل أيدي سبأ، وعلمت ان حلمي ما زال يقيم في بيروت. وحين أصدر حلمي «سيرة بيروت» في سنة 1986 علمت ان هذه المدينة ما برحت تقيم فيه وتسكن في شرايينه ولا تبرحها. ومرَّ حين من الدهر لم نلتق البتة، فقد تباعدت بيننا الدروب وافترقت الخطى إلى ان التقينا، بعد نحو ربع قرن، في بيروت مجدداً. وانهمرت الذكريات كأنها البارحة. فاللقاءات في مثل هذه الحال تستدعي الذكريات بقوة، وتتسربل بأسماء من رحل ومن بقي، وأين صاروا.
[ [ [
التقيت حلمي سالم، أول مرة، في مجلة «بلسم» التي كان يشرف عليها الروائي والناقد الفلسطيني عبد الرحمن بسيسو، وكان يكتب فيها «أحمد المصري»، وهو الاسم المستعار لأحمد بهاء الدين شعبان أحد قادة الحركة الطالبية المصرية في أوائل سبعينيات القرن المنصرم الذي خصّه أحمد فؤاد نجم بالذكر في قصيدته المشهورة «أنا رحت القلعة وشفت ياسين». ثم جمعتنا مجلة «المصير الديموقراطي» التي كانت لنا مقهى اجتمع فيه مصريون أمثال حلمي سالم وسلوى بكر وأحمد بهاء الدين شعبان، وأردني ذو هوى مصري هو غالب هلسا، وفلسطيني امتهن الإقامة في مصر هو عبد القادر ياسين، وكنت أشرف على الباب الثقافي في هذه المجلة التي ما إن صدرت في سنة 1980 حتى كشفت سرها، فهي مجلة فلسطينية ـ لبنانية بنكهة مصرية.
كان حلمي مفتوناً بأدونيس… وأنا كذلك. وكنا بهذا الافتتان نخالف الذائقة الشعرية الفلسطينية السائدة، واللغة الشعرية الطاغية التي «تلعق زيت السلاح حين تعطش، وتأكل لحم الدبابات حين تجوع». ولما عاد إلى مصر قُيض له، بمخزونه الثقافي الذي حمله معه من بيروت، ان يكون له شأن مهم في حركة الشعر المصري الجديد، فأصبح حلقة مهمة في سلسلة طويلة ضمت إليها عدداً من الشعراء الشبان امثال حسن طلب ورفعت سلام ووليد منير، وحاولوا معاً ايجاد صوت شعري متميز. وفي هذا الميدان كان حلمي سالم محفزاً شعرياً لامعاً في مصر، ومحرِّكاً نشطاً للشعر الجديد (أي قصيدة النثر) الذي أدار ظهره، جزئياً، لصلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي، واختطّ لنفسه طريقة في الشعر تنهل من جيل الريادة (عبد الصبور وحجازي وأمل دنقل ومحمد عفيفي مطر) وتسعى، في الوقت نفسه، إلى تجاوزه إبداعياً. وكان لحلمي سالم ورفاقه تأثير ظاهر في جيل الثمانينيات من شعراء مصر أمثال محمود قرني وعماد أبو صالح وايمان مرسال وأحمد الشهاوي وغيرهم.
[ [ [
حلمي سالم ليس مجرد شاعر من شعراء قصيدة النثر. إنه شاعر مكافح ومشاكس وتقدمي ومناضل في سبيل الديموقراطية ومناوئ للاستبداد. لهذا حاربته المؤسسة السياسية، وأرادت المؤسسة الدينية أن تنال منه، فلم يكترث. وحين نشر قصيدة «شرفة ليلى مراد» في مجلة «إبداع» في شتاء 2007 اعتقدت الجماعات التكفيرية انها اصطادته، فشنت حملة ضارية عليه، ورفع يوسف البدري دعوى ضده بتهمة الإساءة إلى الذات الإلهية… ولم يكترث. وطالب بعض أصحاب الأدمغة الجافة بسحب جائزة التفوق منه إلا إذا أعلن توبته… ولم يكترث. غير أن ما آلمه وأصابه بالخيبة هو انفراط كثير من الشعراء والنقاد والأدباء من حوله، فلم يسانده إلا النفر القليل منهم حين كان يتصدى لعسف السلطات ولعهر الجماعات الظلامية وحده تقريباً.
[ [ [
في تشرين الأول 2004 أصابته جلطة سببت له شللاً جزئياً. ولعل أحواله انتعشت حين لاحت بوادر الحرية في مصر. إلا أن فأله خاب مجدداً عندما تسيّدت الجماعات الإسلامية المشهد السياسي. وكانت الأمراض قد نالت منه، وتغلبت عليه، فأراح ركابه المتعب ومضى، بعدما ترك لنا صداقة لا تنتهي، وأثراً لا يُمحى، وذخيرة صنعها بأصابعه، وشكّل قوامها بحروف الأبجدية وهي سبعة عشر ديواناً شعرياً وعشرة كتب نقدية وسجالية مختلفة، وسيرة عبقت بالصداقة المديدة والذكريات المنعشة.
حلمي سالم.. يموت من فرط القصيدة
علي حسن الفواز
الشعراء يركضون خلف احلامهم دائما، يفتشون عن وجوه اخرى للحياة، او يبحثون فيها عن زمن اكثر بياضا، زمن يغسل اللغة والجسد والمكان، ويبيح للكلام الطيران..الشاعر المصري حلمي سالم واحد من اولئك الذين كانوا يحلمون بافراط، وربما كان الاكثر احتجاجا وهو في نوبة الحلم. لكنه ايضا كان الاكثر هشاشة ونعومة، لذا لم يشأ ان يقف امام شحوب الجسد والقصيدة، هو يرحل عن الدنيا مرعوبا دون ان يلامس احلامه، تلك التي ظلت بعيدة وغائرة، واظنها ستظل دوما في الضفة الاخرى..
صاحب قصيدة شرفة ليلى مراد التي ملأت الدنيا بضجيج الاصوات العالية لم يتحمل المرض وقسوته المرعبة وعزلته وموت شرفاته. هو مليء بالاحلام وصاخب بثورات عميقة، وباحث دؤوب في شفرات القصيدة عن وجودها المعلن عنه. هاجس المغامرة تجاوز لعبة الكلام، اذ بات هاجسه الوجودي، وسؤاله الفلسفي والنضالي، لكن هذا الهاجس لم يكن بريئا وطيبا وناعما، كان يعبر بخشونة على تفاصيله وحرير كلامه، يترك اثرا او خربشات، تلك التي انهكت جسده الشعري ايضا، اذ بات هذا الجسد امام طوفان غرائبي من الرغائب والمكاره، امام سيل من الوحشة والفتنة، لم يشأ- رغم هذه السيرة- ان يكتب عن خيبته تلك وعن احساسه بالعجز، هو ادرك ان اللعبة لم تعد مسكونة بفروسية الشاعر الدونكيشوتي، وان الجسد لم يعد بطلا وسط بطولات صغيرة تجاوزته كثيرا، مثلما ادرك ان اللغة لم تعد تطهيرا وانقاذا، فالكثيرون من المتلصصين واصحاب الاوهام رشوا على اللغة نعاسهم، وانتهكوا سريرها العائلي ناموا معها بنوع من الاباحة والعطالة والفسق الفادح..
تعرفت على حلمي سالم قبل اكثر من ثلاث سنوات في مهرجان الشعر العربي في مدينة الرقة السورية، واصبح تعارفنا مفتوحا لان الكثير من الهموم المشتركة تجمعنا، هموم في اللغة والمعرفة والسياسة واليوميات، حتى طلب مني ان اكتب لمجلته(ادب ونقد) وفعلا ارسلت له اكثر من موضوع وجدتها بعد حين في هذه المجلة المناضلة والدؤوبة والتي يكتب فيها- رغم معاناتها المادية- خيرة الكتاب العرب. اخبرني الاصدقاء مؤخرا ان حلمي سالم يعاني من عجز كلوي، وانه استسلم الى نوع من الكآبة الشديدة، تلك التي ترسم صورة التناقض بين حبه للحياة وايمانه بالمستقبل، وبين معاناته الشديدة ازاء ما يجري في الواقع، وما يمكن ان يحتمله شاعر رقيق مثله من الهموم والاحزان الثقال. مات عجولا جدا، لم ينتظر اركولوجيا الاطباء لكي يرمموا ويحفروا ويقترحوا لجسده سنوات اخرى، مات وكأنه يترك لنا احتجاجا على كل الحروب التي تسحقنا وعلى كل الثورات التي اكلت من ابنائنا اكثر مما اكل اصحاب (القطط السمان)
رثاء حلمي سالم ليس رثاء شعريا حتما، بل هو رثاء لاحلام كبيرة انفرطت في شوارعنا العامة، شوارع السياسة والصراعات والطوائف التي اخذت تكبر على حساب وجودنا واحلامنا، مثلما هو رثاء لجيل من شعراء المغامرة الذين دأبوا على ان يكونوا مناضلين وعضويين ورومانسيين وحاملي يافطات وفاتحي نوافذ سرية داخل اللغة وخارجها. لكني ايضا ارثي فيه صديقا شعريا وانسانيا، يهمس وهو في نوبة الغضب، ويضحك وهو في نوبة القلق، لانه مطمئن على ان احتجاجه الاكبر من شأن القصيدة وحدها التي يمكنها ان ترمي الحجر وان تفتح المزيد من الشرفات.
أيها الجميل المكفف بجماله
محمد علي شمس الدين
غالباً ما تجعلني الكارثة أبكم، أنا لست فصيحاً في المناحات، كموت الحبيب أو موت الصديق مثلاً. والصديق ما أعنيه ذاتياً بالاختيار لا موضوعياً أي أن نفسي اختارته من بين الآلاف صديقاً وأليفاً ولا صلة لكل ذلك بنسبة الإبداع في شعر حلمي بل في حياته. حلمي سالم كان صديقي، كنت أعرف من هو شعرياً وإبداعياً وكتبت في ذلك، لكنني لم أكتب فيه صديقاً حتى اليوم، وها هي لحظة موته تأتي وهنا تخونني العبارة، كان الموت قد بدأ من مدة طويلة ينهش فيها رأس حلمي وكبده وكنت أحادثه بين فينة وفينة وأتحاشى سؤاله عن مرضه، كان يخبرني أحياناً فأهرب منه وقد أشرف على إصدار مختارات من قصائدي في مصر في سلسلة «آفاق عربية»، وكتب لها مقدمة وهو مريض، كان ذلك من عام تقريباً. ومات اثنان جميلان ولم انتبه إبراهيم أصلان وحلمي سالم.
يا حلمي سلّم لي على إبراهيم واعلم أن موتك بالنسبة إليّ مهيب وفاجع وحربك كموت مدينة. واعلم أيها الجميل المكفن بجماله أنك محروس إلى الأبد في قرة عين مصر وقرة عين الله.
الغياب يكشف ولا يحجب
جودت فخر الدين
المودة أولاً، هي التي نشأت بيننا، وذلك قبل أن نلتقي. تعارفنا عن بعد، ثم التقينا مرتين في القاهرة، في أثناء مهرجانين شعريين. لمست لديه الحماسة إزاء التغيير في الشعر وفي غيره. ولمست لديه أيضاً الدماثة والرهافة وحضور البديهة.
وكانت لنا زمالة في النشر. فالعدد الأول من مجلة «إبداع» ضمّ قصيدتي «شظايا» وضمّ قصيدته «في شرفة ليلى مراد».
تفاجأت بخبر موته، وأنا أمسك بالجريدة صباح البارحة، رحت أشعر بأن الذي بيني وبينه هو أكبر مما ظننت. هل أقول إذن إن الغياب يكشف ولا يحجب؟ وهل أقول أيضاً إن أصفى الصداقات هو الذي يحيا في هامش الصمت أو الخفر؟
حداثة وسطى
علي المقري
تبدو لي تجربة حلمي سالم الشعرية، وكذلك الحياتية، منقسمة بين جيلين، جيل التأسيس للحداثة الشعرية، والثقافية بشكل عام، المعيش في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وجيل الثمانينيات الذي أتى بعده وبدأ يحاول فحص تجربة المنجز السابق ونقده، بل والمضي في اختبارات مغايرة تسعى لخراب النص الحداثي المؤسس بكل تمظهراته اللغوية والسياقية الجمالية التي صارت هي الأخرى في حال تكريس وتثبيت قيمي.
حلمي سالم، كمعظم أبناء جيله، السبعيني بدا متوافقاً مع الجيلين، فهو مع حداثة وسطى، رأت أن شعارات التخريب والانفجار المؤسسة لم تكن محققة بالفعل، كما أن امتدادها إلى أجيال لاحقة أخذت شكل القطيعة عن كل ما سبق.
حلمي سالم، بهذا التلاقي، قدّم نصه الملتزم بإيقاع الحداثة، بأبعادها الإنسانية والفكرية، مع اقتراب مراوغ من التجارب العاصفة للجيل الذي يليه. وبهذا تكمن أهمية هذا الصوت الشعري، الذي جاء بعد مرحلة الشعارات العربية الصاخبة، فلقي نفسه، مع مجايليه، يعيش أجواء ما بعد الانكسار، حيث صارت الخيبة حال معاش يومي.
(شاعر وروائي من اليمن)
مرق مثل كوكب…
شاكر لعيبي
تعود علاقتي بالشاعر الراحل حلمي سالم إلى العام 1980 في بيروت. كانت المدينة مَرْجلاً يغلي بالأفكار والحماسة. كانت مختبراً للثقافة والتجريب والسأم من السياسة الرسمية المصابة بالعطب. كان لقائي الأول به في بيت السينمائي محمد توفيق الذي كان جاراً لي في شارع متفرع من الحمرا. كنا شباباً، ومن الوهلة الأولى نعرف بالضبط طبيعة الأمر الذي يجمعنا في هذا المكان. لقد بقي جوهر هذا الأمر علة وسبب وجود حلمي سالم وفاعليته الثقافية والشعرية والجمالية. أقول اليوم إنْ لا شيء يضاهي حلم بيروت في تلك الفترة، ولا يوازن كينونة مثل كينونة الراحل سالم المأخوذ دوماً بالجمال والحقيقة. لقد ظل وفياً لنفسه، ومخلصاً لتلك «اللحظة الاستعارية» العميقة، كما أراها اليوم بعد أكثر من ثلاثين عاماً. إذ ارتبط بشغفٍ نادر، وفي آن واحد، بالكتابة الشعرية والسجالات السياسية التي وقف فيها دوماً جوار العدالة والعقل، ولعل آخرها «معركته» بشأن قصيدته «شرفة ليلى مراد» التي أثارت ضجة كبيرة في العام 2007. لقد أعاد نشرها في مجلة (نقد) بعد أن تضمنها ديوانه الشعري «الثناء على الضعف»، رغم أن التيار الإسلامي كان قد اعتبرها مسيئة للذات الإلهية وطالب بسحب جائزة وزارة الثقافة عن مجمل أعماله منه. لم يَهُنْ حلمي سالم ولم يضعف رغم قوة التيار.
التقيت به بعدئذ في مقهى غرومبي محض مصادفة في زيارة إلى القاهرة، ربما صيف 2002 أو 2004. وهنا يمكن أن يرى المرء قوة الكرم والأريحية في شخصية الراحل. ثم سطوة العمر الذي يمر من دون أن تدري. اختفى الشاب البيروتي الوثاب، وحضر الرجل الناضج الأشيب قليلاً. العام 2006 2007 التقيت به من جديد في نقابة الصحافيين المصريين، وكان برفقة الشاعرة الصديقة فاطمة ناعوت. ليدعواني كلاهما لجلسة دردشة في المقهى الواقع أعلى النقابة، حيث تشاهد منظراً بانورامياً للقاهرة: ما زال الرجل هو نفسه منخرطاً في الثقافيّ والسياسيّ كليهما وبالروح الأريحيّ ذاته.. لقد رحل حلمي سالم في الفترة نفسها التي رحل بها إبراهيم أصلان وخيري شلبي، فرَحَاً مما يحدث أو غيظاً…
رحل حلمي سالم بعد مرض عضال في الستين من عمره. ولا أعرف، رغم التكريم الأخير له منذ بعض الوقت، فيما إذا حاز هذا الشاعر المصري الجميل على المكانة الحقيقية التي يستحقها بين مجايليه، وسط مشهد شعري، مصريّ وعربيّ، اختلطت فيها المعايير الجمالية بالقيم الهشة للميديا. وخاصة لأنه ظل قريباً إلى مزاج حزب التجمع اليساريّ وإلى تلك المفاهيم الشعرية العالمية التي لا تضحّي «بالرسائل الشعرية» لصالح الجماليّ المنقّى وحده. ومن بين قلة من مجايليه خرج الراحل من القارة الثقافية المصرية إلى الجغرافيا الثقافية العربية، فاعلاً ومنفعلاً، مساهِماً ومراقباً ومشاطِراً. وهو أمر لم يتهيأ دائماً لشاعر مصريّ معاصر، ولعله من نتائج فترته اللبنانية ووعيه الرحب وقربه من الرحم الكونيّ الأشمل.
من المنوفية حيث وُلد إلى فضاء العالم، مرق حلمي مثل كوكبٍ، مثل مذنـّبٍ. يا حلمي سالم، لترقد روحك بسلام.
(شاعر وباحث من العراق)
الجنوبي الجميل
ماجد أبو غوش
ماذا بعد وجع القلب
وتساقط الجدران
من حول الجسد النحيل؟
…………………….
جدار مغطى بالأغاني
وأغنية حبلى بالشموس
وشمس تشرق من صدر
الجنوبي الجميل
قهوة مرة
وعواء ذئب
في ليل طويل
كلما ناديته قال انتظر
سيأتي دورك في الرقص
والعواء الكثير
فامنح قلبك قليلا
من الحب والوجد
وانتظر أن يزهر في كفيك المستحيل!
(شاعر فلسطيني)
شاعر برتبة مقاتل
جرجس شكري
في سنواته الأخيرة كان حلمي سالم مقاتلاً يخوض معارك متنوعة، يخوضها مع جسده أحياناً، وفي أحيانٍ أخرى هو وجسده الذي صار ضعيفاً مع الشعر، ثم هو وجسده وشعره ضد الجماعات الدينية المتشددة؟ هذا ما تذكرته أمس حين سمعت نبأ رحيل حلمي سالم، تذكرت سلسلة المعارك التي عاشها في سنواته الأخيرة منذ أن أصيب بالجلطة وكتب في مديحها كتاباً، كنت في ذلك الوقت عضواً في مجلس تحرير مجلة «أدب ونقد»، وكلما التقينا يبتسم مثل طفل ويطلب سيجارة، يدخنها في سعادة غامرة وبالتدريج عاد للتدخين واكتفى من المرض بالكتابة عنه، وكأنه أصيب بالجلطة ليكتب عنها… وفي مرضه الأخير زرته قبل إجراء العملية، أنا والشاعر عبد المنعم رمضان في بيته، وكانت روحه المعنوية مرتفعة لأن الطبيب أخبره بأن السرطان لم يتجاوز الرئة وبقية الجسم سليمة، كان سعيداً وقضينا معه وقتاً لم نشعر أنه مريض، وبعد العملية نصحوه بأن يبقى في المستشفى ليجدوا حلاً للفشل الكلوي ولم يفعل وقبل رحيله بأيام نصحوه بأن يبيت في المستشفى بعد غسيل الكلى لتدهور صحته، ولم يفعل وغادر. وفي اليوم التالي حضر أمسية شعرية أقيمت من أجله، كان حلمي سالم بالفعل مقاتلاً يحارب الحياة كل يوم وكان مصمماً على الانتصار، كان يكتب كثيراً يكتب عن كل شيء، ويحوّل كل شيء إلى شعر حتى المرض، وأحياناً كنت أجد ما يكتب كلاماً مباشراً، وأندهش كيف تجرأ وكتب هذا الكلام الذي كنت أنظر إليه على أنه بعيد عن الشعر، وفي قصيدته المشكلة (شرفة ليلى مراد) دافع عنه البعض، وخذله البعض الآخر من أصحابه، ولكنه لم يستسلم وظل يقاتل ولم يكف عن الضحك، يختلف الجميع حول شعره وهو يكتب ويضحك ولا يهتم، إنه حلمي سالم الذي لم يتوقف عن الكتابة أو الضحك حتى مات.
إشكالية الشاعر والنبي
جوزيف عيساوي
كنا خرجنا للتو من أمسية شعرية مشتركة، ثالثنا الشاعر حسن نجمي، في معرض بيروت للكتاب قبل بضعة أعوام، حين تلقى حلمي سالم اتصالاً من القاهرة ينبئه بدعوى احتساب ضده.
جلسنا في الكافيتيريا، التوتر في ملامحه، لكن ابتسامة رائقة وعذبة لم تفارقه. كأن مقطعاً من شعره كان يمر في باله تلك اللحظات:
«ألم تشاهدي الطيبين الذين لم يريدوا أن/ يكون الله شرطياً/ يباغت النائمين في البيوت،/ ولا أن يصير مهندس البطش».
أحد شعراء السبعينيات المصريين ممن عجنوا موسيقى التفعيلة بانزياحات ما. على ان حلمي بالذات طوّر تجربته، مستفيداً من قصيدة النثر وتقنيات النص المفتوح، ليغمس قصيدة في المعيش ولحظته الراهنة («قالت: يا الخلخالين في كاحليَّ؟/ قلت: المعلّقات وقصيدة النثر»).
بين يدي الآن ديوانه «الشاعر والشيخ» الصادر العام 2008. الإشكالية التي تطعن على القصائد، علاقة الإنسان بالمقدس. من جهة، ومن اخرى برجال الدين في تحالفهم مع الديكتاتورية والمال.
اللغة الشعرية طوع خياله وفكره لصناعة قصيدة تلجأ إلى الصورة والحكاية والقرآن، لتقول معرفة نقدية في الماوراء وتجلياته. وأكثر ما يؤلمها شيوخ وفقهاء دعاة فضائيون يعيقون الإنسان على دروبه للعمل والحب ومجرد العيش.
إشكالية الشاعر والنبي تحضر أيضاً في الديوان، سلطة الشعر في مواجهة سلطة النبوة. وثمة قصيدة وشرح «شرفة ليلى مراد» بنيت على القصيدة التي سبق ان أثارت ضده رجال التكفير.
الجمال والصنيع الماهر لا يفارقان الديوان المذكور، في ملعب رحب للخيال واللغة واليد التي تلهو على الصفحة بكيمياء المفردات، معيدة صياغة (وبرذخة) شيفرات حمض اللغة النووي.
«لكن القصيدة أعلى من انكشارية الوحي المقدس» كتب سالم. ومن الموت أيضاً. وستعيش القصيدة تلك، الأعلى، ما عاش على الأرض انسان يسعى إلى الحرية، يسعفه الشعر على بلوغها، وإن مكتوباً بلسان استعاره يوماً إليه.
وفاة الناقد والشاعر المصري حلمي سالم صاحب القصيدة الأزمة ‘شرفة ليلى مراد‘
القاهرة ـ(د ب أ): أعلن في العاصمة المصرية القاهرة يوم السبت الماضي وفاة الناقد والشاعر المصري حلمي سالم عن عمر تجاوز الستين عاما متأثرا بمرض سرطان الرئة.
وفاجأت ألام المرض الشاعر الراحل قبل عدة أشهر ما دفع وزير الثقافة وقتها الدكتور شاكر عبد الحميد إلى العمل على نقله إلى مستشفى عسكري لمحاولة إنقاذ حياته.
ولد الراحل في محافظة المنوفية في دلتا مصر عام 1951 وحصل على ليسانس الصحافة من كلية الآداب جامعة القاهرة وعمل بعد تخرجه صحفيا في صحيفة ‘الأهالي’ الناطقة بلسان حزب التجمع المعارض ثم مديرا لتحرير مجلة ‘أدب ونقد’ المصرية ثم رئيسا لتحرير مجلة ‘قوس قزح’ الثقافية.
اقترن اسم حلمي سالم بجماعة ‘إضاءة’ الشعرية أحد أشهر الكتل الشعرية في سبعينيات القرن الماضي في مصر وحصل على جائزة التفوق في الآداب عام 2006 عن مجمل أعماله الأدبية.
وصدر للراحل 18 ديوانا شعريا أولها ‘حبيبتي مزروعة في دماء الأرض’ عام 1974 و’سكندريا يكون الألم’ عام 1981 و’الأبيض المتوسط’ عام 1984 و’سيرة بيروت’ عام 1986 و’فقه اللذة’ 1992 و’يوجد هنا عميان’ عام 2001 و’الغرام المسلح’ و’عيد ميلاد سيدة النبع’ عام 2005 و’الثناء على الضعف’ عام 2007 .وصدر له عدد من الكتب النقدية أولها ‘الثقافة تحت الحصار’ في بيروت عام 1984 و’الوتر والعازفون’ عام 1990 و’هيا إلى الأب: مقالات حول القطيعة والإيصال في الشعر’ عام 1992 و’الحداثة أخت التسامح: الشعر العربي المعاصر وحقوق الإنسان’ عام 2001 و’عم صباحا أيها الصقر المجنح: دراسة في شعر أمل دنقل’ و’التصويب على الدماغ: كلمات في الحرية والقمع’ وأخر كتبه المنشورة بعنوان ‘محاكمة شرفة ليلى مراد’.
وشهد عام 2007 منعطفا هاما في حياته حيث نشرت له في شتاء هذا العام في مجلة ‘إبداع’ قصيدة بعنوان ‘شرفة ليلى مراد’ كانت نشرت في ديوان شعري سابق له بعنوان ‘الثناء على الضعف’ لتتفجر بسببها أزمة ثقافية قضائية كبيرة.
وبدأت الأزمة بإصدار رئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب وقتها قرارا بسحب نسخ المجلة من الأسواق باعتبار أن بعض ما ورد فى القصيدة ‘يسىء إلى الذات الإلهية’ وهو ما تلاه اتهام مجمع البحوث الإسلامية في مصر للشاعر بكتابة قصيدة ‘تحمل إلحادا وزندقة’ ليتعرض لحملة شرسة تطالب ‘باستتابته’ وفقا لبيان وقعه نحو 100 شخصية دينية.
في المقابل ظهرت حملة مضادة قادها عدد من كبار المثقفين المصريين والعرب الذين اعتبروا حملة ‘استتابة’ الشاعر الكبير نموذجا لحملات التكفير وثقافة الإرهاب.
وفي نيسان/أبريل 2008 أصدرت محكمة القضاء الإداري حكما يطالب وزارة الثقافة بعدم منح جائزة التفوق للشاعر حلمي سالم بدعوى ‘إساءته للذات الإلهية’ ليقيم الداعية الشيخ يوسف البدري بعدها دعوى قضائية ضد وزير الثقافة وقتها فاروق حسني والأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة وقتها علي أبو شادى مطالبا بتنفيذ القرار وسحب الجائزة.
لاحقا وفي نفس الشهر طعن المجلس الأعلى للثقافة على قرار المحكمة ووصف الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة الطعن بأنه جاء ‘كدعوة للتنوير ومحاربة الظلامية التي توقف كل عمل إبداعي’.
ومن جهته نفى حلمي سالم اتهام القصيدة بأنها تسيء للذات الإلهية قائلا:’انتقدت في القصيدة تواكل المسلمين على الله وقعودهم خاملين وهذا معنى ديني ذكر في القرآن الكريم حيث قال تعالى (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) والقصيدة قالت هذا المعنى بصورة شعرية بسيطة لم يعتد عليها كل الذين يقرأون الأدب قراءة حرفية ضيقة.
حلمي سالم… حياة من الشعر
وانتصر المرض حيث فشل المتأسلمون
أحد أبرز جيل السبعينيات، عرف عتمة السجون، وساحات النضال السياسي، وحملات التكفير، فبثّها في قصائده قبل أن يرحل يوم السبت عن 61 عاماً. غداً، يحتضن «مسجد الحامدية الشاذلي» في القاهرة مراسم العزاء بصاحب «الشاعر والشيخ» الذي ترك 21 ديواناً وعملين لم ينشرا بعد
محمد شعير
القاهرة | نجا حلمي سالم من الموت في حصار بيروت عندما انضم إلى المقاومة الفلسطينة هناك، ومن جلطة المخ، وسرطان الرئة. لكنّه مات أول من أمس كمعظم المصريين بالمرض المعتاد (الفشل الكلوي). عرف السجن مناضلاً سياسياً من أبرز جيل حركة الطلبة المصريين في أوائل السبعينيات. كذلك نجا من سكاكين المتطرفين الذين حاربوا قصائده، وكفّروه. فضحهم في ديوانه «الشاعر والشيخ» الذي أهداه إلى ضحايا التطرف على مدى العصور من الحلاج والسهرودي وابن رشد إلى فرج فودة ونجيب محفوظ ونصر حامد أبوزيد. أصبح الديوان وثيقة يردّ بها سالم على محتكري الحقيقة المطلقة الذين يلاحقون المبدعين في كل مكان وزمان حتى أصبح هو نفسه هدفاً لهم.
حلمي سالم (1951 ـــ 2012) الذي غيّبه الموت يوم السبت دخل المستشفى قبل أسبوع لإجراء بعض التحليلات، وهناك احتجزه الأطباء. لكنّه أصرّ على الخروج؛ لأنّه كان مرتبطاً بأمسية شعرية. كتب تعهداً بتحمّله المسؤولية، وذهب إلى «حزب التجمع» اليساري، ليلقي قصائد ديوانه الأخير «معجزة التنفس». الشعر بالنسبة إلى حلمي كان «علاجاً» أفضل من «ألف جلسة كيماوي» كما قال في تلك الأمسية. وهذا ما جرى أيضاً عندما أصيب بجلطة المخ، كان نصيبها ديوانه «مديح جلطة المخ» الذي كتبه أثناء علاجه، وكان سبباً ـــ كما قال ـــ في شفائه قبل أن يكمل العلاج. صاحب «سيرة بيروت» الذي انتمى إلى جيل السبعينيات، هو أكثر أبناء جيله غزارة، ومغامرة أيضاً. كانت أشعاره «حياته» لكنّها مكتوبة في قصيدة، هكذا يمكن أن نقرأ عن رحلاته، ومرضه، وحروبه ومعاركه الفكرية، ونضالاته وأصدقائه، وتجاربه العاطفية. سيرته مبثوثة في كل القصائد: كتب عن حصار بيروت (ديوانه «سيرة بيروت») وعن رحلته الباريسية (الغرام المسلح) وعن متابعاته للانتفاضة الفلسطينية (تجليات الحجر الكريم) وعن تكفيره بعد قصيدته «شرفة ليلى مراد» والحكم بسحب «جائزة التفوق» منه بعد الدعوى التي رفعها عليه الشيخ يوسف البدري (الشاعر والشيخ). حتى تجربة الثورة المصرية كتب عنها في ديوانه الأخير «أرفع رأسك عالية». ثم أتبعه بديوانين لم ينشرا بعد هما «حديقة الحيوانات»، و«معجزة التنفس» الذي يتماس أيضاً مع تجربة مرضه الأخير.
عبر 21 ديواناً، كتب كل ما مر به. لذا قد لا نحتاج إلى معرفة الكثير عن سيرته الذاتية التي حرص قبل أشهر من رحيله على تسجيلها في نص بديع حمل عنواناً مبدئياً هو «الراهب: الأصل والفصل». والراهب هي قريته التي ولد فيها وتقع في محافظة الفيوم (شمالي القاهرة)، وقد سمّيت ذلك لأنّها تحتضن مقام الشيخ علي الراهبي، أحد معالم القرية. هناك ولد حلمي ونشأ لأب يعمل تاجر موالح، وأم ربة بيت. وكسائر أطفال القرى، التحق حلمي بكتاب الشيخة أمينة قبل دخول المدرسة الابتدائية، ليتعلم القرآن واللغة العربية. كانت الشيخة أمينة كفيفة، لكنها كانت تميّز الولد المخطئ في قراءة القرآن بحاسة السمع الاستثنائية عندها. كانت تحدد مكانه بين الأولاد الجالسين أمامها على الحصيرة، فتنقره على رأسه بقضيب خيزران طويل، أو تستدعيه لتفرك أذنه بحصوة خشنة بين أصابعها. وكانت الشيخة أمينة تأسيساً متيناً له في القرآن واللغة العربية والنطق السليم. وقد ظلت في خيال حلمي وذاكرته وشعره أيضاً!
في تلك الأيام، التقى صديق طفولته محمد ابو النور ابن ناظر المدرسة الذي كانت مكتبة والده مدخلهما إلى العالم، وكان الولع بالأدب الروسي، وتحديداً روايات: غوغول وتولوستوي ودوستويفسكي وتشيخوف وغوركي، وبعض أشعار بوشكين. وهذا الغرام كان البذور الأولى التي شكلت ميله لاحقاً إلى الفكر الاشتراكي واليساري. كانت حياة القرية التي عرف فيها الموالد الشعبية، وحضرات المتصوفة، وأغنيات العمّال مدخله إلى الشعر. وربما هي التي أكسبته لغته، إذ يكتبُ خارج المُكْتَسبات، أو يرفض أن يبقى أسير الذوق العام. اللغة التي يكتب بها تمتح من فائض اللغة، بما يعنيه من كلام عام سائد ومعروف، أي باستعمال الكلام الدَّارِج، لكن ليس بمعنى ما هو مُبْتذَل، أو «مطروح في الطريق» (بتعبير الجاحظ). عندما التحق بجامعة القاهرة، اختار دراسة الصحافة، وممارسة العمل السياسي المنظم. شارك في تظاهرات الطلبة، وانضم لاحقاً إلى «حزب التجمع» حتى رأَسَ تحرير مجلة «أدب ونقد» الثقافية التي كانت تصدر عنه. وكانت البداية ديواناً مشتركاً مع صديقه الشاعر رفعت سلام بعنوان «الغربة والانتظار» (1972)، تلاه ديوانه الأول «حبيبتي مزروعة في دماء الأرض» (1974). ولأن سنوات السبعينيات المصرية كان فترة كساد ثقافي، أسس مع عدد من أصدقائه الشعراء جماعة «إضاءة» (1977) التي ضمت حسن طلب، جمال القصاص، رفعت سلام، وأمجد ريان، وأصدروا مجلة تحمل اسم الجماعة احتوى عددها الأول على مانفيستو الحركة التي كانت أول خروج قوي على قصيدة التفعيلة التي اختط ريادتها في مصر شعراء مهمون كصلاح عبد الصبور، وعبد المعطي حجازي، إبراهيم أبو سنة. رغم هذه الثورية، إلا أنّ حلمي نفسه كان أول من خرج عليها. لم يكتب فقط قصيدة «الوردة» في مقابل «قصيدة البندقية»، فقصيدته تضمنت كل ذلك. لم تكن قصيدة مشغولة بخصوصيتها الذاتية وتفاصيلها الشخصية اليومية داخل غرفة مغلقة، بل شُغلت أيضاً بالجمهور. وربما لهذا كان صاحب «فقه اللذة» أكثر شعراء جيله تجريباً، حسب تعبير أحمد عبد المعطي حجازي في كتابه «أحفاد شوقي».
لاحقاً، راجع حلمي نفسه في كتابه «الحداثة أخت التسامح»، وكتب بحبّ عن الأجيال التي سبقته وكانت حركة «إضاءة» نقيضة لهم. رأى أنّ خلط السياسي بالشعري ليس عيباً، بل سمة أرادها؛ إذ لا يعني أن ينفصل الشعر الحداثي عن حياة مجتمعه ولا عن الخراب الذي يعيش فيه، ولا بد من المزاوجة جيداً بين الشعري والسياسي كي يعبّر الشعر عن همه السياسي والاجتماعي في إطار الفن الحداثي. حاول ألا تقتصر تجربته على الجانب الرومنطيقي ولا على الجانب الميتافيزيقي. وكان يسعى دوماً إلى التوفيق بين الفيزيقي والميتافيزيقي، بين اليومي والخالد، بين العيني والمجازي، وبين كل هذه المتناقضات جميعاً. كانت تجربته كلها خروج على ذاته قبل أن تكون خروجاً على الآخرين، حالما يكتشف أسلوباً، يسارع في البحث عن آخر معتبراً ذلك عمل الشعر. وربما لهذا لم يكن تعنيه غزارة الإنتاج لأنه قد يكتب مئة قصيدة وينشرها من أجل قصيدة واحدة. كان يقول: «أنا أكتب حياتي وعيني باستمرار على الشعر. أعتبر أنّ غزارتي ميزة وإن كان البعض يرى فيها بعض العيوب. لكن الميزة الكبرى أنني أحبّ الشعر والتجريب، وأكتب حياتي وتجاربي الكثيرة الغنية والخصبة التي بعضها شعري».
الرومانطيقي الثوري الذي عشق بنت جبيل
سيد محمود
القاهرة | قبل أسبوعين من وفاته، دعت الشاعرة الإماراتية المقيمة في مصر ميسون صقر مجموعة من الشعراء والنقاد لتكريم حلمي سالم. في ختام الحفلة التي قرأ فيها مقاطع من ديوانه المخطوط «حديقة الحيوان» ومن دوواينه القديمة، انتبه سالم لفكرة أن جميع الحاضرين هم أصغر منه سناً. رأى صاحب «الأبيض المتوسط» أن هذه الملاحظة لا تخلو من دلالة؛ إذ أنه الشاعر الوحيد الذي حظي بمباركة وتكريم الأجيال اللاحقة، التي رأته دائماً في صورة الشاعر المتمرد على أبناء جيله. أول من أمس، رحل «المتمرد»، وتناقل الشعراء والمثقفون المصريون خبر موته، متوقفين عند ابتسامته التي كانت هديةَ جميع من عرف سالم.
تلك الابتسامة رافقته حتى في أصعب اللحظات. قبل موته بأيام، وفي أمسية له في «حزب التجمع» ألقى فيها قصائد ديوانه المخطوط الآخر «معجزة التنفس»، قال إن أطباء المستشفى الذي كان يُعالج فيه من سرطان بالرئة وفشل كلوي حاد رفضوا السماح له بالخروج لأن حالته خطرة، غير أنه أصرّ على عدم سماع نصيحتهم، قائلاً إن «الشعر يشفي أفضل من ألف جلسة كيماوي»، ومشيراً إلى أنه سيعتبر نفسه لصاً وأنانياً لو مات على سريره الوثير في المستشفى، لأن «غيري مات مسحولاً في ميادين مصر».
يروي «معجزة التنفس» تجربة الشاعر مع المرض الذي يصفه بـ«الامتحان الملوّن» («ادخل امتحانك الملوّن كي تخرج أخاً للياسمين»)، ويوجز فيه تفاصيل حياته اليومية بأسلوب الشعري الذي يحوّل فيه اللحظات المعاشة إلى مادة شعرية يمكن تأملها أو السخرية منها.
بدأ صاحب «حبيبتي مزروعة في دماء الأرض» تجربته الشعرية بمعركة كبيرة، وأنهاها بمعركة أكبر. المعركة الأولى كانت مع الشاعر الراحل أمل دنقل، حيث كتب سالم مقالته الشهيرة «أدونيسيون ودنقليون» التي هاجم في جزء منها أمل دنقل، باعتباره «شاعر عصر محدّد». وكان جوهر الخلاف، بحسب ما توثّق الصحافية عبلة الرويني (زوجة دنقل)، ينصبّ في كون أمل يرى أن الشعر يأخذ ماهيته الأساسية من صلته بالجمهور لأن له دوراً سياسياً واجتماعياً ينبغي أن يكون ملموساً، لا أن يكون ملغزاً أو متعالياً على الجمهور. اللافت هنا، أن سالم نفسه عاد بعد عشرين عاماً من وفاة أمل دنقل إلى الاحتفاء بصاحب «لا تصالح» وإعداد مختارات من أشعاره.
لم يخجل حلمي سالم من مراجعة مقولاته حول صاحب «أوراق الغرفة 8»، ربما لأن شعر سالم نفسه لم ينجُ من تهمة التوجه إلى الجمهور، فقد كان شاعراً ملتزماً فيه سمة «الرومانطيقي الثوري»، وكان للهم الوطني مكانة في شعره. يمكن اعتبار الالتزام خطاً أساسياً في تجربة سالم، يوازي الخط الذي يمكن أن نسميه بالحداثة أو ما بعد الحداثة في تجربته، لاسيّما في «سراب التريكو» و«الثناء على الضعف». أما الخط الملتزم، فيتضح في دواوين «سيرة بيروت» و«الأبيض المتوسط» و«تحيات الحجر الكريم» (الذي تضمن قصائد عن الانتفاضة الفلسطينية)، ثم في ديوان «حمامة بنت جبيل» المكرس لتمجيد تجربة المقاومة في حرب تموز 2006. يمكن أيضاً ضمّ آخر دواوينه إلى هذا الخط، فـ «ارفع رأسك عالية» المكرس بالكامل لتجربة الثورة المصرية، هو ديوان تصحّ عليه الملاحطة التي أبداها الناقد جابر عصفور على شعر حلمي سالم بالكامل. يحكي عصفور عن تباين المستوى الابداعي في شعر سالم، حيث يهبط حيناً ويعلو أحياناً أخرى نظراً لكونه في الغالب «شعراً عفوياً» نتيجة الغزارة اللافتة في إنتاج صاحبه. لم يكن سالم يجد حرجاً أو عاراً في كتابة قصائد وطنية سياسية مباشرة في بعض الأحيان التي تقتضي ذلك إخلاصاً لما كان يسميه شعر «الضريبة العاجلة»، حتى لو كان ثمن تلك الضريبة الخروج من جنة الحداثيين، فالحداثة التي كان يؤمن بها هي حداثة التسامح، كما يشير الى ذلك صراحة عنوان أحد أبرز كتبه («الحداثة أخت التسامح»)، فهي ليست ديناً ولا شيكاً على بياض، وليست «روشيته» جامدة أبدية، كما كشف في أحد حواراته الصحافية.
المعركة الثانية التي خاضها صاحب «مدائح جلطة المخ»، كانت مع المتشددين دينياً الذين سعوا إلى تكفيره بسبب قصيدته «شرفة ليلى مراد» التي رأوا فيها «إساءة إلى الذات الإلهية». قاوم سالم الأصوليين بالشعر، ولم يتورط بكتابة بيان أو إطلاق تصريح صحفي، بل اكتفى بكتابة ديوانه «الشاعر والشيخ» الذي وضع المعركة برمتها موضع تأمل شعري. تلا الديوان كتاب توثيقي («محاكمة شرفة ليلى مراد») تضمّن كل ما نُشر عن الحادثة التي كادت أن تتسبّب في سحب «جائزة التفوق في الآداب» منه، وهي التي نالها عام 2006. في الكتاب، يتوقف الراحل أمام تجربته المريرة، محذراً من القراءات الحرفية لأي نص «لأنها تتصف بالتربص وبالبوليسية»، ومحذراً أيضاً من هيمنة التيارات الدينية على ما أسماه «دولة مدنية من حيث الشكل» فقط، حيث تحتوي هذه الدولة على محاكم تفتيش مزدوجة: سلطوية ودينية. وقد خشي حلمي في أيامه الأخيرة من زحف هذه المحاكم إلى المجال العام في مصر.
لا تختلف سيرة حلمي سالم مع لبنان عن سيرة الكثير من مجايليه من الشعراء والأدباء والسياسيين الذين أفرزتهم الحركة الطلابية المصرية في أوائل سبعينيات القرن الماضي. حين التحق بكلية الآداب في جامعة القاهرة ليدرس الصحافة، انخرط في أسرة مصر الطلابية، واندمج كلياً مع الشعارات التي كانت تندّد بتخاذل الرئيس السادات وبسياسات «اللا سلم واللا حرب». كانت القضية الفلسطينية على رأس أولويات هذا الجيل، بل في غالبية الاحيان كانت القضية الأولى. لذلك، لم يكن غريباً أن يخرج سالم للعمل في الصحافة الفلسطينيّة في بيروت. عاش في العاصمة اللبنانية التي تحتل مساحة كبيرة في وعيه الإنساني والشعري، عبر عنها في كتابه «الثقافة تحت الحصار» الذي يوثق لتجارب المثقفين المصريين والعرب الذين انخرطوا في صفوف المقاومة الفلسطينية في لبنان وعملوا معها وقاوموا الزحف الإسرائيلي على لبنان.
ويرجح الشاعر العماني سيف الرحبي في شهادة له عن حلمي سالم، أن الراحل لم يغادر بيروت إلا بعد الاجتياح الإسرائيلي لها عام 1982. هكذا، ذهب صاحب «يوجد هنا عميان» إلى عمّان في واحدة من مهامه الغراميّة المعهودة (كانت المرأة والشعر حلم خلاص جوهري في حياته). وهناك، في العاصمة الأردنية، بدل أحضان الحبيبة، تلقفته أحضان المخابرات الأردنيّة ورمته أياماً في السجن، قبل أن تقذفه لاحقاً إلى الحدود السورية. تمكن من العودة إلى القاهرة، ومنها إلى باريس حيث عمل في «دار الفكر» مع الكاتب اليساري طاهر عبد الحكيم، قبل أن يعود إلى العاصمة المصرية ليستقر هنا، ويعمل محرراً ثقافياً في صحيفة «الأهالي» ثم رئيساً لتحرير مجلة «أدب ونقد». لكن رغم هذا الترحال، لم تنقطع صلة حلمي سالم بلبنان، إذ تجلت في ديوان «سيرة بيروت» الذي ضمّ قصائدَ كتبها تحت الحصار. كما أنه تزوّج السيدة اللبنانية أمل بيضون، وهي من مدينة بنت جبيل التي كتب عنها سالم قصيدة مطوّلة تحت عنوان «حمامة على بنت جبيل» صدرت في مجموعة حملت الاسم نفسه عن «دار النهضة العربية» في بيروت. ويرى سالم أن بنت جبيل أيقونة المقاومة، لأنها مثّلت نموذجاً للمقاومة الأسطورية التي تذكر بباريس وستالينغراد تحت الحصار الألماني، وسائر المدن التي قدمت قصصاً بليغة في الصمود.
عاش حلمي سالم حياته على طريقته. حاول الجمع في شعره بين القروي والحداثي، بين الماركسية الملتزمة وشطحات الشاعر الصوفي. لم يكتب سيرته الذاتية، لكن المتأمل في شعره يجد فيه مرايا تلك السيرة التي امتزجت بكافة صور الغرام والاشتباك مع الحياة، كأنه سعى إلى أن يكتب أعماله بدم الحياة، وبلغة طفولية كانت قادرة على امتلاك العالم، بحسب بعض نقاده.
عن اليمني حلمي سالم
جمال جبران
صنعاء | كان حلمي سالم، (ما أقسى صيغة الماضي هذه!) مُحباً لليمن بشكل مثير لأكثر من سؤال. عندما كانت تأتيه دعوة لحضور مهرجان شعري في صنعاء وتتزامن مع دعوات أخرى في بلد خليجي آخر، كان يضع اصبعه موافقاً على السفر إلى اليمن. كانت المقارنة صعبة بين دعوات دول الخليج وبين الظروف التي سيكون فيها إن حلّ ضيفاً على اليمن.
والفارق كبير. متسع الرفاهية في فنادق الخليج حيث كل شيء حاضر في خدمتك هناك وبين السكن في فندق عادي في صنعاء، عادي جداً. هو الفارق بين كل الأشياء الحلوة التي سيمتلكها هناك وسوف يفقدها هنا، في هذا البلد الفقير. لا نحتاج هنا إلى بصيرة كبيرة كي ندرك مدى نقاوة هذا الشاعر الجميل. مدى انحيازه إلى الأماكن التي يجد فيها ذاته. الأماكن التي يشعر أنها تحبه ويشعر أنّها ملتصقة به.
هي ذاتها الأماكن التي يصنعها، ولا تصنعه. هي الثقة في الذات وفي الشعر الذي كان يفعله، وفوق ذلك: شعري سيبقى. كأنه يقول هذه العبارة من غير تبجح أو مزايدة.
كيف يمكن أن تتصرف مع شاعر يثق بذاته إلى هذا الحد! كنت أقول لنفسي قبل أن أعرفه بشكل شخصي في القاهرة. المعنى الشخصي هنا يُقصد به الحوار الشخصي. مقابلة الشخصية التي أتت كي تطلب منه شيئاً. في مكتبه الصغير. مكتب في حزب التجمع. ومنه يدير كل تلك الهالة التي تفعلها مجلة «أدب ونقد». سألته: أمن هذا المكان الصغير تفعلون «أدب ونقد»! كل هذا الأدب والنقد من هذا المكان المحاصر بالمكان؟ فقال: «نعم. من هنا».
وسألته أيضاً أو طلبت منه أن يأتي لي بعدد أنجزته «أدب ونقد» خصيصاً لـ «ثورة 25 يناير» وفيه قصيدة منشورة للشاعر اليمني عبد العزيز المقالح. كان هذا الأخير قد طلب مني جلب هذا العدد من القاهرة. وقتها كانت الصحف والمجلات المصرية محجوبة عن الوصول إلى اليمن أيام الثورة، أيام الحصار. ولهذا لم تصل المجلة الى بلادنا.
لكن أيضاً، كان العدد قد نفد من أسواق القاهرة وقت نزول العدد. نفد سريعاً لفرط ما كان يحتويه من توثيق لـ «ثورة 25 يناير»، لفرط حلاوة النصوص التي كان يحملها. ولذا كانت فقط نسخ خاصة بأرشيف المجلة. قال المشرف على هذا الأرشيف: خلصت النسخ من هذا العدد.
لكن حلمي سالم قال للمشرف على الأرشيف: هات نسخة لليمن. كأنّه يقول: هذه نسخة لليمن التي أحبها.
من على شرفة الشاعر الفارس المختلف الدمث المقاتل حلمي سالم
إبرهيم فرغلي
رحل الشاعر الجميل النبيل حلمي سالم (1951-2012)، وهو الخبر الذي تلقيته بدهشة وأسى على رغم مرضه الذي كنت أتابعه من بعيد على أمل يشبه اليقين بأنه سينجو منه يوما. لكني لن أرثيه، على رغبته، هو النافر أبداً من المراثي، وأكتفي باستدعاء ما يخصني منه شاعرا وإنسانا نبيلا وصديقا حنونا، بتعبير الشاعرة الصديقة إيمان مرسال. نعم لن أرثيه بالتأكيد، وهو صاحب الوجه المنحوت الجميل الذي يغبطني ويطربني أن يرى البعض في ملامح وجهي ما يشبهه.
بدأتُ التعرف إلى شعر حلمي سالم من مجلة “أدب ونقد” التي كان يدير تحريرها في نهاية الثمانينات من القرن الماضي، ووقعتُ على الكثير من مقالاته التي كتبها آنذاك، ففتحت لي الباب للتعرف إلى القصيدة الحديثة التي كان جيل السبعينات الذي كان أحد رموزه يمثل تيارا كاملا لافتا لجماليات هذه القصيدة الجديدة. وكنت وعودة الى أيام الجامعة القريبة آنذاك، قد تعرفت إلى كل من صلاح عبد الصبور وأمل دنقل وقصائد الأخير، تحديداً التي رأيتُ فيها شعرا مختلفا وروحا شعرية تتمتع بالفرادة. لكنني بمرور الوقت وقراءة أساطين الحداثة الشعرية العرب، والغربيين لاحقا، تغيرت ذائقتي. صحيح أنني لم استسغ الكثير من قصائد كنت أرى فيها الصناعة والذهنية تغلبان الشعر، لكن ذلك لم ينسحب على ثالوث حلمي سالم وعبد المنعم رمضان وحسن طلب الذين رأيت في قصائدهم جماليات شعرية مختلفة، ولكل منهم بصمة خاصة تميز القصيدة التي يكتبون، وتسبغ عليها روحا خاصة أينما قُرأت أو سُمعت، من دون أن يدوّن عليها اسم كاتبها.
في مطلع التسعينات حين انتقلتُ الى القاهرة وقررت أن أرسل أولى قصصي للنشر إلى “أدب ونقد”، أذكر أنها ظلّت حبيسة الأدراج لأكثر من عام، فقررتُ الذهاب الى المقر القديم لجريدة “الأهالي” ومجلة “أدب ونقد” في شارع عبد الخالق ثروت بوسط القاهرة، فوجدت هناك كلاًّ من حلمي سالم وفريدة النقاش والشاعر الراحل عفيفي مطر، وفوجئت حين ذكرت اسم القصة بحماسة كل من حلمي وفريدة للقصة وتأكيدهما أنها ستنشر قريباً.
كانت تلك الزيارة منطلقاً لزيارات تكررت عديدا ولاحقا، وغالبا ما كنت ألتقي فيها حلمي الذي يستقبلني بالود نفسه، وبالروح الودود المشجعة والإنسانية.
استمرت زياراتي لحلمي، التي كنت عادة ما أنصت له فيها غالبا بعد أن يسألني أسئلة عدة في كل لقاء عن أحوالي وعملي والكتابة.
حين قتلني اليأس أو كاد في العام 1994 وقررت السفر إلى مسقط في عمان، بدون أي خطط مسبقة، ذهبتُ إلى حلمي وفريدة النقاش في المجلة، عقب انتقالها إلى موقعها الراهن خلف ميدان طلعت حرب، لأودعهما، فتلقيتُ من فريدة النقاش احتضانا اموميا ورهافة إحساس بالغين، وإعلانا لحرصها التأكيد أن تكون رحلة مسقط سريعة، كما تلقيتُ من حلمي إضافة إلى تشجيعه، جانبه الحنون الذي سيصبح لاحقا سمة تميزه في علاقته بكل صديق. إذ أعطاني رسالة كتبها إلى صديقه سيف الرحبي الذي لم أكن أعرفه آنذاك، كانت بمثابة كلمة السر التي فتحت قلب الشاعر العماني لي تماما، وجعلت سيرة حلمي مشتركا بيننا للقاءات جمعت بيننا في بداية تعارفنا في مسقط، بينها قصيدة كان كتبها حلمي عن سيف لا أزال أذكر من بين أبياتها: “جسد في جسد على أرواح مسكونة بغضب الصحراء/ أغلق ابن المحار منازل الخطوة الاولى/ وراح يجوب نفسه قارة وراء قارة وهو يهتف: دمرونا يا أخي”.
في مسقط، كما في سنوات التسعينات كلها، كانت دواوين حلمي سالم في صحبتي، اقرأها وأعيد قراءتها متيّما على نحو ما. خصوصا “البائية” و”الحائي و”فقه اللذة”، ولاحقا أحببتُ أيضا “سراب التريكو”، و”يوجد هنا عميان”. كنت أحب في تجربة حلمي، قدرته على تطويع التفاصيل واليومي والعادي أحيانا للشعر، مفجرا لغة خاصة ومفردات خلقت لقصيدته صوتا خاصا، وإصراراً على طرق ابواب التجريب والحداثة من دون كلل.
هو لم يكن أحد فرسان القصيدة الحديثة لكونه، فقط، أحد ابرز شعراء جيله ممن أسسوا لجمالية شعرية جديدة ثارت على التفعيلة وسواها من التقاليد الأسلوبية مما استقر في شعر الجيل السابق عليهم، أو لكونه المجرّب الذي حاول أن يؤسس لقصيدة تخرج شعريتها من معناها الداخلي، بعيدا من الجرس والقافية، وأن تخلق موسيقاها وإيقاعها الداخليين من شعريتها الباطنية، بل ولأنه استخدم النقد والفكر والتنظير الأدبي أيضا لتأكيد هذه الشعرية الجديدة في مناسبات ومقالات عديدة، لعلها استهلكت زمنه الخلاّق، خصوصا في فترات التوقف الشعري نهاية التسعينات.
اعتبر حلمي سالم الشعر وسيلة لمقاومة الفاشية الفكرية في اشكالها كافة، وهذا ما أُخذ عليه بوصفه استخداما ايديولوجيا للشعر، خصوصا في القصيدة التي أثارت جدلا واسعا، “شرفة ليلى مراد”، وتسببت في حكم قضائي بغلق مجلة “ابداع” القاهرية في سابقة أولى من نوعها.
كتب حلمي سالم مقالا بديعا في “الحياة” عنوانه “يتبرأون من القصيدة ويمرون فوق جثة الشاعر”، في إشارة إلى موقف مجلة “إبداع” التي تخاذلت في إصدارها الأول بعد توقف في العام 2007 حين سارعت لتصادر بنفسها العدد بدلا من الدفاع عن القصيدة والشاعر وحرية الإبداع. لكنه وفي نبله المعهود، أكد رفضه الكامل غلق أي منبر إبداعي، مشددا على أن الجهة التي يخول لها السؤال عن الشعر والأدب هي أهل الذكر الأدبي، أي أهل التخصص، لا الشيوخ ولا فقهاء الدين.
الحقيقة أن موقف حلمي سالم من حرية التعبير كان صلبا باستمرار، وأشهد اني خضت معه عبر مشاركتي في ملفات المصادرات في “أدب ونقد”، عددا من المعارك التي تعلمتُ منها كيفية الإصرار على الدفاع عن حرية الرأي والتعبير إلى النهاية ورفض وصاية الفاشيين اياً كانوا.
لم يكن حلمي سالم مجرد خلاّق كبير مختلف، بل ومثقف صاحب موقف ورؤية، ينتصر للحرية غير منقوصة، يراجع نفسه باستمرار كاشفاً عن سماحة المفكرين الذين يعيدون تأمل أفكارهم ومراجعتها بين الفينة والأخرى، وهذا ما تجلى في مراجعته الموقف من جيل الشعراء الذين سبقوا جيله، وكذلك في تأبينه لأمل دنقل قائلا: “ذلك أنني في سنوات السبعينات كنت، مع كثير من أبناء جيلي، أري أن شعر دنقل شعر مباشر زاعق لا يعيش، ومع اتساع رؤيتنا الشعرية في سنوات الثمانينات تعدل هذا الرأي المجحف، إذ تكشف لنا ان الشعر الواضح ذا الموقف السياسي الجلي ليس شرا في كل حال، وان شعر دنقل لم يكن كله مباشرا، وأنه يقيم تضافرا مركبا بين الموقف الفكري والتشكيل الجمالي، وان قصائده في سنواته الأخيرة (ديوان: أوراق الغرفة رقم8) بلغت من الصفاء الفني والإنساني مبلغا رفيعا، وأن الشعر عديد وكثير وليس له نبع واحد وحيد أوحد”.
آثر حلمي سلمي ألا يرثي امل دنقل شعرا لخوفه من انتشار مرض السرطان، وذكر ذلك في قصيدة من قصائده، ومع ذلك فلا ينجو حذر من قدر، وقد أصاب المرض رئتيه وانتصر على رغم مقاومة حلمي التي جعلته يظهر لأصدقائه حتى قبل أيام من رحيله، ولكنه مع الأسف كان وداعا لهم وليس قتالا للمرض.
سيظل حلمي سالم عندي، وربما عند كثر آخرين، الشاعر الكبير، والصديق الحنون، المتواضع بدماثة، المبتسم تلك الابتسامة التي لن تزول من على وجهه أبدا، والمثقف المقاتل كل أعداء الحرية والفكر والوعي البشري الحر. رحمه الله.
حلمي سالم.. الغناء في مواجهة العالم
اسامة عرابي
عاش حلمي سالم للشعر وبالشعر.. بإدراك عميق للطبيعة التاريخية لوجوده ولذاته.. متخذًا من الموت الذي واجهه معيار تعامله مع العالم تعامل الند للند.. وكأننا حيال شكل من أشكال الواقعية الجديدة لديها إيمان بإمكانية الوصول إلى الحقيقة وما يرتبط بها من الاعتبارات السياسية والإنسانية.
لذلك كثيرًا ما يذكرني حلمي سالم بشاعرنا الكبير بشار بن برد حين طلب من رسَّام بالبصرة يدعى حمدان الخرَّاط أن يرسُم له على جامٍ صور طير تطير، فرسمه وجاءه به، فسأله بشار: ماذا في هذه الجام؟ فقال: صور طير تطير؟ فقال له: ينبغي أن تتخذ فوق هذه الطير طيرًا من الجوارح كأنه يريد صيدها، فإنه كان أحسن.
وعلى هذا النحو، أدرك أن المعنى يعيش بمنطق الحفاظ على الوعد، وأن القيم المتضمنة في الأعمال الفنية وطرائق الحياة المختلفة غير متكافئة، وهي في صراع دائم يستند إلى الإحساس بالتاريخ، والحضور الدائم الذي تلاشت فيه ذاكرة التقاليد.
من هنا، زاوج حلمي سالم في رحلته الشعرية بين الوزن والإيقاع.. بين الغناء والنثر.. بين تخيله الإبداعي والواقع الاجتماعي الثقافي المعيش تاريخيًّا.. فجمع في إهابه بين الزمني واللازمني.. بين الثوري الرومانسي الحالم.. والشاعر المهموم بخلخلة لغته والتماعها بضوء غير منظور، مستقصيًا شعاب النفس الإنسانية والذات الكونية، متمردًا على الانسجام والنظام والتوافق والاتزان الشعري، وفي أعماقه أزمة الضمير الحديث. ولم يكن حلمي سالم ليعبر في ذلك عن حيرة وجودية، ولا عن لا إرادة ضاغطة، بل ظل يبحث طوال الوقت عن موقع تتقاطع فيه خطى الحياة. عندئذ يصبح حضورنا الجماعي الواعي في التاريخ، اكتشافًا لعالم يكون فيه الشيء بقدر ما لا يكون، عالم هو قلب للصورة الأفلاطونية عن الوجود المعقول الذي يتجاوز المظاهر الخارجية الخادعة؛ فيمسي بذلك المرء وثيق الصلة بأعماقه عند مواجهته لنفسه، وقادرًا على أن يرى علاقة اللامعنى بالمعنى.
سافر حلمي سالم إلى بيروت في مطلع الثمانينيات لمساندة أشقائنا الفلسطينيين الذين يتعرضون لمخاطر التصفية جرَّاء التسويات السياسية المفروضة عنوة واقتدارًا على المنطقة العربية من قِبل أعدائنا التاريخيين، فحمل معه سؤال المصير العربي الذي جعل من الواقع وتعقيداته بنية دينامية متعددة الرقائق والطبقات، ألهم به شِعرية تمرد واحتجاج، فكتب «سيرة بيروت» و«حمامة على بنت جبيل» و«صيف لبنان المشتعل» و«حمامة على الجنوب» ثم «تحيات الحجر الكريم» عن الانتفاضة الفلسطينية التي قامت في وجه التخاذل الرسمي العربي، وانسداد الآفاق، وفشل نهج اللاعنف والمفاوضات والحلول الدبلوماسية. لذلك ثمَّن حلمي سالم انتصار حزب الله في حرب يوليو «تموز» 2006، ورأى في السيد حسن نصرالله ورفاقه يد الله التي تبطش، وتدمر أسطورة إسرائيل. وأدى انفتاحه (حلمي) على التجارب التاريخية والإنسانية العالمية في حقلي الأدب والسياسة إلى أن يوحد في منظوره العام بين الوطني والأممي.
وهذا الفهم ذاته هو الذي قاده إلى إصدار مجلة «قزح قزح» ذات يوم؛ ليحقق حلمه بالتجذر في منبر ديموقراطي؛ يؤمن بالتعدد والتنوع والتمايز؛ إذ داخل الوجود الفردي، يتحقق الوجود الإنساني العام. وهو، لعمري، فهم صحيح لماهية الثقافة، يعكس توجهًا طليعيًّا لمقاربة قضاياها وإشكالياتها ومستويات التفاعل معها، مستعيدًا قلق السؤال صوب سيرورة للحداثة والتطور، تؤنسن العالم، وتعقلن علاقاته السياسية والفكرية، وتغني حياتنا بزخم أدبي جديد.
من أجل ذلك؛ كتب حلمي سالم «الغرام المسلح» ليجيب عن سؤالين اثنين؛ أحدهما من الداخل، من صميم تاريخه، والآخر من التطور التاريخي العالمي وعلاقات القوة الآنية والبعيدة، فواجه بونابرت، وحاور هوجو، وطه حسين، وابن رشد، وأبا نؤاس، وشيخ العارفين، والسُّهروردي، والحلاج، والمتنبي، والتوحيدي، والمعري، والطهطاوي، وحجازي؛ بعد أن اكتشف أن هوياتنا وتواريخنا مؤسسة إلى حد بعيد على الأساطير؛ فأدرك حيوية التنقيب عن الإمكانات الإبداعية وأسسها الثقافية المتنوعة؛ إذ إن ديناميات استكشاف العالم، هي في الوقت ذاته ديناميات استكشاف الجسد والكيان الإنسانييْن، ومن ثم دعانا إلى أن نكون أكثر وعيًا بتشكك، وأشد نسبية بإطلاق. ولم ينِ يواجه «ثقافة كاتم الصوت» و«التصويب على الدماغ» بـ«الحداثة أخت التسامح»؛ بوصفها موقف الروح من قضية المعرفة، وموقف العقل النقدي المتحرر من مواضعات عالمنا الجائرة، في ظل مجتمع مدني تنتظم علاقاته صيغة تعاقدية تنهض على المواطنة والاعتراف المتبادل، بمنأى عن القسر والاستتباع.
من هنا جاء التزام حلمي سالم اختبارًا لإنسانية الإنسان والحياة، فشاعت في شعره غنائية داخلية عميقة، مضفورة بنظر صافٍ؛ يحرِّر المرء من السجن الداخلي المفروض عليه؛ فيشتعل بخمر الرغبات، مغتسلا بماء طفولته. ألست القائل يا سيدي في قصيدة «شيخ العارفين»:«سأفتح صندوقًا، وأستف مقتنياتي،/ دير للرهبان، وأمم من دمع، بيت للأوثان،/ النظَّام، ومصحف قرآن، قبر دمشق، السبَّاحون،/سأقفز من حلب إلى طلاب 68؛/لأرى صوري فوق صدور الشابات،/ وفوق رؤوس الهيبيين،/وفي أيدي أنصار تروتسكي،/ فيما الصف الأول: شهداء الوقفة، الشكَّاكون…
أسامة عرابي
كاتب وناقد من مصر
جيل الأمنيات البسيطة يرثي حلمي سالم
كتب: القاهرة – محمد الصادق
رثى «جيل الأمنيات البسيطة» من الأدباء والشعراء في مصر الشاعر حلمي سالم الذي أغلق عينيه الواسعتين مستسلماً للرقاد الأخير بعد نفاد مقاومته المرض اللعين، إذ غيبه الموت عن عمر يناهز 61 عاماً إثر صراع مع السرطان الذي أصاب رئته قبل عام مضى.
ظل الشاعر الراحل حلمي سالم يعاند المرض ولم يستسلم لبياض الأسرة في المستشفى الذي خصصه المجلس الأعلى للقوات المسلحة لعلاجه، بل راح يقرض الشعر ويجوب المنتديات والندوات حتى الرمق الأخير. قبل أسبوع من رحيله، أحيا أمسية شعرية، ألقى خلالها قصائد من ديوانه الأخير «معجزة التنفس» حيث سجل قراءته لأزمته مع المرض، ورصد تحولات الثورة المصرية وتعرضها لأزمة «ورم سياسي»…
ينتمي الشاعر إلى جيل السبعينيات الذي حمل لواء القصيدة الحداثية ونشرها في ربوع العالم العربي متدثراً بذاته وبأمنياته البسيطة التي لا تشبه أمنيات وأحلام جيل الستينيات الكبرى فاستغرقته الهموم الحياتية المغلفة بالحس الإنساني والوطني في آن، وبرز ذلك في النتاج الشعري لمجموعة «إضاءة 77» التي شكلها الراحل مع رفاقه حسن طلب ورفعت سلام وجمال القصاص وآخرين وكانت تميز ذلك الجيل.
اقترنت مسيرة سالم الحياتية والشعرية بالصراع والمقاومة، فقد كان ضمن طلائع الحركة الطلابية الناشطة في السبعينيات ضد سياسة الانفتاح التي انتهجها السادات، ثم غادر القاهرة إلى بيروت حيث عايش الحرب الأهلية والاحتلال الإسرائيلي في عام 1982.
كان ديوان سالم الأول «حبيبتي مزروعة في دماء الأرض»، مستلهما مما عايشه، حيث حفل بالصراع والمقاومة، مدافعاً عن أحلام الناس البسيطة، واستمر على هذه الطريق حتى ديوانه قبل الأخير «ارفع رأسك عالية « الذي يصور روح الثورة المصرية، مروراً بديوانه الأشهر الذي أثار جدلاً كبيراً في الأوساط الثقافية «شرفة ليلى مراد»، والذي ضمن قصيدة بالعنوان نفسه فجر نشرها عام 2008 جدلاً شديداً مع الجماعات المتشددة، وبادر الداعية الشيخ يوسف البدري برفع دعوى قضائية ضد الشاعر بسببها.
كذلك اتهم مجمع البحوث الإسلامية القصيدة بأنها تسيء إلى الذات الإلهية، بينما رأى مثقفون أن الموقف من القصيدة بمثابة «حملة تكفيرية جديدة».
في رده على اتهام «شرفة ليلى مراد» بالإساءة إلى الذات الإلهية، قال سالم: «انتقدت في القصيدة تواكل المسلمين على الله، وقعودهم خاملين، وهذا معنى ديني ذكر في القرآن الكريم، حيث قال تعالى «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم»… فالقصيدة قالت هذا المعنى بصورة شعرية بسيطة، لم يعتد عليها كل الذين يقرأون الأدب قراءة حرفية»، نافياً الاتهام بالإساءة إلى الذات الإلهية. وقد وثق الشاعر الراحل هذه الأزمة تفصيلاً في كتاب حمل عنوان «محاكمة شرفة ليلى مراد».
رثاء
ما إن شاع خبر رحيل حلمي سالم حتى بادر المثقفون برثاء الراحل وذرف أدباء وكتاب ومبدعون كثر دمع الكلمات على مواقع إلكترونية عدة وعلى حسابهم الشخصي في مواقع التواصل الاجتماعي. رثاه الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي قائلاً: «كان صوتاً شعرياً فريداً في زمن اللخبطة الفكرية والعك العقائدي». وتابع على «تويتر»: «يهدم شعر حلمي سالم الحدود كافة والجدران التي يرعاها الكهان ليصنع معجزته الخاصة بلغته»، مشيراً إلى أن سالم تحمل عقاب تجربته التي تتسم بالمغامرة والالتزام الوطني والقومي. في الوقت نفسه، طلب الأبنودي لسالم الرحمة من الله، قائلاً: «عدد الشعراء من حولنا ليس كبيراً حتى نفقد ذلك الصوت المتميز بين شعراء جيله».
ذكر رئيس «بيت الشعر» الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي أن حلمي سالم لم يكن مجرد شاعر حقيقي، بل كان مثقفاً طبيعياً ومناضلاً في سبيل ما يؤمن به وما يعتقد أنه واجبه الأخلاقي تجاه الثقافة ومصر والمصريين. وأضاف: «سيبقى سالم بشعره وسلوكه الأخلاقي سواء في تعامله مع الشعر أو في تعامله في قضايا مصر».
وأعرب الأديب فؤاد قنديل عن حزنه الشديد قائلاً: «لطمني بشدة نبأ رحيل الشاعر الكبير حلمي سالم أحد أبرز شعراء مصر المعاصرين. اللهم لا اعتراض، لكن الواضح أن الموت يتربص بالدرر وبالنجوم الزاهرة من أبناء مصر، ففي غضون أسابيع قليلة فقدنا عدداً من الأدباء والصحافيين المرموقين».
وأضاف قنديل أن سالم كان أيقونة متفردة ومصقولة ألقت بأشعتها على مروج البلاد وقراها ومدنها وسماواتها، وأضاف في تصريحات لـ «الجريدة» أن الراحل يعد من أصحاب المواهب العالية والحضور الحي المؤثر والعطاء النبيل والإبداع الجميل، مشيراً إلى أنه بدأ التجربة اللعينة مع المرض منذ سنوات وأخفاها وحاول التصرف فيها سراً، لكن الأحمال ثقلت عليه وكان لا بد من العلاج الذي بدأ متأخراً نسبياً. في الختام قال قنديل: «لن تفلح الدموع في تهدئة القلوب المكلومة والأرواح الراجفة، ولن تقدر الخطب والكلمات على أن تكفكف الدمع المراق على جبينه الحبيب ودواوينه المتألقة المتورطة مع عالمين، عالم الإبداع واللغة والجمال وعالم الحياة المتشابكة والمعقدة الغارقة في مادياتها المقيتة، ولا نملك إلا أن نستجير بمن أصدر الأمر وبعث بقضائه المكتوب منذ الأزل، لا نملك إلا التوجه إلى الله والدعاء له كي يشمله بواسع الرحمة والمغفرة وأن يلهم آله وقبيلة الكتاب والقراء الصبر والسلوان».
رئيس «اتحاد الكتاب» الكاتب محمد سلماوي قال من جانبه إن الشاعر الراحل أحد كبار شعراء جيله، وبصمته واضحة في الشعر العربي الحديث، ومكانته الشعرية لا ينازعه فيها أحد. وأشار إلى أن أشعار سالم وإسهاماته الصحافية والأدبية ستظل باقية معنا، بينما افتقدنا برحيله الإنسان صاحب الخلق الكريم والمعشر الجميل والنبل الإنساني النادر في عالم اليوم.
وأضاف سلماوي أن علينا أن نحتفي بشعر سالم، فتلك وصية للتصدي لمن يريدون إخراس الشعراء وتكميم أفواه الكتاب وخنق جميع الفنون والآداب.
في حديث مع «الجريدة»، ذكر الكاتب والروائي أحمد صبري أن حلمي سالم أحد شعراء جيل السبعينيات البارزين، خرج من عباءة أمل دنقل وحجازي والأبنودي، وقرن نبوغه الشعري بنوع من الالتزام السياسي والاجتماعي يعلو عن كونه شاعراً كبيراً، لكنه مناضل أيضاً. خسارتنا له في مثل هذه الأيام لا تعوض».
نبذة
ولد حلمي سالم الشاعر في محافظة المنوفية في مصر، حصل على ليسانس الصحافة في كلية الآداب في جامعة القاهرة. كان صحافياً في جريدة «الأهالي» التي تصدر عن حزب «التجمع الوطني التقدمي المصري»، وشغل رئاسة تحرير مجلة «أدب ونقد» الفكرية الثقافية المصرية، وحصل على جائزة التفوق في الآداب للعام 2006 عن مجمل أعماله الأدبية.
«معجزة التنفس» القصيدة التي ألقاها قبل رحيله
«أجنحة»
هذا هو الفص الذي يحمل تكاثر الخلايا
ويوزعها على المعوزين
قلت للخلايا ألهاكم التكاثر
فأطلت من الغبشة وجوه آبائي
عبد المطلب.. منعم .. موافي.. الشايب.. اليماني
يفردون أجنحة ملونة
لكي أطير بها إلى ماسبيرو
حيث دبابة مرت على بطن الفتى
وقت أن لمع الصليب فوق صدره
سرى المخدر الكلي فصرت
في محيط مجلس الوزراء
قالوا ماذا ترى؟
قلت: أرى جنودا هوامين على ذؤابات غابات
لهم زعانف وحشية
تضرب العابرين على أكبادهم
وهي عليلة
سرى مشرط في الضلوع
فصرت قدام البرلمان
قالوا ماذا ترى؟
قلت أرى القدم الحديدية دواسة
على حديقة النباتات.
حوار غير منشور مع الشاعر المصري الراحل حلمي سالم: أقصى ما أريده أن أكون شاعرا فقط!
حاوره رشيد يحياوي: التقيت الشاعر الراحل عنا وعن القصيدة في نهاية سنة 2001 بالقاهرة. قبل سفري للقاهرة كان الراحل على رأس من فكرت في لقائهم، لأنه فضلا عن دوره الريادي في تجديد القصيدة المصرية، فإن اشتغاله في مجلة ‘أدب ونقد’ مكنه من متابعة المشهد الشعري والثقافي بمصر والوطن العربي، وبالتالي كان يمثل لي خير من يمكن أن أسترشد بهم في قاهرة ثقافية كبرى.
التقيت الراحل بعد ترتيبات تخلى في ضوئها عن بعض التزاماته في المجلس الأعلى للثقافة، وقبل بفرح تخصيص جزء من وقته لمجالستي كي نتحدث عن الشعر. لكنه كان يخفي أيضا عتابا لي لم يحطني علما به في اتصالاتنا الهاتفية. عاتبني عند جلستنا بلطف ولباقة رجل عارف بأخلاق الحوار. قال مذكرا بدراسة لي حول أجيال الشعر المصري نشرها قبل مدة في مجلة ‘أدب ونقد’ التي يشرف عليها، بأني لم أكن موضوعيا في حقه، وأنه كان علي أن أتصل به على الأقل كي يضعني في الصورة الصحيحة. ثم أضاف مؤكدا أنه رغم اختلافه معي في ما كتبته في تلك الدراسة، فإنه سمح بنشرها، لأنه دأب أن لا يجعل من موقعه في المجلة رقيبا، لا يسمح بمرور سوى بما يرضيه، لأنه، حسب قوله، يِؤمن بالتعدد في الرأي وبدور الإعلام الثقافي في ترسيخ قيم الحوار والاختلاف البناء.
هذا الموقف زاد من قيمة الراحل عندي، بالنظر إلى ما هو معروف عن بعض المشرفين على المنابر الإعلامية من حيث توظيفها لأغراض لا علاقة لها بالنزاهة الفكرية والمواقف المبدئية والمحتوى المستحق للنشر. لقد تقبل الراحل أيضا رأيي في تلك الجلسة وظل ثابتا على ضرورة إغناء باب الحوار بتعميق التواصل بين المبدعين في الأقطار العربية.
وفي حديثنا بدا الراحل متحمسا للدفاع عن جدوى الشعر. إنه ككثير من شعراء مصر ظل يعد الشعر جزءا من كيانه ومبررا لوجوده، ليس الثقافي فحسب بل اليومي أيضا. ليس لأجل إصلاح الكون ولكن للتصالح مع الذات. في معرض حديثي معه قال بأن أقصى ما يريده أن يكون شاعرا، شاعرا فقط. وكان رأيه هذا بداية لحوارنا التالي:
* بما أنك تريد أن تكون شاعرا فقط، فهل ترى الكينونة الشعرية مازالت تعني أشياء كثيرة لك في هذا المكان والآن بالذات؟
* في رأيي الشخصي هناك قيمة ومعنى كبيران لأن أكون شاعرا الآن، أمس وغدا، هنا وهناك. في أي مكان وفي اللامكان. ذلك يرضيني ويمتعني ويجعلني أشعر أني شخص لا بأس به. هذه هي القيمة الكبرى والأولى للشعر عندي. أما أثر ذلك، أو فائدته أو جدواه في بلدي أو في البلاد العربية أو في الكون كله، ففي مستوى تال من الاهتمام. أنا أسعد وأفرح حين أكتب. لأن كتابتي للشعر تصلحني وتصالحني مع نفسي. لقد صار كثير من الزملاء والمبدعين وخاصة في الأجيال الجديدة، ينزعون الهالة عن الشعر وينزعون عنه التميز ولا يرونه ضروريا. لكني مازلت للأسف ‘دقة قديمة’ في هذا الشأن. إذ مازلت أُجِلُّ الشعر وأراه أجلّ الفنون. ولا أحب أن أكون – إذا كان لا بد أن أكون فنانا- روائيا أو مسرحيا أو ممثلا أو موسيقيا أو تشكيليا، بل شاعرا حتى لو كنت شاعرا ضعيفا. إذ لماذا نشك في جدوى الشعر وحده؟ ألا نشك في جدوى الفلسفة اليوم، وفي جدوى الثورة والإيمان والصدق والأمانة، وفي جدوى العمل؟ لقد اضطربت الحياة وطاول اقترابها كل منشط إنساني ماعدا السرقة والكذب والقتل والاغتصاب. نحن طبعا في مجتمع يعادي الشعر، وفي زمن لم يعد فيه الشاعر درة قبيلته. لكن الشعر والفن كله يظل مع ذلك هو الأمل الذي يقلل من قبح الحياة. لقد كنت في بدايتي أهتم بالأثر المجتمعي والتغييري للشعر. لكني الآن أهتم بأثر هذا الشعر – شعري وشعر غيري – علي. أما تغيير المجتمع وإصلاح الكون فأمر مرجأ سيأتيه يوم لا ريب فيه.
* أنت من الشعراء الذين حلقت بهم أحلام السبعينات عاليا، لكن التسعينات وقبلها الثمانينات حولت أحلامكم الشعرية إلى كوابيس، هل لديك هذا الإحساس؟
* لا أعتقد أن أحلامنا تحولت إلى كوابيس. لم يحولها أحد كذلك، لا جيل ولا إحباطات مجتمع ولا تغير ظروف، فالأحلام الحقيقية لا تتحول إلى كوابيس أبدا. وأنا لا أنظر إلى الأمر باعتباره أدراجا أو صناديق جيلية مصفوفة فوق بعضها. ففي الفن تتداخل الأجيال دائما وتتواصل وتتقاطع ويصب بعضها في بعض. ولذلك لم أعد أحب في السنوات الأخيرة مصطلح جيل، وأفضله بمصطلح حركة. لأن الأول يؤطر الشعراء في أقفاص مغلقة أو في خيمة كبيرة زائفة يختلط فيها الحابل بالنابل والسليم بالمعطوب، بينما المصطلح الثاني يعني الاتفاق بين الشعراء في ملامح فنية ورؤى جمالية وفكرية تخترق العمر والجيل، بحيث يمكن أن تشمل شعراء من أجيال مختلفة. الجيل مفهوم أفقي ساكن بينما الحركة مفهوم عمودي.
* أسألك مع ذلك عن الأحلام القديمة، هل فعلا تحققت على حد ما يوحي به كلامك؟
* أزعم أن بعض أحلامنا تحقق، وبعضها لم يتحقق لأنه قيد التحقق، إذ مازلنا نعمل ولم نمت أو نعتزل. فالأحلام لا تتحقق كلها، وربما لا تتحقق أبدا. وما لم يتحقق لم يكن بسبب جيل التسعينات أو غيره، ولكنه راجع لسبب بسيط، هو أن الحلم دائما أكبر من تحققه. أما جيل التسعينات فلم يمثل بالنسبة إلينا كابوسا، بل امتدادا لنا.
* هذا الامتداد الذي أشرت إليه قد يتجلى في علاقاتك الشخصية بالشعراء الجدد، إذ من المعروف عنك أنك قريب من الأجيال الجديدة، وهناك من يعتبر هذا تقربا منهم لا قربا.
* أقول في البداية بأن هذا ليس عيبا بل فضيلة. أما الحقيقة فهي أن الأمر معكوس، لأني أظن أن جزءا كبيرا من عمل التسعينات تقرب من عملي. أعني أنه استكمال أو مضاهاة أو امتداد أو ترسم لبعض لا كل ما وجد في شعري من خيوط مبكرة. ومن يراجع إنتاجي المبكر يجد إرهاصات عديدة من ملامح التسعينات، ولعلي أذكر بديوان ‘دهاليزي والصيف ذو الوطء’، المكتوب سنة 1977، وببعض قصائد ‘الأبيض المتوسط’ و’سيرة بيروت’، فضلا عن إنتاجي منذ منتصف الثمانينات. وعلى أية حال، من الطبيعي أن تتقارب التجارب المتقاربة أصلا، فلا فضل في ذلك لأحد على أحد. ومن الطبيعي أيضا أن تتواصل الخيوط المتشابهة. كما أنني وبصرف النظر عن التوافق والاختلاف، ممن يؤمنون بأن الشعر عديد وكثير ومتنوع وليس له باب واحد. ولذلك فإني لم أعتبر أبدا أن شعراء التسعينات خصومي، أو أن شعرهم خصم لي. إني أحبهم ويحبونني، وهذا من فضل الله.
* تحدثت بصيغة الجمع حين أكدت أنكم مازلتم تعملون ولم تموتوا أو تعتزلوا، هل هذا ينطبق عليك وحدك أم على زملائك القدماء في الشعر أيضا، إذ أن عددا من هؤلاء يبدو أنه وإن لم يعتزل كتابة الشعر، فقد اعتزل التجديد؟
** ينطبق طبعا حتى على بعض زملائي. فعدد منهم مازال يضيف ويجدد. وكنت أقصد بالعمل والاستمرار الإضافة النوعية لا مجرد الاستمرار الكمي والإضافة الكمية. فنحن نعلم أن كل جيل أو حركة يصفي كثرته في عدد محدود من المميزين الذين قد لا يتجاوزون عدد أصابع اليد الواحدة. وهذا حدث مع كل جيل ويحدث معنا. هذه المجموعة القليلة من أبناء جيلي هي التي أظن أنها ما تزال تواصل العمل بإضافات نوعية. ودعني بعد هذا أتحفظ على كلمة القدماء في سؤالك. لأن جيل الستينات في القصة العربية والمصرية مثلا مازال بعضه ينتج إنتاجا مميزا متوهجا ولم يصبح في ذمة التاريخ بعد، فما بالك وبعضنا صاح ومستيقظ. هذا لا يمنع من أن كثيرا من أبناء جيلي قد ظلوا في ‘محلك سر’، أي يراوحون في مكانهم بلا تقدم، أو تقدموا ببطء شديد أو تكلسوا. لكن المقياس في نظري ليس الكثرة بل العدد المحدود من المميزين الذي يفرزه كل جيل.
* انتقالك لقصيدة النثر، هل يمثل الأفق الأكثر رحابة عندك؟
** بداية، ليست قصيدة النثر في ذاتها أفضل من القصيدة السابقة لها لمجرد كونها نثرا. فلا فضل لنثري على تفعيلي إلا بالتقوى المقصود بها هنا الشعر الحق. وهذا من حيث المبدأ لأن الاعتقاد بأن نثرية القصيدة في ذاتها تعطيها الشرعية اعتقاد متطرف مماثل لتطرف الاعتقاد الذي كان يرى أن مجرد الوزن يعطي للقصيدة شرعيتها، وعلى أية حال أنا لم أنتقل إلى قصيدة النثر لأني بدأتها منذ عام 1974 في قصيدة ‘منديل مريم’ في أول دواويني ‘حبيبتي مزروعة في دماء الأرض’.
* هل كانت تلك قصيدة نثر بالفعل أم قصيدة سبعينية بلا تفعيلة؟
* ما معنى قصيدة سبعينية مكتوبة بلا وزن؟ وهل كان هناك في سنة 1974 ما يمكن تسميته قصيدة سبعينية أصلا؟
* نسميها سبعينية منذ الثمانينيات على الأقل، وعلى كل حال، لا أقصد في مصر تحديدا، في الوطن العربي مثلا.
* على أية حال، لم تكن هذه القصيدة آنذاك مجرد خلو من الوزن، لأنها في زعمي، وفضلا عن اللاوزن، احتوت على بعض الهموم البسيطة لا الكبيرة، كما ابتعدت عن الإيديولوجيا السياسية الساخنة التي كانت في ذلك الوقت تملأ القلب والعين والسماء، كما احتوت على محاولة أولية طبعا لتهشيم الكتلة الشعرية، وابتعدت أخيرا عن مفهوم اللفظ الشعري بذاته، أي وجود لفظ شعري بذاته ولفظ غير شعري بذاته. كل هذا الملامح كانت في صورتها البدائية الأولية لأنني أنا نفسي كنت في بداية تجربتي الشعرية. وهذه البدائية ربما تكون قد تطورت بعد ذلك، مع أنني دائما لا أفضل استبداد شكل بعينه أو انفراده بالشعرية. إذ يقيني هو أن الشعرية يمكن أن تلتمس من مليون باب لا من باب واحد ووحيد. لأن الواحدية نَفْيٌ عانينا منه كثيرا.
* تقصد واحدية الشعراء الذين سبقوكم؟
* نعم أقصد هؤلاء، وأقصد أيضا النقاد السابقين واللاحقين، كما أقصد الذائقة السابقة، أي أقصد كل من رأوا أن للشعر وصفة واحدة لا ينبغي أن نحيد عنها. فهذا الفهم النقدي الشعري يشير إلى مغزى سياسي يكرس الاستبداد ونفي الآخر.
* ربما كان لهذا ما يبرره في وقت سابق، في النصف الأخير من السبعينات مثلا، أما الآن فيبدو لي أن الشعر في خلاء وأنكم وحدكم في مواجهته، فلا أرى وجود سلط نقدية كما في السابق .
* لا شك أن الأوضاع تغيرت قليلا عن ذي قبل حتى صار البعض يتهمنا بأننا غدونا متنا لا هامشا. ولا شك أن هناك قدرا من الرحابة هي ما وصفتَه بالخلاء النقدي. لكن الحقيقة أيضا، هي أن فلولا من تلك الرؤى الواحدية ما تزال سارية، وأن الذائقة العمومية ما تزال متمترسة عند لحظات ومفاهيم سابقة. صحيح أن الفوضى الراهنة والخلاء الراهن يفيداننا ويفيدان الشعر كثيرا، لكنني أحذر من نشوء سلط جديدة وأشفق من أن تكون قصيدة النثر إحدى هذه السلط الجديدة. ولذلك فإن دعوتي إلى التعدد موجهة إلى الجميع، التقليديين وأصحاب قصيدة النثر.
*إلى جانب المجلات التي أسهمت إلى جانب أبناء جيلك في إصدارها، بادرتم أيضا مبكرا للكتابة عن أشعار بعضكم وعن مشهدكم الشعري عموما، ما كتبتموه في هذا الإطار هل تراه نقدا بالمعنى الدقيق، أو كيف تقيم الحركة النقدية التي خلقتموها أنتم الشعراء حول شعركم؟
* لا شك أن أحد دوافع كتابتنا النقدية كان محاولة سد الفراغ النقدي. قمنا بما كان ينبغي أن يقوم به الآخرون من النقاد على الأقل في الفترات الأولى من تجربتنا. حاولنا توصيل رؤانا النقدية والشعرية التي كان من العسير في البداية أن يتفهمها بعض النقاد. وأظن أن من سمات كل دعوة حتى لو كانت إبداعية أن يقدم أصحابها مبادئها وشعاراتها وأسسها الفنية والفكرية والجمالية. لكن بعد ذلك تدخلت أسباب أخرى لتوجهنا إلى النقد، خاصة بعد أن صار بعض النقاد يقومون بعملهم تجاه تجربتنا الشعرية. وعموما نحن لا نعتبر ما نكتبه في النقد نقدا بالمعنى الدقيق، أي بالمعنى المنهجي والأكاديمي. بل هو إيضاحات وتذوقات وإشارات ومفاتيح للعمل. إنه في الأخير كتابة شعراء عن الشعر لا نقاد. ولذا فكتاباتنا النقدية لا تخلو من ذاتية وتبشيرية ووجهات نظر شخصية. أنا على سبيل المثال لا أعتبر نفسي ناقدا ولا أريد أن أكون كذلك. أريد فقط أن أكون شاعرا إن استطعت. ما قدمته من جهد نقدي يدخل في هذا الإطار. لكن بعض زملائي يكتبون بالفعل نقدا منهجيا وأكاديميا وخاصة الدكاترة منهم.
* أصدرت أنت وزملاؤك الشعراء دواوين كثيرة، فخلقتم بذلك حركة شعرية مازالت تستأثر بالنقاش، كما أسهمتم في توسيع الحركة النقدية حول شعركم في الصحف والمجلات، ومع ذلك، أظن أن شعراء الستينات مازالت قصائدهم تحتكر التدريس والتحليل في الجامعات، فإلى أي حد زمني ستنتظرون ليتم الالتـفات الجامعي إليكم؟
* أولا نحن لا ننتظر شيئا. نحن نكتب وحسب، أي نقوم بعملنا فقط. أما الآخرون فينبغي أن يقوموا بعملهم أولا يقوموا به. نحن نكتب ونرضي أنفسنا وأشواقنا الحلمية والجمالية والفكرية بغض النظر عن أي شيء. ومع ذلك فربما يكون ما رصدته أنت عائدا إلى ضعف شعرنا، ليست لدي في ذلك مشكلة، أو عائدا إلى عدم سيولة التواصل الثقافي العربي العربي، أو عائدا إلى موقف من الشعر النثري، أو عائدا إلى تخلف الجامعات العربية. فمنذ متى كانت الجامعات العربية معيارا ودليلا على شيء. تلك الجامعات التي لم تدرس ابن الروندي أو الحلاج، وطردت طه حسين ونصر حامد أبوزيد وقس على ذلك. أريد أن أقول إن تقرير أو عدم تقرير نصوص أدبية في مناهجنا التعليمية العربية الثانوية والجامعية ليس دليلا على شيء. ومع ذلك فأظن أن ملاحظتك غير دقيقة في ما يخص الجامعات المصرية على الأقل. ففي السنوات الأخيرة ثمة دراسات كثيرة للماجستير والدكتوراة عن شعر السبعينات في الجامعات المصرية. كما أن هناك بعض النصوص المقررة في مناهج كليات الآداب. والفكرة الجوهرية هنا، هي أن هناك موقفا سياسيا في الجامعات العربية من الأدب الجديد والمعارض والخادش للاستبداد والعقلية الجمعية وسائر الطابوهات. وربما هناك استثناءات لبعض الشعراء والمبدعين الكبار الذين لسنا منهم.
شرفة ليلى مراد
حلمي سالم
أسمهان
صادفوها
وهى تحمى بأسودها
أبيضها
الذى يجر عليها قذى الشوارع
مأزقها:
أن الانطباعات الأولي
تدوم
كيف إذن ستغني
أسقيه بيدى قهوة؟
نظرية
البكارة
ملك الأبكار
وحدهم
حتى لو كرهوا
نظرية التملك
رومانسية
نقاوم الشجن بعصر ما بعد الصناعة
لكن مشهد عبد الحليم وأخيه
فى حكاية حب،
ينتقم للقتلي
البلياتشو
تعبنا من توالى الامتحانات،
فلماذا لا يصدق الناسُ
أن الأرض واسعة؟
لنعط أنفسنا للمفاجأة،
راضين
مرضيين
البلياتشو جاهز للوظيفة،
حتى لو شك الجميعُ
فى إجادته العمل
الأزبكية
يقسو على نفسه موبخاً: يالطخ، الجميلات لا يصح أن يصعدن السلالم وهن معلقات على ذكرى الأب الذى يظهر خفيفا فى القصص.
ظلت دعوة الشاى مؤجلة حتى ماتت التى فى مقام الأم أثناء حمى الطوائف. وقبل موتها بربع قرن اعتزلت ذمية تياترو الأزبكية ليصير لديها وقت لتناول الينسون كطيف من زمان السلطنة.
لعلنى أنا الذى فى الحديقة، أمزج الشحاذة بالغرام، مصطنعا الاعرجاج فى ساقى، والعكاز تحت الإبط، فهل أنت الواقفة فى شرفة ليلى مراد؟
طائرات
البيوت تأكلها الرطوبة،
لذلك يطلقون الطائرات الورقية
على السطوح،
ليثبَّتوا بها المنازل على الأرض
حراسة
ليس من حل أمامي
سوى أن استدعى اللهَ والأنبياءَ
ليشاركونى فى حراسة الجثة
فقد تخوننى شهوتي
أو يخذلنى النقص
طاغور
تنام متخففة من شدادة الصدر،
وعندما تصحو فى مواجهة السقف،
تلوذ بغوايش طاغور
فرقة الإنشاد،
تشنجات حلقة الذكر
تقبيل يد القطب،
هذا هو تأصيل الرغبة
تهكم الجراحون على أهل العواطف،
وعيناك ترفضان النصيحة
بسبب المنام رأتا فيه
البلطة تتدلى مكان الفلورسنت
الأندلس
أنت خائفة،
وعماد أبو صالح خائف،
والطفلة التى اتخذها النذل
ذريعة للنجاج
خائفة
يارب أعطهم الأمان
لم يتحدث أحد عن الأندلس
كل ما جري
أنك نظرتِ فى المرآة
فوق:
رمزية الترمس،
وسماء تحتَكُّ برهة بنهدين،
ثم تلتف حول نفسها مسطولة
فوق:
ونحن معلقان فى الفراغ
كان لابد أن تقال كلمة مشبوهة
قبل أن تضمحل الدول
الأحرار
الرب ليس شرطيا
حتى يمسك الجناة من قفاهم،
إنما هو قروى يزغط البط،
ويجس ضرع البقرة بأصابعه صائحا:
وافر هذا اللبن
الجناة أحرار لأنهم امتحاننا
الذى يضعه الرب آخر كلّ فصلٍ
قبل أن يؤلف سورة البقرة
الطائر
الرب ليس عسكرى مرور
ان هو إلا طائر،
وعلى كل واحد منا تجهيز العنق
لماذا تعتبين عليه رفرفته فوق الرءوس؟
هل تريدين منه
أن يمشى بعصاه
فى شارع زكريا أحمد
ينظم السير
ويعذب المرسيدس؟
المرأة التي تعرّتْ أمام مجلس الوزراء
…
هذي غيبوبةُ شطحٍ صوفي:
حين انجرَّ الجسدُ علي الأسفلتِ
رأيتُ أبي
يطوي السجادةَ بعد صلاة الفجرِ،
ويختتم الوِرْدَ علي الدمعِ.
وحين هوتْ هرّاواتُ فوق الرأسِ
رأيتُ أبا العباسِ المرسِي
يسير بغير النعّل علي جمرِ،
ويطير علي أضرحةٍ
فيما الأضرحةُ تحفُّ بموجٍ يجري
خلف الموجِ،
علي كل ضريح
فَرَسُ نبي يركض جنبَ اللورّياتِ.
وهذي غيبوبةُ شطحٍ صوفي:
لما هَوَت الأحذيةُ علي نهدي
تبسَّمَ شبحٌ وهو يحدّثني:
نادي الحلاّجَ لينقذَكِ ولن ينقذَكِ الحلاجُ،
ونادِي المعتصمَ لينجيكِ ولن ينجيكِ المعتصمُ،
ونادي التوحيدي فلن يسمعكِ التوحيدي
لأنا سوفَ نصيرُ هذا الجسدَ الفائرَ
درساً في سوء الحظِ.
أما قلنا: قَرّي في البيتِ؟
أما قلنا: عِطرُكِ معصيةٌ،
وحبالُ الحنجرة ينابيعُ الإثمِ؟
أما قلنا: الأدني أدني؟
هذي غيبوبةُ شطحٍٍ سطح صوفي،
حين انتزع العسكرُ ثوبي
شفتُ الخِضْرَ يطوف علي الشهداء
بخبزِ الرحمنِ،
وشفتُ حُماةَ العِرْض يجرِّسهم جرحُ الطفلِ،
وشفتُ القار علي كابِ العُقداء،
فقال دراويشُ الحَضْرةِ:
لستِ تبيتينَ علي ضَيمٍ.
هذه غيبوبةُ شطحٍ صوفي:
راياتٌ فوق مآذنَ ، ومريدونَ،
وموءوداتٌ، جُبَّةُ مصلوبينَ،
الحُورُ العينُ، رجالٌ قوّامونَ علي النسوةِ،
ويماماتٌ خضراءُ.
انزاحتْ غُمَّةُ شوْفٍ،
وانكشفَ حجاتُ،
فرأيتُ البلدَ الآمنَ:
مَسْخرَةً.
صائد العيون
علّمني كهّاني أن أتخصص في البؤبؤ.
… فالبؤبؤ جوهرة المرء،
كما أن التصويب عليه بحرفنة
برهانُ الموهبة الربانية،
أوسلمة ترق في درجات الرضوان.
أنا القرنيات هيامي،
لا الصدر ولا البطن ولا الرأس
تهيّج لذة فوهتي والناشنكاه،
فقد دربتُ الماسورة في ليل الكهان
علي شهوة أن تسكن ورداتي
بين الرمش وبين الرمش.
أنا أكره كل عيون بني آدم،
فعيون المرء هي البوابات،
هي الكشّافة لسواد النفس السوداء،
هي الفضّاحة للبطش.
بليل يهجم ماضي الموغل فيّ عليّ:
عيون فقير هزمتني
حين تجبّرتُ بجاه الأهل،
وكنت أظن الجاه يكسره ويرممني،
نظرات فتاة القرية سخرت مني،
حين زهوت بنجمات تلألأ في كتفيّ،
وأعطت فلتها للنسّاج المتقشّف،
حين ظننتُ النجمات تستّف طبقات
فوق الطبقات،
عيون الفتية في الميدان
تشظّت تحقيرا لخطاي،
إذا خطوي خرق الأرض،
وكنتُ تشرّبت سلافة: نحن الأعلون.
أنا أدّبني الشيخ
علي أن التنشين صبابات،
وعلي أن السكني بين الجفن وبين الجفن
هي الأدفأ،
حين يصير سواد الدنيا موعظة.
كان الدرسُ يقول:
الهدفُ هو الحلمُ النابضُ بين الهدبين،
فركّزْ في الخيط الواصل بين الفوّهة وبين
النظرات،
فذاك دليلُ التربية العليا.
كنتُ المتميز والمائز والممتاز:
فكلّ مراسيلي كانت إعلانا لرهافة حسّ
ومؤشر عافية لفؤادي،
فإذا نزّتْ عين الفتيان نضارتها
انفكّتْ عُقد في قاعي،
وإذا وضعتْ فوق عيون الشبّان ضمادات
بردتْ ناري،
وإذا غربتْ شمس تحت الحاجب،
أحسستٌ بتاج يعلو رأسي.
أنا قدمي أعلي من هامات الدهماء،
وسوف يهندم ربُّ العائلة
وشاح الفخر علي صدري،
ويلقبّني في الحفل:
القنّاص الأمثل،
وسيهديني الجنرالات ثلاث جوائز:
جمجمجة،
أكفانا،
أطباق عيون مفقوءة.