صفحات الثقافة

رح هاجر يا أستاذ… يلّا خلّيه يركب!/ سليمان حنيف

 

 

حلمٌ ضاعف نموّه في داخلي، مرور الأيام وتراكم الإهانات. كان حلمي الأول منذ نعومة أظفاري. ففي السنة الدراسية الثالثة وبعدما أهانني مدير المدرسة وعاقبني بالضرب أمام جميع التلامذة، صرختُ في وجهه: “رح هاجر يا أستاذ ورح اتركلك هالمدرسة وهالعصاي وكل البلد كمان”. أتذكر دائماً ذلك اليوم الذي أوقفني فيه ضابط شرطة في أحد شوارع مدينة جبلة، وسألني عن هويتي الشخصية، فجاوبته بأني نسيتها في البيت، فبصق في وجهي قائلاً: “يا عرصه، ليش ما بتنسى لغتك كمان بشي يوم؟”. عاهدت نفسي على أن أهاجر حتى لو كنت جثة هامدة بعدما تعرضت لشتى أنواع العذاب في بلدي، وهكذا كانت حال جميع الذين ضاقت بهم السبل في تلك الفترة الزمنية.

معظم الشباب كانوا يحلمون بالخلاص واللجوء إلى دول الحريات. إلى أن جاء ذلك اليوم، الذي لم نكن نتخيله هكذا، بعد خمس سنوات من الصراعات الدائمة مع الجوع والحرب والفقر. خرجنا رغماً عن أنوفنا، واقفين أمام خيارين؛ أولهما أن نموت، والثاني أن نموت أيضاً. هذا التفريغ طال سوريا، وبالتحديد مناطق الشمال السوري التي تشمل مدينة كوباني التي تعرضت لفاجعتين متتاليتين أدتا إلى فقدان الأمن والأمان وارتعاب الأهالي من مدينتهم، الأمر الذي جعلهم يشكّلون الآن أكثرية المهاجرين.

إنه طريق الموت. مئتا شخص يركضون نحو قارب مطاطي على أحد الشواطئ التركية، يتغزلون بشخصية المهرب ويعطونه المال ويمدحونه فقط من أجل سماع “يلّا خلّيه يركب”. تمضي مع عدد هائل من الأطفال والعائلات وحتى مع الطاعنين في السن فارّين من الموت في رحلة موت، لنحصل على الأمان فقط؛ الأمان الذي يعتبر حقنا الطبيعي. يقطع حشود المهاجرين اليونان ومقدونيا وصربيا، بعضهم خلف بعض كالنمل، ثم يصلون إلى حدود المجر، هناك حيث يتجمعون كيوم الحشر نائمين في الحدائق وعلى الأرصفة وفي كل مكان يسمح للواحد بأن يمد قدميه مسافة متر. حينما تصل إلى مبتغاك في الدولة التي لطالما حلمتَ بها طوال حياتك، يسألونك بكل تبجح “لماذا تطلب اللجوء؟”، فيأتي جواب الجميع “لأن الحرب قائمة في وطني، وليست هناك فرصة للحياة”، فيما أنا كنت أريد أن أصل إلى تلك اللحظة لأصرخ في وجوههم “لقد افتعلتم حرباً في بلدي لتصفّوا نزاعاتكم على أرضنا، مما أجبرني على الهرب إلى أحضانكم”.

الآن باتت الهجرة التي كان يحلم بها معظم الشباب السوري تتقسم ثلاث مجموعات؛ الأولى هاجر أفرادها الذين يقولون للبقية أن يأتوا، ويشكرون الدول الأوروبية على الاستقبال. أفراد المجموعة الثانية هاجروا واستقبلتهم الدول الأوروبية لكنها نكلوا بتلك الدول ودعوا الشباب إلى عدم السير على خطاهم. أما الثالثة فتشمل أولئك الذين رفضوا الهجرة والذين لا يملكون المبالغ لمواكبة القافلة. هؤلاء يتهمون المهاجرين بأنهم خونة لوطنهم وبأن عليهم الرجوع الى الوطن، مع العلم ان غالبيتهم لا يقيمون في ربوع الوطن بل هم مشتتون بين العراق وتركيا.

بشكل عام تحولت الهجرة من حلم إلى كابوس. بالأحرى تحولت الى طريق للموت، الناجي منه فائز بالجنة كما يحلم.

شاعر كردي سوري

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى