رسائل القاضي
عباس بيضون
قبل 85 عاماً كتب وكيل النيابة المصري محمد نور مطالعته القانونية حول كتاب طه حسين في الشعر الجاهلي وخلاصتها أن طه حسين إذا كان خالف الدين في شيء فليس بغرض البحث في الدين أو الطعن عليه وإنما كان على طريق غرض آخر ليس من الدين في شيء. مطالعة القاضي أحمد سميح الريحاني في الدعوى المقامة على عادل إمام وسواه في أفلام تصدت للجماعة الإسلامية وانتهت باعتبار الدعوى لاغية لا تستند فقط إلى حجة محمد نور ولكنها تتبحر في البحث من خلال الدين نفسه، بدءاً من النصوص المقدمة مروراً بعصر الخلفاء انتهاء بالفقهاء والأئمة من أول الإسلام حتى أيامنا هذه. يمكننا ان نعتبر المطالعة لذلك سعياً إلى نظرية إسلامية حول الموضوع، وإذا كان الأمر كذلك فإن مطالعة الريحاني المحكمة في مرجعياتها الاسلامية تصلح أن تكون مراجعة راهنة للفكر الاسلامي حول قضايا معاصرة، وهي بذلك تأسيس لرؤية جديدة بقدر ما هي مبنية على قاعدة عميقة في التراث. وإذ لا تنكر المطالعة ضرورة تكييف العقيدة لمقتضيات الساعة، فإنها تؤشر إلى اتجاه اصلاحي يقيم موازنة بين الأساس العقيدي والتحديات الراهنة. يمكننا هكذا ان نستشف من مطالعة أحمد سميح الريحاني القانونية عناصر أولى في قراءة جديدة وإصلاحية للنص الديني نفسه.
يسعى أحمد سميح الريحاني إلى أن يميز بين المقدس وغير المقدس في الدين وإذا كان المقدس في الدين كتبه وشعائره أما ما هو دون ذلك من أشخاص يحفل بهم التاريخ والتراث فهم «بشر مثلنا» يصح أن نتفق أو لا نتفق معهم فليست لهم حصانة الدين وليس مقبولا المزج بين النص وقراءات الاشخاص وفهمهم له، وليس مسموحاً ان نحيط قراءة ما بالقداسة وان نختزل الدين فيها. علينا لذلك ان نميز بين الدين والفكر الديني وان لا نماهي بينهما وأن لا نسقط على الثاني القداسة التي نسبغها على الأول، اما ادعاء القداسة لفكر دون سواه ولقراءة وفهم دون غيرهما فهذا بلغة الريحاني. «إن محاولة صهر الناس في بوتقة عقائدية أو سياسية واحدة من قبل الدولة او من قبل جماعة أشبه بالحرث في البحر أو القبض على الماء لأن الله جعلنا أمما وقبائل لنتعارف».
إذن لا يمكننا أن نختزل الدين في رأي شخص أو جماعة وأن ندعي لشخص أو جماعة القداسة التي للدين وحده في كتبه وشعائره. إذا كان هذا يناقض مبدأ الحرية وحقوق الإنسان «فليس صحيحا، كما يقول الريحاني القول ان مبادئ وأفكار حقوق الإنسان هي نتاج للفكر الليبرالي الغربي وأن في ذلك ما يتناقض ومفاهيم ومصالح المجتمعات في الدول التي تدين غالبيتها بالاسلام». ففي القرآن الكريم «لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر «البقرة» وفيه ايضا «وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر» ذلك يعني حق المرء في ان ينتقد تياراً دينياً ولا «يقدح في ذلك القول بأن هناك عقابا بالشريعة للمرتد عن دين الاسلام» «ففي مسألة الرده وهي الكفر بعد الاسلام» يستشهد القاضي بقوله تعالى «أن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم إزدادوا كفراً لم يكن الله ليغفر لهم ولا يهديهم سبيلا» «النساء». وهو ما مفاده أن لا سلطان على حرية العقيدة ولا عقاب دنيوي على الردة. «فلو كانت جريمة الكفر هي القتل فإن في هذا غلق الباب أمام امكانية العودة إلى الإيمان» وقد قرر «الأزهر» ان الاستتابة للمرتد ليست محدودة بمدة وانه قد يستتاب مدى الحياة، ما دام لم يحاول بردته نشر الفساد في المجتمع» اما الاحتجاج بالحديث «من غير دينه فاقتلوه» فإنه حديث آحاد وفي ذلك قال الشيخ شلتوت شيخ الأزهر حينذاك «ان قتل المرتد ليس حدا فإن الحدود لا تبين في حديث الآحاد» علينا اذن بحسب الريحاني ان نميز بين ما هو من الفكر وما هو من الدين فالذين لا يفرقون يختزلون الدين» إلى رؤيتهم الخاصة ولو عليها اجماع، إذ ان الاجماع ما هو الا رأي».
اما التهم التي ادعيت على عادل امام وسواه في افلام ومسرح فهي استخدام لحن انشوده «اسماء الله الحسنى» على كلمات أخرى، وتقليد الشيخ شعراوي، والتطاول على الذات الالهية كما في عبارة «كيف ارشي الله». قوله «إحنا طلعنا الفضا ولسّة فيه ناس تقول ندخل الحمام بالرجل اليمين ولا بالرجل الشمال». تجاه هذه التهم يعمد الريحاني إلى مناقشتها وردها واحدة تلو الأخرى. اما أنشودة أسماء الله الحسنى فإنها لحن و«اللحن الموسيقي، بصفته عملا فنياً، من صنع البشر، فهو أمر ليس من الدين في شيء». وكان ذلك «لخدمة العمل الدرامي في بيان ان شخصية الزعيم أضفت على نفسها قداسة الصفات الإلهية، وهو وصف لكل فرعون اعتبر مصر وخيراتها له هو» اما تقليد الشيخ شعراوي فإن «من الخطأ الفادح إضفاء صفة القداسة الدينية على رجال الدين او على فكره. ثم ان ما توصل إليه المدعى من كون المشار إليه في هذا المشهد هو الشيخ شعراوي هو «تأويل المدعي الخاص واجتهاده الشخصي»، اما الدخول بالرجل اليمين فإن الريحاني بعد مراجعة فقهية طويلة ينتهي إلى ان ذلك، لم يثبت بحديث ولا كان من السنن المؤكدة». اما الشق الثاني من الدعوى وهو تحقير المسلمين عموماً والجماعات الاسلامية وجماعة الإخوان المسلمين بصفة خاصة فإن رد الريحاني عليه هو اننا لا نستطيع ان نفسر «نص المشرع بأنه إسباغ الحماية القانونية على جماعة دينية «فهذه الجماعة» أي الاخوان المسلمون طرف في المنظومة السياسية للبلاد بإنشائها أحزاباً سياسية اشتركت بالفعل في الصراع السياسي وبالتالي فإن القول بإسباغ الحماية عليهم من منطلق ارتدائهم الزي الموصوف بالاسلامي خرق لمبدأ المساواة بين الأحزاب السياسية باعطائهم ميزة فوق الأحزاب غير الدينية».
نص الريحاني او مطالعته القانونية تصح ان تكون في مجملها وثيقة من وثائق الاصلاح الديني، بل هي هي ترينا ان هذا الاصلاح يملك حقا تراثا وربما، في المقابل: يملك موقعا ومكانا بين النخب الاسلامية فهو لا يقتصر على اسماء جليلة مثل الامامين محمد عبده والسيد الافغاني بل يستمر ويتصل في أحفادهما. ننتظر منه ان يغدو تياراً فاعلاً وأن يغدو قوة ضغط على المؤسسات والجمهور، وان يخرج إلى إسلام لا يعادي العصر ولا الديموقراطية ولا حقوق الإنسان. مطالعة الريحاني هي بدون شك محاولة في هذا السبيل وهي كما نشرتها «أخبار الأدب» بيان فعلي ومتكامل لإصلاح عمدته الاولى التمييز بين المقدس وغير المقدس، فضلا عن ضرورة قراءة النص انطلاقا من حاجات الراهن ومسائله، والتمييز بين الظرفي والثابت في النص الديني نفسه، هذه في مجموعها تؤسس لقراءة متماسكة وجديدة هي مع ذلك لا تحيد عن التراث الديني ولا عن نصه.
السفير