رسالة أحد شهود القيامة
فواز قادري
“أخيراً تخرّ المعجزات صاغرة
أخيراً يرفع المسحيل يديه مستسلما
أخيراّ نغادر خوفنا ونطرد موتنا.. لنلتحق بقافلة الحياة
رغم كل كل ما نسمع وما نرى
رغم خوفنا الذي توارى خلف سواتر الحارات المقامة على عجل
والسهرعلى ألا تطال المجنزرات أحلام أطفالنا
رغم الطلاق البائن بين جفوننا والنوم رغم أصوات الطلقات العمياء
لازلنا نطلق النكات ونبتسم
ونصر على ألا نلتفت لصرخات موت يدق الأبواب في كل لحظة
نتجول في الحواري، نتفقد ما تبقى من الأصدقاء ونعزي أهل من سبقنا بانتظار
دورنا الذي قد تختصره رصاصة عمياء
لكننا وإن متنا فبأعين أكثر اتساعاّ كي نغمضها على فجر يوغل في دلاله ..
“وصدور عارية تشهد انها كانت أقوى من كل الرصاص
أيام من قيامة الدم السوري
إلى: خضر، معن، مراد، نذير، عبود، رفيق، عمّار، ربيع، غرز، جمال، أحمد، رافع، بشير، إسماعيل، إسلام عبد العزيز، يحيى، سعاد”
( كونوا شهوداً على القيامة)
يوم
دفعنا مهرك يا عروس
حنجرة إبراهيم قاشوش
وزهرة حمزة الخطيب الخالقة
آلاف الارواح التي طيّرت حمائمها
من أجل ضحكة طفل آمن
دفعنا مهرك
كما يليق بشعب عاشق
للسنابل الصفر
والأكفّ المحنّاة والجدائل
والعتابا ومواويل الشجن
دفعنا حصّتنا من الطفولة
والنساء والفتية والشيوخ
عدّاَ ونقداّ
أسلمنا أهلك النفائس
على هوادج أعراس دمنا
دفعنا ما هو أثمن من” النوق العصافير”
وأغلى من شرف القبائل
ومن عزّة الملوك
وقلنا للحادي: غنِّ
ياحادي الأرواح
كما غنّى إبراهيم
لقمر قوافل الشهداء
في ليل بلاد
حاصرها قطّاع طرق الحريّة.
يوم آخر
الجبيلة متراس ذاكرتي الوردي
مقاليعها الحجريّة
أرواح عزلاء تقاوم
مدجّجة بالأغاني والهتاف
خلع أطفالها مراييلهم المدرسيّة
عند متراسها الأول
وعند متراسها الثاني
مرّنوا حناجرهم النظيفة على الغضب
وعند متراسها الثالث
مرّغ فتيتها
اسم القائد الأوحد
بالعار والتراب.
الدير أمّي التي لم تنم
وهذا الطفل الهاتف صديقي
وذاك الفتى الشامخ كالصرخة.
في الدير ظلّ لخطواتي القديمة
وبيت شعر عالي الجداران
وهناك عصفور طفولتي
جريح الجناحين
يتقافز
نحو سماء يراها
في الدير تعلو متاريس الشهداء
وتعلو هامات النسوة والشيوخ
ويعلو اسم سوريّة
نجمة مخضّبة بالحرّية.
يوم آخر
يوم آخر
هذا الطفل المحمول على الأكتاف
ينظر من ثقب في الحياة
إلى أصدقاء يمشون في الجنازة
تمشي أحجار الحارة
الأشجار الطيور الكلاب
تمشي البيوت خلفه
الجدران الأسطح وباحة المدرسة
ويمشي الله حزينا ومنكسراَ
تمشي السموات، الأنهار
يمشي السحاب الأبيض.
الأرض وحدها واقفة
تنتظر أن يأوي إليها
هذا الملاك المرتعش من الوِحدة.
يوم آخرُ
يضع شهيد يده على جرح شهيد
تختلط دماؤهم في الخلايا
دم يشبه دماَ
دمعة مثل أختها
مدن تدنو من بعضها
خطوة إلى شرق الشمال
خطوة إلى الجنوب
وخطوة إلى الوسط
هل اسم هذه المدينة البوكمال؟
هل اسمها حمص؟
أم سوريّة التي تلملم بناتها من الردى؟
أمكنة مثخنة بالموت والأغاني.
أعانك قلبي سوريّة
جرح في الخاصرة
جرح في اليدين وفي القلب
جرح في الينابيع والأمطار
مسافاتك تنكمش وتتداخل
وشهداؤك أرحب من قصيدة في دفتر.
يوم آخر
في حي الجورة
دم بأصابع ويدين وفم يصرخ
دم لا يغسله كلّ مائك يا فرات
دم نافر من الأرواح والعروق
في الجورة
قال: الفتية للمجنزرات قفي
دمنا حرّ صاف
وأنتِ حشرة عمياء
صريركِ يستفزّ شهداءنا النائمين
في حديقة الجامع المجاورة.
هي الدير إذاً
عصا في وجه مجنزرة
مقلاع حجريّ
يشجّ هيبة الفولاذ
صدر فتى
من لحم ودم وأضلاع
مشرع كنافذة بحريّة في عاصفة
الرصاص معدنيّ
ولا أحاسيس له
والأحياء الشعبيّة الكادحة
تفيق على الحريّة صباحاً
وفي المساء والليل
تسهرخلف متاريسها كالعشّاق
متاريس من كراكيب
وأحجار ساقطة من بيت قديم.
يا آلهة هذه الخرافة
يا آلهة الطين والميازيب المطريّة القديمة
يا آلهة جوع واقف على قدميه
باركي إنسانك المولود
في صيف ” الدير ” اللاهب
باركي أقدامه ويديه
واشهدي..اشهدي
كيف له ستسجد المعجزات.