صفحات الرأي

رسالة إلى صديق غير قلق/ رشيد بوطيب

 

 

نعيش في المدينة نفسها، ومع ذلك فإنني أجزم بأننا نعيش في زمنين مختلفين. لا أريد أن أتهمك بالماضوية، فنحن أبناء سياقتنا الثقافية والاجتماعية والسياسية، سواء أردنا الاعتراف بذلك أم لم نرد. بل إن الأسئلة التي تعذبنا والأسماء التي تلهج بها ألسنتنا هي بنت سياقنا الثقافي. إن الاستبداد يصنع ثقافته ومدارسه وأوهامه.

إنه نسق متكامل، يبدو الخروج عليه أكثر من مستحيل، خصوصاً إذا اتخذ هذا الاستبداد لبوس الدين، لتتحول السلطة فيه إلى عقيدة والحاكم إلى أب. لا أريد من خلال هذا إلاّ أن أحذر من كل سلطة تدعي الأبوية أو تتحول إلى سلطة أبوية، لأن مثل هذه السلطة لن تترك مكاناً للأبناء، كما أنها سلطة تتشدق بالدين وفي الآن نفسه تزيف روحه. فالإسلام قام ضد سلطة الآباء، أو على الأقل يمكننا أن نفهمه أيضاً كدين يؤسس لليتم وليس للأصل، عكس الأرثوذكسية السنية التي تؤسس لـ «الغيرة» بالمفهوم الذي يستعمله يان آسمان، والتي تطلب التضحية بالأبناء، ولا تمثل إلا تأسيساً لأخلاق الارتكاس.

فلا حرية ولا ثقافة ولا إنسانية حيث يسود الأب، بل لا وجود للدين. لأن الأب تزييف لصورة الإله. إن أخلاق الحرية أخلاق يتيمة ولا يمكن البتة استنباطها من أصل، بل لا يمكننا أن نبدعها إلا في خروجنا على الأيديولوجيا وانفتاحنا على اليومي. أو كما يقول نيتشه: «لا أحد بإمكانه أن يشيد مكانك الجسور والقناطر التي يجب عليك عبورها».

إن ثقافتنا التقليدية تؤبد العقلية المستمعة، عقلية الطاعة والنفاق. يعيش العربي حياته كلها مستمعاً، يستعمل أذنه أكثر مما يستعمل حواسه الأخرى. إنه المستمع الأبدي، أو هو حيوان مستمع بامتياز. وحتى في ثرثرته وصراخه لا يقول شيئاً بل يردد ما قاله الآخرون. نسخة مزيفة عن الإنسان. إن ثقافة الأب هي ثقافة سماع، لأنها تفرض على الأبناء الصمت والاستماع، وبلغة أخرى تفعل بهم ولا تتركهم يفعلون. تحول العقل إلى تذكر وتجرّم النسيان، هذه الفاعلية التحررية بامتياز. ولهذا لا أبالغ إذا وصفتها بالأيديولوجيا، لأنها تؤسس للإتباع ولعقلية الأتباع وما تتصف به هذه العقلية من ضغينة وجبن وذلة.

إن حفرياتٍ لليومي كفيلة بأن تكشف الغطاء عن اشتغال هذه الثقافة واختراقها للأجساد والأرواح واللغة، إننا نتكلم لغة لا تتكلم لأنها بنت السماع وليس الإنجاز ونسكن جسداً لا جسد له، تتعطل حواسه وتحارب بعضها بعضاً. إن العين تعمل ضد السمع واللسان ضد الأنف. إنني أعطل عمل الأنف، إنني أزيّف! ولربما نحتاج إلى إعادة الاعتبار لحاسة الشم لدينا، حتى ندرك أخيراً أننا نعيش بين جثت وليس بين أفكار وأن ما نتنفسه ليس بأوكسجين.

إن الفلسفة الغربية وعبر تاريخها الطويل لم تهتم بالأنف، بل نظرت إليه باحتقار، ولربما ارتبط ذلك باحتقارها لذلك العقل الكبير الذي هو الجسد كما يسميه نيتشه، ولا عجب أن يكون روائيون واقعيون ورسامون من اكتشفوا الفعالية النقدية واليومية للأنف. إن الأنف يحشرنا في الحياة، إن فضوله يسبقه. وقد يحشرنا أيضاً في مصيبة لا أول لها ولا آخر!

تقوم ثقافة الاستبداد على ترويض الحواس والغرائز، خصوصاً حاسة الشم لدينا. إنها تحول الأنف إلى صندوق للروائح الكريهة وتعطل من ثم فاعليته المتقززة. كان نيتشه يردد: «عبقريتي تكمن في أنفي، إنني أشم الآفات»، وظل يحذر من ثقافة تفرخ أتباعاً وليس أفكاراً. إنه يحذرنا من ثقافة تسرق منا الرغبة في الحياة. وعلى رغم أن الحياة التي ننشدها ليست بالضرورة تلك التي حلم بها هرطوقي كبير شمّ كل شيء ولم يستطع شم جنونه وتأثيره في عصره، إلا أننا نحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى لحشد حاسة الشم لدينا حتى لا نخطئ الروائح الكريهة التي تنبعث من جثة عصر لم يعد لنا، حتى نلتحم أكثر بواقعنا، حتى نأنف منه. فأركيولوجي اليومي شمّام من طراز رفيع، لا تغريه العطور الرخيصة والكلمات المنمقة، ليس اتباعياً، فهو يمتلك أنفاً نقدياً ومراوغاً، يشم ليتقزز ويفضح، إنني أشم الآفات والجثت، إنني أقاوم. إن التفكير الحقيقي، إذا صح هذا النعت، هو دائماً تفكير يتيم أو تفكير أنفي. فالآباء لا يشمّون روائحهم الكريهة!

* كاتب مغربي

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى